الرضوخ الأميركي لنظرة اسرائيل الى الدور السوري
من اتفاق الدوحة اللبناني الى المفاوضات غير المباشرة في اسطنبول …
البتراء – راغدة درغام
تتبنى روسيا والصين والولايات المتحدة وفرنسا وكذلك بريطانيا أنماطاً سياسية تشل الديبلوماسية الجماعية وتثير نعرات تهدد بإحياء الديبلوماسية الانفرادية من ناحية، وبإطلاق عنان التطرف من ناحية أخرى. يحدث هذا في زمن تعاني فيه الأمم المتحدة كأمانة عامة من انحسار في فعاليتها وتساؤلات تشكك في توجهاتها بقيادة الأمين العام الحالي بان كي مون. ويأتي كل هذا على عتبة انتخابات رئاسية أميركية توحي لبعض الدول أن مصلحتها تقتضي استغلال الفترة الانتخابية لأنها في رأيها مرحلة الضعف الأميركي، كما توحي ايضاً للاعبين غير الحكوميين، مثل المنظمات والميليشيات والمؤسسات شبه الفكرية، بأن هذه فرصة ذهبية لها للتأثير في صنع مصيرها وصنع التاريخ ايضاً. لذلك يجدر بالديبلوماسية الروسية والصينية التي أخذت في تعطيل أي اجراء في مجلس الأمن يلجم التطرف ان تفكر في إفرازات وأبعاد سياسة الشل، ليس فقط لانعكاساتها في إضعاف مجلس الأمن الدولي وتقوية الذين يضربونه بعرض الحائط، وانما ايضاً لأن مثل هذه السياسة تدفع الولايات المتحدة مجدداً الى أحضان العمل الانفرادي. كذلك على الولايات المتحدة ان تفكر في عواقب استمرارها في منع الأمم المتحدة – ومجلس الأمن الدولي بالذات – من مواقف ضرورية نحو العملية السلمية للشرق الأوسط، مثل إصدار قرار ضد الاستيطان الاسرائيلي الذي يعرقل ويعطل العملية السلمية. فمثل هذا الشلل يزيد من قدرات التطرف ويضعف منهجياً قوى الاعتدال. أما فرنسا، فقد تحولت الى مجرد قطة بعدما كانت نمراً في مجلس الأمن وذلك باختبائها المنهجي مؤخراً وراء «السعي الى الإجماع» بين أعضاء مجلس الأمن. فإذا شاءت ان يكون لها الوزن الذي يميزها كعضو دائم في مجلس الأمن، عليها الكف عن الهروب الى الأمام والتذرع بـ «الإجماع» لشل الإجراءات الدولية، إذ ان ذلك يسلب منها ما اكتسبته من نفوذ أثناء عهد الرئيس السابق جاك شيراك من خلال أزمة لبنان. بريطانيا ايضاً طرف في عمليات الشلل لأنها ترفع يديها عن قضايا معينة وكأن المطروح في مجلس الأمن قائمة طعام يحق لها اختيار الوجبة التي تناسبها منها. أما الامين العام فأصبح طرفاً مباشراً في ضياع المنظمة الدولية بين تائه في طيات التغيير الذي لا يحدث تغييراً، وبين رابض في انتظار المجهول الآتي بعد انتخابات الرئاسية الاميركية.
ملفت ذلك التفاوت بين احتياجات الناخب الأميركي التي تكاد تطالب المرشحين لمنصب الرئاسة بالابتعاد عن السياسات الخارجية باستثناء العراق، وبين توقعات «الناخب» الدولي المتلهف الى التعرف على الآتي الى البيت الابيض والذي لا يستوعب الفارق بين اللعبة السياسية والمواقف السياسية، في عملية الانتخابات الأميركية. هذا التفاوت ليس غير منطقي – برغم مساوئه الكثيرة – إذ ان الفرد الأميركي ليس مهتماً كثيراً بالقضايا العالمية وبالنزاعات الاقليمية، وقد أصابه الملل بالذات من قضايا الشرق الأوسط والنزاع العربي – الاسرائيلي.
بالمقابل، يعتبر «الناخب الأجنبي» ان السياسات الأميركية من شأنه مباشرة لأنها تؤثر في حياته ومصيره، ولذلك فهو يراقب كل خطوة ويدقق في كل كلمة ينطق بها المرشح الجمهوري جون ماكين والديموقراطي باراك أوباما ومستشاروهما بتدقيق مفرط أحيانا.
عشية مؤتمر الحائزين على جائزة نوبل الذي يرعاه العاهل الاردني الملك عبدالله الثاني في مدينة البتراء الوردية للتركيز على محاور علمية وثقافية وتنموية واقتصادية وتكنولوجية بعيداً عن السياسة، امتلأت الصحف الأردنية بانباء عن سياسة جون ماكين نحو الأردن، اعتبرها بعض السياسيين والمحللين مصيرية، اتضح لاحقاً انها نسبت الى روبرت كيغان باعتباره مستشار ماكين للشؤون الخارجية.
ثم نقل عن كيغان انه لم يقل ذلك الكلام، وان موقعاً اسرائيلياً على الانترنت نسب اليه قوله ان ماكين يدعم حل الاردن كوطن بديل للفلسطينيين، لأن حل الدولتين ليس في المستطاع. ثم تبين أن موقعاً آخر قريباً من «حزب الله» نقل هذا الكلام. وبغض النظر عمن اخترعه، فإن الزوبعة التي اثارها ملفتة جداً.
ملفتة لأنها تعكس القلق الاردني الدائم من محاولات متكررة لاسرائيليين ولأوساط أميركية اعتذارية عن التطرف الاسرائيلي تطرح وتسوق ما يسمى بـ «الخيار الأردني». ملفتة ايضاً لأن جون ماكين أصبح بين ليلة وضحاها «عدواً» في نظر الكثير من الاردنيين بسبب مواقف تبين أنها ليست مواقفه ولا علاقة له بها. والأمر بكامله يستحق التوقف عنده لأن اجواء منطقة الشرق الاوسط تعكس انحساراً ملحوظاً لقوى الاعتدال يبدو كأنه مبارك أميركياً.
وللتأكيد، لا يوجد في المنطقة العربية رأي واحد نحو الاعتدال والتطرف، أو نحو جون ماكين وباراك أوباما، بل هناك أنواع من الانفصام. أوباما خسر جزءاً مهماً من شعبيته العربية عندما تحدث عن القدس كعاصمة موحدة لاسرائيل، لكنه ما زال المرشح المفضل لدى الجزء الغاضب من الرأي العام العربي الذي يدعم التطرف خياراً للرد على الانحياز الأميركي لاسرائيل. هناك جزء من الرأي العام العربي المعجب بالتجربة الأميركية والذي يجد في نجاح باراك أوباما بالفوز بالترشيح الديموقراطي أمثولة ايجابية للديموقراطية الاميركية، وبالتالي يدعم أوباما من هذا المنطلق.
انما على الصعيد الحكومي، يبدو ان الحكومات التي تدعم اوباما هي التي تنتمي الى معسكر التطرف، كإيران وسورية، فيما الحكومات التي تعتبر صديقة للولايات المتحدة تفضل جون ماكين ويخشى بعضها من مساهمات لباراك أوباما في تشجيع قوى التطرف على حساب قوى الاعتدال.
منطقياً، ولو ألقيت نظرة واقعية على السياسات الأميركية العريضة، لتبين ان اياً من المرشحين للرئاسة مستمر في العلاقة الأميركية العضوية مع اسرائيل ولن يتخلى عن التحالف الأميركي – الاسرائيلي تحت أي ظرف كان. لتبين ايضاً ان الحزب الديموقراطي تقليدياً، اكثر انحيازاً وانسياقاً لاسرائيل من الحزب الجمهوري، باستثناءات مهمة مثل إدارة جورج بوش.
منطقياً، واضح ان لا باراك أوباما ولا جون ماكين سيستعجل الخروج من العراق. فالعراق هو العنصر الجديد في السياسات الاميركية التقليدية نحو منطقة الشرق الأوسط والتي يتحكم بها النفط واسرائيل. وهذا الجديد لن يبقى في خانة النقاش حول جدوى الحرب الأميركية في العراق أو سوء القرار وإدارة الاحتلال، بل سيدخل بوتقة جديدة تماماً تنصب على المصالح الاستراتيجية الأميركية في منطقة الخليج، وعندئذ ستختلف نبرة الحوار وتتبدل المواقف المعلنة.
الأميركيون العاديون لن يهتموا بأي من التفاصيل التي تهيمن على العاديين من العرب. فلا هم في وارد استيعاب تفاصيل المعاهدة الأمنية الثنائية مع العراق، لأن هذا شأن الإدارة والكونغرس. ولا هم في وارد التدقيق في معنى إبرام الصفقة الكبرى – لو تمت – مع النظام الايراني. فالتفاصيل مصدر ازعاج للفرد الأميركي، عكس الفرد العربي الذي يتعمّق في التفاصيل وتفوته الصورة الكبرى، أحياناً، وليس دائماً.
والعربي يتطرق اليوم إلى الانتخابات الأميركية ليس لهواً، بل تطلعاً أو خوفاً أو تشوقاً للتغيير – كما تتشوق الأكثرية الأميركية – لأسباب مختلفة على رغم أنها انطلقت أساساً من القاعدة المشتركة، أي حرب العراق، وتأثيرها على الرأي العام الأميركي والعربي على حد سواء.
الحديث العربي – العربي يتساءل عن أسباب الاحتضان الأميركي لقوى التطرف على حساب قوى الاعتدال وفي الذهن إيران وسورية وحلفاؤهما من أمثال «حزب الله» في لبنان و «حماس» في فلسطين. كثيرون يشيرون فوراً إلى الرعاية التركية للتقارب وللمفاوضات السورية – الإسرائيلية والتي تأتي بموازاة الرعاية القطرية للأزمة اللبنانية التي خلّفت اتفاقاً سُمح بموجبه لـ «حزب الله» بالاحتفاظ بسلاحه من دون أي اعتراض من إسرائيل أو الولايات المتحدة. هناك من يستهجن اندفاع الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي إلى استقبال الرئيس بشار الأسد عشية الاحتفال بالعيد الوطني الفرنسي وكأن شيئاً لم يكن في العلاقة الفرنسية – السورية، فيما كانت باريس المحرك الرئيسي وراء عزل دمشق بسبب مواقفها نحو لبنان، موجهة إلى مسؤولين في سورية تهمة التورط في الاغتيالات السياسية في لبنان، وفي مقدمتها العملية الإرهابية التي أودت بحياة رئيس الحكومة اللبنانية السابق رفيق الحريري ورفاقه.
الأحاديث العربية – العربية لا تتوقف عند المحطة السورية لتتساءل عن أسباب نجاح القيادة السورية في الخروج من خانة العزل الدولي والاقليمي إلى مرتبة الاحتضان وشبه العفو عما مضى. إن هذه الأحاديث تصب في خانتين رئيسيتين عند الحديث عن دمشق، هما علاقتها بكل من إسرائيل وإيران. والملفت اليوم أن إيران التي يطيب للبعض أن يصورها على أنها «عدو» إسرائيل، توافق ضمناَ وتكاد تبارك العلاقة السورية – الإسرائيلية التي ترعاها تركيا وقطر بمفاوضات وبنوع من التطبيع فوق العادة.
أثناء مؤتمر الحائزين على جائزة نوبل، وعلى رغم محاولات الابتعاد عن السياسة، قال أحد المشاركين الأميركيين المقربين من إسرائيل والمدافع دائماً عن مصالحها وتفوقها، إن القادة الإسرائيليين يريدون عودة سورية إلى لبنان وإنهم المحرك الرئيسي وراء حملة الاستلطاف والاحتضان للقيادة السورية أميركياً وفرنسياً وأوروبياً. قال إن الأزمة اللبنانية الأخيرة التي انطلقت عندما سيطر «حزب الله» على مطار بيروت ثم طوّق بيروت وحاول الاستيلاء على الجبل قبل حوالي شهر تقريباً، نظرت إليها اسرائيل على أنها أزمة «داخلية» لا شأن لها بها، لأن الاهتمام الإسرائيلي الأول هو بقاء القيادة السورية وتقويتها وتمكينها من استئناف دور فاعل لها داخل الساحة اللبنانية. هكذا، بحسب قول هذا المقرب جداً من صانعي القرار الإسرائيلي، يمكن قطع الإمدادات العسكرية عن «حزب الله».
مهما كان في ذلك «المنطق» من ثغرات، واقع الأمر أن المفاوضات السورية – الإسرائيلية عبر تركيا وقطر وغيرهما، ليست مفاوضات محصورة بمصير الاحتلال الإسرائيلي لهضبة الجولان السوري. إنها مفاوضات إعادة تأهيل الدور السوري في لبنان ونحو منطقة الشرق الأوسط من خلال الدور السوري نحو فلسطين المتمثل في دعم الفصائل والمنظمات المتطرفة المعارضة للسلطة الفلسطينية المنتمية إلى معسكر الاعتدال.
هذا، بالطبع، إضافة إلى إقرار الأمر الواقع بأن الدور السوري في العراق ثانوي مقارنة بدور الشريك الاستراتيجي ذي الوزن الثقيل، أي إيران.
إذن، وكما يتساءل اصحاب الأحاديث في التجمعات العربية والدولية، ماذا بعد أن رضخت الإدارة الأميركية لمتطلبات الأولويات الإسرائيلية نحو سورية، وماذا بعد أن يؤدي فرز العلاقة مع إيران إلى تأمين نفوذ اقليمي هائل للنظام الايراني في كامل منطقة الشرق الأوسط؟ ولماذا اتخذ قرار اضعاف الاعتدال وتأمين الانتصار للتطرف باستراتيجية أميركية وإسرائيلية بمشاركة أوروبية وبمساهمة روسية وصينية ايضاً؟ ولماذا كل هذا الإقبال الإسرائيلي على تقوية «حماس» و «حزب الله» على حساب قوى الاعتدال؟
فمثل هذه القرارات لا يُتخذ سهواً ولا هو مجرد افراز لسياسات مبعثرة هنا وهناك. مثل هذه الأوضاع لا ينتج حصراً عن أخطاء ارتكبها «الاعتداليون» أو عن تحديات أطلقها «التطرفيون». هذه رهانات استراتيجية منها ما ينتمي إلى السياسات الرئيسية الثابتة للدول النافذة عالمياً واقليمياً، ومنها ما ينتج عن ممارسات سياسية لإدارات مختلفة تفرزها العملية الديموقراطية الانتخابية، مثلما حدث ويحدث في الولايات المتحدة وفرنسا.
قد تكون الانتصارات الحالية مقدمة لأوهام لن تدوم بسبب طبيعة الانتصارات والمنتصرين ولكونها مرحلية حصراً. وقد يكون العكس هو الصحيح. إنما ما يحدث في منطقة الشرق الأوسط يبقى في هذه المرحلة مثيراً للفضول والتساؤلات ذات العناوين الدولية وليس فقط ذات الدلالات والتحالفات الاقليمية. ولأن عملية التمركز في فترة الانتخابات الرئاسية الأميركية عملية تمارسها أكثرية الدول الشرق أوسطية وكذلك الدول الكبرى الدائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي، ان مراقبة التطورات ومرافقتها بدقة أصبحت مهمة ضرورية… وللحديث بقية.
الحياة – 20/06/08