عودة إلى سينوغرافيا الموت و«أربع ساعات في صبرا وشاتيلا» بين جثث الفلسطينيين
سامر محمد اسماعيل
جــان جينيــه يحصــي خلايــا الجســد الجماعــي المقتــول
«إنَّ الصورة الشمــسية لا تلتقط الذباب، ولا رائحة الموت البيضاء الكثــيفة؛ إنها لا تقــول لنا القفزات التي يتحــتّم علينا القــيام بها عندما ننتـقل من جـثةٍ إلـى جثـةٍ ».
(جان جينيه)
ربما كانت المقالة السياسية التي كتبها جان جينيه بُعيْدَ خروجه من مخيم شاتيلا في أيلول1982 من أهم المقالات التي كُتبت عن المجزرة التي ارتكبت بحق الآلاف من اللاجئين الفلسطينيين، تمَّ ذلك تحت وطأة الصدمة التي انتابت جينيه بعد رؤيته بأم العين لأبشع جرائم البشرية، دخل جينيه برفقة صديقته اللبنانية «ليلى شهيد» واثنين من الصحافيين الأميركيين إلى ساحات شاتيلا، تفرَّجَ على الدم البنفسجي والرؤوس السوداء المشتعلة.
لا ليست هذه هي الحكاية، ليس الموت هنا شيئاً بحضوره المادي، أو بروائحه النفَّاذة، الموت هنا ليس أمثولة فولكلورية بقدر ما هو مركّب معقد حضّره القاتل بأقصى صوره العبثية، يقول جينيه: «إذا نظرنا بانتباه إلى ميت، فإنَّ ظاهرة غريبة تلفت نظرنا، فغياب الحياة في هذا الجسد يعادل الغياب الكلي لهّذا الجسد».
نلاحظ هنا تلك اللغة الشعرية البسيطة التي جعلت من مقال جينيه بنية للمسرحة التي تبتعد عن الوثائقي، لتجعل من الصور الملتقطة عيناً حسية محضة للمأساة، الغياب الكلي للجسد ليس نزهةً في عالم القتلى الممدَّدين على مفارق ودروب صبرا وشاتيلا، بقدر ما هو غياب لمعنى الموت البشري، الموت الذي تهدهده الصلوات وفكرة العودة في الأبد، إنه «موت – نفوق»، موت ينعدم منه المعنى، موت من أجل الموت، موت غرائبي، لكنه جماعي وباذخ يتجلَّى في وقاحة القاتل وساديته وولعه المزمن بتعذيب ضحيته.. «وسط جميع الضحايا التي تعرَّضت للتعذيب لا يستطيع ذهني أن يتخلص من تلك النظرة اللامرئية، كيف كان شكل ممارِس التعذيب؟ من هو؟ إنني أراه ولا أراه، إنه يفقأ عينيّ».
من هنا كان على جينيه أن يكتب مرات ومرات بفعل الحاضر، فعل التوكيد الذي يجعل من صوره الشمسية لفلسطينيي شاتيلا مثالاً أقرب إلى اللوحة الدموية المتأكسدة تحت شمس الحياة، الشمس التي تيبست أشعتها في دماء القتلى هي أيضاً أحد أدوات جينيه التي تنقل القارئ «المشاهد» إلى مكان الجريمة، فالكاتب هنا يحضّر مادة زمنية قابلة للقراءة في أي وقت، إنها كتابة عشبية لها مزايا متعددة في القص والسرد والتصوير والإحاطة بمكان الحدث، على الأقل وفق الحجة التي دخل بها جينيه إلى شاتيلا، الصحافي التوَّاق لتسجيل «تأريخ اللحظة» لكن هذه المرة، وبلا أقواس اقتباس يلزم جينيه غرفته ليومين بعد رؤية شاتيلا منبوشة الأضلاع، ليمضي أكثر من شهر في كتابة مقالته التي تتوهَّج بأنفاس المسرحية، المسرحية المكتوبة عن المكان ليست مجرد تنظير، وهي لم تُرِده أبداً، فلقد كانت المقالة بمثابة رسم ميزانيات معقَّدة ومتشابكة لحركة ممثل يشاهد المجزرة ويروي عنها كأنه يمشي في نومه». للصورة الشمسية بعدان، وكذلك لشاشة التلفزيون، إلا أنَّ كليهما لا يمكن أن يعبرهما الإنسان أو يطوف داخلهما، من جدار إلى جدار، داخل زقاق الأرجل المقوَّسة أو المدعّمة لتسند حائط، والرؤوس المتَّكئة بعضها على بعض، والجثث المسودّة المتَّسخة التي كان عليّ أن أتخطَّاها..».
هذا الوصف ما هو إلا قراءة تتوخَّى التقاط أدق التفاصيل، التفاصيل الحركية لكاميرا العين البشرية التي تتنقل عبر الجثث الفلسطينية بأسلوب «النطَّة» القفز فوق الضحايا المتروكين عند برك دمائهم المتخثرة، ينهبون عيون الكاتب ويجعلونه عرضةً للوحشي المتصارع مع الإنساني في داخله، لا سيما أن ركام الأعناق المذبوحة بالسلاح الأبيض ومواضع التنكيل بالجثث البشرية تضفي الكثير من البلاهة التي ينتجها عدم التصديق للغرابة المتفشِّية في أجساد النساء المقطّعات الأوصال عند مداخل البيوت وعتبات المنازل.
إنَّ قراءة المجزرة على هذا النحو جعلت من نص جينيه فضاءً قابلاً للمسرحة، فالتخييل هنا ليس من باب المصادفة اللغوية الكلامية، بقدر ما هو رغبة في الاستفادة من عين تشاهد وتروي، عين تشاهد الأقفاص الصدرية الممزَّقة والأضلاع والأفخاذ المجرّحة بالسكاكين، نماذج مدويّة من الجريمة التي لا تضاهيها جريمة استطاع الكاتب أن يبرمها لصالح نصِّهِ، أربع ساعات من القفز فوق الجثث، أربع ساعات من التنقل في «سينوغرافيا الموت» كانت كفيلة بإبداع أحد أكثر النصوص صدقاً ومعايشة للمذبحة الفلسطينية، نص يلغي الإجماع القرائي الذي نادت به نظريات القراءة الحديثة، نص يعيد اللحظة من مستويات تصرخ فيها الأسئلة عن ماهية القاتل، ليست عن مشاعره أثناء التلذذ بكلِّ هذا الذبح المجَّاني، بل عن ذلك المهرجان الدموي المرعب، الوقت الذي استطاع القاتل صرفه في كلِّ هذه الفظاعة «أصابع يد المرأة المذبوحة كانت مروحية الشكل، الأصابع العشرة مقطوعة، كأنما قطعها مقص بستاني، لا شك أنَّ جنوداً قد استمتعوا وهم يكتشفون هذا المقص ويستعملونه ضاحكين مثل أولادٍ وهم يغنون فرحين».
إنَّ التشابك البصري الذي ابتدعه القاتل في مجزرته شوّش جينيه وجعله نهباً لأسئلة كثيرة، كيف يستطيع البشر أن ينفِّذوا جريمة جماعية كهذه؟ كيف يمكن للموت أن يكون عمومياً بهذه الصيغة العسيرة على الوصف؟ التعبير عن ذلك ببساطة وفق حسية محايدة أحياناً، ومتسائلة ومســتغربة أحيــاناً أخرى تجعل من صاحب «عذراء الزهور» شاهداً مثالياً في مسرح الجريمــة، لا بالتعبير الجنائي فقط، وإنما بالقــدرة الهائلة على تنويط الدم وتفسير كيميائه المتفسِّخة.
يتساءل جينيه بعد خروجه من شوارع المجزرة: «كم يلزم من الأمتار لتكفين مثل هذا العدد الكبير من الموتى؟ وكم من الصلوات؟».
إنَّ صاحب «الخادمات» لا يتوق إلى مراسم لهذا الموت بالقدر الذي يريد فيه أن يُدلِّل على هيئة هذا الموت، هيئة العبث الذي حوّل البشر إلى مجرد إكسسوار لكاميرا الصحافة، مادة عفنة لأجساد تلهَّى بها القاتل و«عاقبها» على حياة المخيم بمشرحة علنية وتحت جهارة النهار والقنابل المضيئة لشارون.
هذه الفاشية لم يعتبرها جينيه قدراً جماعياً، بل أعلن في هذه المقالة وبشكل نهائي كراهيته للقاتل «منذ انقطعت الطرق وصمت التلفون، وحُرمتُ من الاتصال بالعالم، أحسستني لأول مرة في حياتي، أصير فلسطينياً وأكره إسرائيل».
لا يتقدم جينيه في زمن المجزرة، بل يعود بذاكرته إلى عام 1971 عندما كان يزور القواعد الفلسطينية في جبال عجلون، فيصف للقارئ جمال المرأة الفلسطينية التي كانت تقف جنباً إلى جنب مع رجلها الفدائي، في المخيم كان الجمال مختلفاً، مكتوماً بعض الشيء، ينشر ظلاله من خلال سيادة الأطفال والنساء، أمَّا عن النساء وجمالهنَّ، فإن تفسير تألقهن سيستلزم مناقشة طويلة ومعقَّدة أكثر من الرجال والفدائيين في المعركة».
يلتقط جينيه نظاماً اجتماعياً خاصاً بمخيمات الفلسطينيين، يلتقط المرأة، جمالها المعنوي، والجسدي تحت شرط القتال ومؤازرة الفدائيين، وكيف استحال هذا الجمال إلى مركَّب معقد لا يمكن للغة أن تحيله على مستويات بسيطة من التعبير، وربما كانت عودة جينيه هنا بعد القفزات من فوق جثث شاتيلا للتذكير بأن نساء المجزرة المقصوصة أصابعهن هنَّ ذاتهن اللائي كنَّ يُحضِّرن الطعام لرجالهن في جبال عجلون.
هذه المقارنة التي يوردها الكاتب بين زمنين، أحدهما تُشعُّ فيه النساء في جبال الأردن، أما الزمن الثاني فيتحولن فيه إلى – كما يصفهن هاربات من مدينة الخليل بعد تهديدات إسرائيل – «الممثلات التراجيديات الثمانينيّات، الأنيقات إلى أقصى حد»، ليعود جينيه ويرثي أطلال شاتيلا حيث لم يجد أثراً لتلك التراجيديات سوى «بعض العجائز الصامتات وراء أبواب مغلقة».
هذا الانتماء إلى هذه العشيرة من البشر لم يكن مفكراً فيه كما قال، بل هو انتماء كما يصفه جينيه، انتماء يتحقَّق نتيجة انجذاب عاطفي وحسي وشهواني، ليخلص في النهاية إلى القول: «إنني فرنسي، غير أنني كلياً وبلا حكم أدافع عن الفلسطينيين»، وبما أن المحبة هي التعاطف حسب «شيللر» يمضي الكاتب إلى التعاطف الأقصى مع ضحايا المذبحة في الشوارع، يحاول أن يتذكَّر وجوه من شرب معهم الشاي هناك في الجبال، أو يحصي خلايا الجسد الجماعي للمجزرة، لكنه يُشكِّل عبر قفزاته المتتالية بين ملامح الجثث ما يشبه النص الحركي للمسرحية التي سيطمح إلى تنفيذها الكثير من المسرحيين العرب، ومنهم فرقة مسرح اليوم المغربية التي قدَّمتها في مهرجان دمشق المسرحي، بإدارة من المخرج «عبد الواحد عوزري» وتمثيل «ثريا جبران» عام 2006، كما قدمه المخرج السوري عبد المنعم عمايري بعرض حركي تحت عنوان «سينوغرافيا الموت 2009»، ربما خارج المسرح الوثائقي، لكنها على الدوام عبارة عن أربع ساعات من التفقد الكامل لحكاية جعلت لون أيلول أسود.
(كاتب سوري)
السفير