محمــد أركــون ضــد العروبــة ومــع «الإســلام اليهــودي»
جميل قاسم
وضعت فلسفة ما بعد ـ الحداثة فلسفة الأنوار العقلاطية (اللوغوقراطية) أو العقلانية ـ التمركزية على محك المساءلة والمراجعة، وطالت عملية التمعين والتقييم والمفهمة كل مقولات ومقالات عصر الأنوار كالعقل والعقلانية، والعلم والعلمانية، ومقولات التقدم والتطور، ومبادئ الحق والخير والجمال، والواجب، والحتمية والحرية. ناهيك عن مفهوم الحداثة، عينه، حيث صارت الحداثة لا تتحدد إلا بذاتية الحداثة. كما أعيد تأسيس النقد، كسلطة مرجعية على «نقد النقد» أو النقض الدلالي Destruction، بالمعنى الأُعلومي (الأبستمولوجي) لعملية المعرفة.
لقد أدت الحداثة ـ كما تنبأ جان جاك روسو ـ إلى فصل الإنسان عن بعده الطبيعي، وإلى إفراغ الكون من أبعاده الرمزية، الأمر الذي حوّل الحداثة إلى حداثة باهتة، في عالم باهت Desechante، بلا منظور ولا قيمة ولا غاية ولا معنى. فأدى تحديث الاجتماع إلى فردنة الإنسان وفصله عن الجماعة الإنسانية، وقامت الثقافة على مفهوم اللاطبعنة، واللاقدسنة ـ وبالتالي اللاأنسنة ـ وهيمن العقل على الحدس والإحساس، والفطرة، وقوضت المدنية الاصطناعية البيئة والمجال الحيوي، وأنبنت العلمانية على المادية والوضعية.
وعالِم الإسلاميات محمد أركون، الذي فارقنا كان يعلن انتماءه إلى المدرسة التفكيكية المضادة للأنوار في مجاله الخاص كعالم إسلاميات Islamologie في جامعة السوربون، وفي الأوساط الأكاديمية بصفة عامة.
تتميز كتابة أركون التفكيكية بثالوث منهجي اسمه الفكر ـ اللامفكِّر فيه impensee ـ الما مفكَّر فيه impensable، ويستخدم هذا الثالوث في نقده لوثوقية العقل، والعقل الديني خاصة (لا سيما العقل الإسلامي).
ويستخدم أركون مصطلح «الأُرثوذكسية» على جاري العادة في الغرب، بمعنى النزعة العقائدية المتزمتة Dogmatisme دون أن يكلف نفسه عناء الانتباه إلى وجود مذهب أرثوذكسي قائم ـ وقويم ـ له الحق بالاعتراف به، والاختلاف عن غيره، مثل كل المذاهب والملل والنحل في العالم ـ لا بل ويعد أتباع هذا المذهب أنفسهم أصحاب المذهب المسيحي القويم (الصحيح) والأصلي!
اضمحلال الفلسفة
وأركون مفكر إنسانوي hamaniste، بدأت حياته الأكاديمية بأطروحة دكتوراه حول «الأنسنة في الفكر العربي ـ جيل مسكويه والتوحيدي ـ« يدعو فيها إلى إعادة التفكير بمسألة النزعة الإنسانية في الوسط (السياق الإسلامي) في تمييزه ما بين الإسلام والإسلاموية islamisme أو النزعة التي تحوّل الإسلام إلى أداة إيديولوجية، أصولية، في خدمة السلطة الدينية بمنأى عن أي استخدام وتأويل نقدي للدين.
يشرح لنا تلميذ أركون، ومترجم أعماله من الفرنسية إلى العربية، والمدافع عنه في السراء والضراء د. هاشم صالح ـ ما يقصده أركون بالفلسفة الإنسانية فإذا به «ذلك الموقف الذي يحترم الإنسان بحد ذاته ولذاته، ويعتبره مركز الكون، ومحور القيم» ومناط الوجود والكينونة.
في كتابه المنشور مؤخراً بالعربية بعنوان «الإسلام والأنسنة» (دار الطليعة) يفسر أركون التقهقر والتراجع العربي ـ الإسلامي، باضمحلال الموقف العقلاني، واضمحلال الفلسفة التي تتمحور حول الإنسان وتعتبره قيمة القيم (الأنسنة والإسلام. دار الطليعة ص 12).
كان أركون يجد في أنسية القرن العاشر الميلادي (الرابع الهجري) إنسية أبي حيان التوحيدي، ومسكويه، والفلاسفة، والمتصوفة والمتكلمين الكبار مثلاً «للإنسان الذي أشكل عليه الإنسان» ـ على حد تعبير التوحيدي ـ وهي نظرة إنسانية جديدة، منفتحة، تشتمل، في آن معاً، على ثلاثة أشياء: النضال المشروع الذي يقوم به العقل من أجل التوصل إلى استقلاليته الذاتية، والرمزية الدينية بصفتها بعداً روحياً، والبحث العلمي القائم على التجربة والعيان وهي ـ والحال ـ إنسانية منفتحة ومؤمنة بالله، في الوقت ذاته، في السياق الإسلامي.
وهذه النزعة الإنسانية هي التي تبنّاها أركون الشاب في كتاباته الأولى.
أما أركون «الشيخ» فدعا إلى إنسانية راديكالية، ما بعد ـ ميتافيزيقية، تقوم على إشكالية «موت الله» وإعلان الخروج من الدين في غرب ما بعد الحداثة، وعصر ما بعد ـ المسيحية، ونهاية الميتافيزيقا. وبناء على ذلك دعا أركون إلى عقل نهضوي raison emergente يتحمل تأويل الأحداث، كحدث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) وذلك نحو بدايات جديدة لا تقوم على سياسة القوة mochpolitik في مواجهة الفكر الأصولي.
ويتركز همّ أركون على انفتاح الإسلام على الثقافات الشفاهية البربرية، والكردية والأرمنية والقبطية! (أنظر كتابه «قضايا في نقد العقل الديني». دار الطليعة، ص 42).
في عودته إلى السؤال الإنسي، من جديد، يتبرأ أركون من محاولته الأولى حول الأنسنة العربية ويرى أنها كانت حبيسة الرؤية التي فرضها ي. بوركهارت صاحب كتاب ثقافة النهضة في إيطاليا، ويرى بأن هذه الرؤيا كانت سجينة التصور الذي يعد اللغة العربية أداة تعبير هذه الأنسنة، كما أن الأنسنة المسماة إسلامية هي بدورها سجينة الرؤيا نفسها…
ويعود جذر عداء أركون للغة العربية إلى تبنيه لأطروحة ماسينيون الذي يعد اللغة العربية، بنيتها النحوية والسيميائية «لغة ثقيلة» بوصفها «لغة سامية» تختلف، جوهرياً، عن الطريقة الهندو ـ أوروبية (M. Arkoun. Essai sur la pensée islamique. Maison neuve. Paris 1984. p. 188. p. 188).
ويتفق المرء مع أركون في دعوته إلى التعددية والديموقراطية وحقوق الإنسان، لكنه يختلف معه في تفسيره وتأويله لعلاقة الفكر باللغة، التي تنطوي ـ للأسف ـ على بواعث عصبوية أقلوية، فأركون يرى مثلاً أن اللغة العربية، «بثقلها ونكوصها السيميائي» هي أساس التطابق العقلاطي (اللوغوقراطي) ما بين الكلمة والفعل.
وقد نوافق أركون على موقفه من التعددية الثقافية ـ بحدود المنطق ـ وعلى معارضته لأنظمة الحزب الواحد، غير أن أركون لا يعارض الأنظمة وإنما يعارض العروبة والتعريب. لا بد أنه يدعو إلى مغرب مستقل في قطيعة إبستمية مع المشرق العربي.
والمفارق أن أركون حين يدافع عن التعددية اللغوية لا يجد الحل في «الثقافات المعاشة» وإنما في اللغة الفرنسية التي يجدها حية وناقلة للحداثة، بعكس العربية التي تعاني من الإرث الثقيل للغة التي اختارها الله في القرآن (قضايا في نقد الفكر الإسلامي ص 41).
الإنسية التامة
وقد اعترض هاشم صالح، مترجمه الأمين على هذه النظرة الفئوية ودعاه مراراً وتكراراً إلى عدم الخلط ما بين اللغة الكلاسيكية، واللغة الحديثة المتحررة، والمعلمنة، لغة نجيب محفوظ وتوفيق الحكيم والثقافة العربية الحديثة.
دعا أركون «الشيخ» إلى نزعة «إنسانية كاملة» بحسب توصيف جاك ماريتان humanisme integrale، وهي برأيه نزعة تقوم على الفكر الديموقراطي.
علام تقوم هذه الإنسانية التامة وهل هي تامة حقاً أم تمامية integriste؟ إنها تقوم ـ عند أركون ـ على الدعوة إلى مجتمع بدون إله ـ في الوقت الذي كان يدعو فيه جاك ماريتان ومونييه ـ فعلاً ـ إلى إنسانية تكاملية تعبّر عن الفضائل اللاهوتية مثل الإيمان والبر والأمل والعقل والعودة إلى الطبيعة والإنسان، كردّ على سوداوية المقولة والمقالة النيتشوية حول «موت الله»! لا بل إن لوك فيري دعا إلى فكر فينيقي (نسبة إلى طائر الفينيق الذي ينبعث من رماده) في جدلية الله ـ الإنسان والإنسان ـ الله.
وأبعد من هذا كان أركون يتبنى حتى شعارات المحافظين ـ الجدد عن القوى والدول الفاضلة والمارقة. في حملته الشعواء ـ والعشواء ـ على رايات «حزب الله» و«محور الشر» والحرب المقدسة، والعدالة والتنمية (تركيا) في دعوته الإنسية الراديكالية الأخيرة!
وفي نهاية المطاف يجد أركون خلاصه الفكري ـ والروحي في نظرية جياني فاتيمو، النيتشوية ـ الجديدة.
ويندرج فاتيمو ـ بنظر أركون ـ في عداد ما يسمّيه أركون «اليهود المسيحيين» ويرى الخلاص في «ما بعد الإسلام» في «الإسلام اليهودي؟! ـ في ما يشبه المسيحية اليهودية عند المحافظين الجدد باسم الأنسنة والإنسانية! وهذا ما يفسر مصادر وعي أركون عند كلود كاهان ومكسيم رودنسون (وهو معتدل نسبياً) وبرنار لويس وأوري روبين…
وكخلاصة يدعو أركون إلى «نقد جذري هرمي (هدّام)، لا يقدم أي تنازلات للطابوهات والمحظورات التي أقامها المؤمنون أمام كل محاولة لنزع القدسية عما قدسه الزمن وجيل العقل مما جعله مؤلهاً» بنوع من الدعوة إلى الفوضى الخلاقة (الهدامة) هي ذي دعوى أركون إلى إنسية أشكل فيها الإنسان على الإنسان!
محمد أركون وداعاً..
السفير الثقافي