«التفاصيل الشيطانية» ليست بتفاصيل
فواز طرابلسي
مهما تكن الإعلانات الرسمية عن الجولة الثانية من المفاوضات الإسرائيلية ـ الفلسطينية المباشرة التي انعقدت في شرم الشيخ وتستأنف في القدس، إلا أنها لا بد أن تضطر إلى معالجة موضوع تمديد فترة التجميد الجزئي للبناء الاستيطاني في الضفة الغربية والقدس الشرقية وهي المهلة المفروض أن تنتهي يوم 26 من أيلول الجاري.
يجري التفاوض تحت وطأة الابتزاز الإسرائيلي بوجود مشاريع جاهزة لبناء لا أقل من 13 ألف وحدة سكنية لا تنتظر إلا إشارة البدء بالعمل، تعززها إعلانات من معظم ممثلي الأحزاب الرئيسية برفض الاستمرار في التجميد. في المقابل كرّر رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية محمود عباس التلويح بالانسحاب من المفاوضات في حال لم يمدّد التجميد. الموقف الأميركي واضح في غموضه. اختار الرئيس أوباما عباراته بدقة عندما قال إنه نظراً للإيجابية التي اتسمت بها المفاوضات «فمن المعقول أن يجري تمديد التجميد». ومع أن السيدة كلينتون، التي ترعى التفاوض، كرّرت القول، إلا أنها تركت الأمر للبت بين الرئيسين المتفاوضين.
لا يريد أي من الفريقين أن يبدو أنه قد خرّب المفاوضات. فلا عباس يستطيع الانسحاب بسهولة ولا نتنياهو يستطيع استئناف البناء الاستيطاني كما لو أن شيئاً لم يكن. يبقى على السيدة كلينتون أن تجد تسوية بين حدي التجميد الكامل والاستئناف غير المقيّد. ومعروف هنا أن رئيس الوزراء الإسرائيلي قد عرض على وزارته المصغرة صيغة قد يعرضها في شرم الشيخ تسير على خطى سياسة سلفه إيهود أولمرت وتعتمد البناء المقيّد والمراقب في الكتل الاستيطانية الكبرى والقدس الشرقية.
مهما يكن، تكاثرت في هذه المفاوضات وفي مقدمات الجولة الثانية تفاصيل غطى عليها السجال حول تجميد الاستيطان. يقول المثل عند البحث في العقود والاتفاقات إن «الشيطان كامن في التفاصيل». ولعل الكشف عنها والتعليق عليها يضيء جوانب رمادية، إن لم نقل معتمة، من طبيعة هذه المفاوضات ومساراتها.
÷ التفصيل الأول: عدم التكافؤ بين شروط الطرفين. كما في كثير من عمليات التفاوض في النزاع العربي ـ الإسرائيلي، يبدأ الأمر برفض الطرفين المتفاوضين أي شروط مسبقة قبل أن يعلن كل طرف شروطه، المسبقة منها وغير المسبقة. وهذا الخلط بين شروط مسبقة وشروط غير مسبقة هو خلط تجري محاولة فك عقده من خلال ما يسمى عملية «تحديد إطار». علماً أن بنيامين نتنياهو يعد بإنجاز «تحديد الإطار» في غضون سنة.
مهما يكن، يطرح رئيس الوزراء الإسرائيلي، ويكرّر شرطيه: الاعتراف الفلسطيني بيهودية الدولة وأولوية بحث الأمن.
في المقابل، يرفض رئيس السلطة الفلسطينية الشرط المتعلق بيهودية الدولة ويعطي الأولوية لتحديد حدود الدولة الفلسطينية، مهدداً بالانسحاب من المفاوضات في حال عدم تمديد قرار تجميد بناء المستوطنات في الضفة الغربية.
ثمة اختلال فاضح بين الشرطين. فالاعتراف الفلسطيني بيهودية الدولة عنوان من عناوين الحل النهائي. بل قد يكون خاتمة الحل النهائي. لأنه لا يكرّس إسرائيل بما هي دولة جميع اليهود في العالم (بموجب قانون العودة الإسرائيلي) وإنما يتنازل نهائياً عن حق العودة الفلسطيني. في مقابل هذا الشرط «النهائي»، يصعب تصنيف شرطي تمديد قرار تجميد الاستيطان وأولوية تحديد حدود الدولة الفلسطينية العتيدة على أنهما ينتميان إلى جدول أعمال الحل النهائي.
وتجدر هنا الإضافة إلى أي مدى يذكّر هذا الاختلال في الشروط بالاختلال الأصلي في الاعترافات المتبادلة في اتفاق أوسلو الأصلي، حيث اعترفت منظمة التحرير الفلسطينية «بحق دولة إسرائيل في الوجود بأمن وسلام» في حين اكتفت إسرائيل بالاعتراف بـ«منظمة التحرير الفلسطينية ممثلاً للشعب الفلسطيني». بل يمكننا القول بثقة إن مقدمات الاختلال في هذه الجولة الثانية من المفاوضات الحالية تأسست على الاختلال الأصلي في اعترافات اتفاق أوسلو ذاته.
÷ التفصيل الثاني يتعلق بموضوعة «الأمن». وما يفقأ العيون هنا هو مدى تدجين المفاوض الفلسطيني، والعربي معه، على القبول بتعريف لـ«السلام» بما يكاد أن يختزل بالمسؤولية الفلسطينية والعربية عن حفظ أمن إسرائيل ومن غير مقابل.
لا بد من الاستطراد هنا من قبيل الإنصاف بالقول إن المفاوض الفلسطيني إذ يقابل الأولوية الأمنية بأولوية تعيين حدود الدولة الفلسطينية يثير السؤال المحرّم: ما هي حدود دولة إسرائيل المطلوب حماية أمنها؟ فيكشف لا فقط أن إسرائيل هي الدولة الوحيدة في العالم التي لا حدود لها… بل أنها نجحت في أن تفرض على العالم أن لا حدود لها بمعنيين: حريتها في الاحتلال والتوسع الاستيطاني بلا حدود، و«حقها» في شن الحروب والأعمال العسكرية والاغتيالات في أي بقعة في العالم باسم «حفظ أمن إسرائيل».
في القبول بأحادية الأمن تكمن هشاشة التكتيكات التفاوضية للسلطة الفلسطينية. ولن نتحدث إلا عن التكتيك التفاوضي. تسارع أجهزة الأمن التابعة للسلطة إلى اعتقال ناشطين لحركة «حماس» في الضفة الغربية بتهمة «تهديد أمن إسرائيل». ولكن السلطة لا تشترط أي شرط أمني في المقابل ولا تطالب الحكومة الإسرائيلية بأي إجراء يتعلق بالأمن الفلسطيني، لا بفك الحصار على غزة ولا بوقف العمليات العسكرية الإسرائيلية المستمرة على شعبها (وقد أدى القصف الإسرائيلي إلى مقتل ثلاثة مدنيين في غزة والمفاوضات جارية براعيتها السيدة كلينتون) بل نادراً ما ارتفعت أصوات في الفترة الأخيرة تضع موضوع الإفراج عن جيوش المعتقلين والسجناء الفلسطينيين من السجون الإسرائيلية كشرط من شروط التفاوض أو كبند على جدول أعماله. فكأنما انفصال الأمر الواقع بين الضفة وغزة تعدى الاقتصاد والسياسة ليشمل الأمن والاعتبارات محض الإنسانية! (علماً بأن الأسرى ليسوا، بأكثريتهم من حماس، أو من غزة..).
÷ التفصيل الثالث: المستوطنات. عشية انعقاد الجولة الثانية، أعلن مسؤول فلسطيني أن السلطة الفلسطينية عازمة على وقف العمالة الفلسطينية عن العمل في المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية. بدا الأمر كأنه يساق من قبيل التهديد في خدمة تمديد فترة التجميد الجزئي للبناء الاستيطاني. سوف يدهش كثيرون عند سماع هذا الخبر ـ المسكوت عنه عادة ـ عن دور العمالة الفلسطينية في بناء المستوطنات التي تكرّس الاحتلال الإسرائيلي على الأرض الفلسطينية وتضيّق رقعة الدولة الفلسطينية العتيدة حتى لا نقول إنها تقضي عليها! مهما يكن، حري بالسلطة أن تحل هذا التناقض بين المطلب والقدرة الذي يستخدم عادة لدحض مطالبتها بوقف الاستيطان.
÷ التفصيل الرابع: في فلسفة التفاوض. عشية الجولة الثانية تحوّط الرئيس الأميركي لانهيار المفاوضات بتأكيده عزم إدارته على العمل من أجل استئنافها من جديد. على أن الأهم في تصريحه هو عرضه لما يشبه الرؤية الأميركية لفلسفة التفاوض. طالب الرئيس الأميركي كلاً من نتنياهو وعباس أن يفكر كيف يساعد الآخر على أن ينجح. وزاد أنه يتعيّن على هذا وذاك «النظر إلى العالم من خلال عيني الآخر، وهذا يتطلب العلاقات الشخصية والثقة».
غريب أمر هذه التعاليم والتوجيهات الشخصية والحميمة واللائقة والمهذبة تصدر عن رئيس أميركي يمارس نقيضها في حله للنزاعات في أفغانستان والعراق ناهيك عن الحروب المستترة والمستمرة ضد «الإرهاب الدولي». ولكن هذا التكرار لدروس «بناء الثقة» يفضح مدى الاستهتار بحقوق الشعوب إذ يشخصن القضايا والمشكلات ويتغاضى عن جذور النزاعات وتضافر عواملها المختلفة. فعندما يوضع المحتل مع ضحية الاحتلال، والقاتل والضحية على مستوى واحد فهذا يعني تشريع الأبواب في حسم النزاعات، لا للحوار ولا للثقة، وإنما للقوة العارية.
هي تفاصيل «شيطانية» ولكنها ليس بتفصيلية.
السفير