«رجال وآلهة» و… محمد أركون

محمد الحدّاد
«رجال وآلهة» عنوان شريط سينمائي خرج حديثاً، موضوعه مجموعة الرهبان الذين كانوا مستقرين بالجزائر عشرات السنين ثم اختطفوا وقتلوا أثناء الحرب الأهلية عام 1996. اختار منتج الشريط موعداً لخروجه في القاعات العامة الذكرى التاســعة لتفجيرات 2001، ولذلك أسباب تجارية مفــهومة، لكن الشريط حمل حقاً رسالة تسامح وسلام بين الأديان. ومن المعلوم أن الجدل ما زال قائماً إلى اليوم حول الجهة التي تتحمل مسؤولية تلك المأساة، هل هي الجماعة الإسلامية التي قررت قتلهم، أم فريق من الجيش قام بمحاولة فاشـــلة لإنـــقاذهم انتهت بالقضاء عليهم. وقد تجنب الشريط الخوض في التفاصيل، وترك المجال مفتوحاً لمختلف التأويلات، كما تجنب اتخاذ مواقف سياسية مباشرة، واكتفى ببعض العبارات التي ترد على لسان السكان حول فساد الجهاز الإداري للسلطة وقسوة المصالح الأمنية في تعاملها مع المواطنين، كما وردت عبارات على لسان الرهبان فيها شيء من التفهم للظروف التي قد تدفع بعض الشباب للتحول إلى إرهابيين.
لكن عموماً ظل الشريط محايداً، لذلك كان مؤثراً في إدانته الإرهاب، بسيطاً وعميقاً معاً، يصور جمال المناظر الطبيعية في الجبال الجزائرية، وبؤس القرويين المصحوب بالكثير من الطيبة والحكمة، والعالم الطوباوي الذي كان يعيشه هؤلاء الرهبان بما لم يمكّنهم من إدراك حقيقة المخاطر التي يواجهون. وفي نهاية شديدة التأثير عرض الشريط ما قدم على أنه رسالة تركها رئيس الدير يؤكد فيها تأكيداً قوياً أن الإرهاب غير الإسلام والعنف ليس الجزائر، ويوصي، إذا قضى الرهبان، بأن لا يتخذ موتهم ذريعة للخلط بين الأمور.
شاهدت الشريط في إحدى القاعات الباريسية، بعد أن اطلعت على صحف اليوم (11/09)، متابعاً شأن الآلاف في العالم تطورات الدعوة المجنونة إلى حرق المصاحف في فلوريدا، وبقيت أتأمل في قدرة الشر والهدم على التغلب على الخير والبناء، عكس ما بشرت به الأديان وذهب إليه أرسطو وابن سينا وابن ميمون وتوما الإكويني. فالقس المغمور الذي يرأس كنيسة لا يتجاوز أتباعها الخمسين، حظي باهتمام أكثر من عشرات الندوات الضخمة التي عقدت حول حوار الأديان منذ تفجيرات 2001، وأكثر من نداءات كبار رجال الدين والفكر من مختلف المذاهب. مبادرة بسيطة وتافهة شدت أنفاس العالم واضطرت رئيس أكبر دولة إلى التدخل غير مرة للتوضيح والإدانة، واستنفرت الأجهزة الديبلوماسية والأمنية في كبرى العواصم. وما لفت نظري أن الكثير من الكتاب المسلمين الذين كتبوا حول هذه الحادثة تعمدوا فصلها عن النتائج النفسية التي ترتبت على تفجيرات 2001، كما أن خطاب أوباما في مأدبة الإفطار في البيت الأبيض كان رائعاً ولم يحظَ لديهم باهتمام يضاهي تصريحات هذا القس.
وبالمثل اســـتعاد كـــثيرون من غير المــسلمين الذكرى التاسعة لتفجيرات 2001 من دون ربط هذه الكارثة بالســـياسات الأمـــيركية في الشرق الأوسط مــنذ الحـــرب الـــباردة. هـــناك سعي من مختلف الأطراف لتقديم العنف على أنه جوهر الآخر، وتنـــزيه النـــفس عنه، والظـــهور بمظهر الضحية، ما يؤجج العداوة بين الناس ولا يســـاهم في نشـــر ثـــقافة السلام والتسامح. فالبداية لا بدّ من أن تكون بالنقد الذاتي من الجميع، والمسلمون يحتاجون للكثــير منه لأن تعثر الإصـــلاح الـــديني لديهم قد سمح للحركات المـــتطرفة بالنـــمو، ثم ســـمح للمتطرفين من الأديان الأخرى بالتذرع بتهديد هذه الحركات للنمو بدورها. والنتـــيجة أن الصراع بين الأديـــان أصبح واقعاً في العلاقات الدولية كما في المعيش اليومي للشعوب، يرافقه صراع داخل كل دين بين فرقه وطوائفه.
زيارة البابا الأخيرة إلى بريطانيا تذكر بأن المنطقة الإسلامية ليست استثناء. فلئن اتخذت الاحتجاجات ضد الزيارة طابع الغضب على كنيسة لم تحاسب رهبانها في فضائح الاستغلال الجنسي للأطفال فإن خلفية الصراع بين الكنيـــستين الكاثوليكية والأنغليكانية كانت الدافع الآخر الأقوى أو الذي لا يقل قوة في تأجيج الاحتجاجات بصفة غير مسبوقة، خصوصاً وقد قرر البابا أن يطوب الكاردينال جون نيومان، رجل الدين الانغليكاني الذي أثار مشاعر بريطانيا عندما قرر التحول إلى الكاثوليكية في القرن التاسع عشر. لكن مرة أخرى يأتي نصيب المسلمين من الفتنة الطائفية أكبر بكثير، لذلك أصبحنا نسمع صباح مساء الخطابات المنمقة في التبرؤ من الطائفية، وهي الشاهد الأكبر على تغلغلها بيننا، ولئن لم تكن الطائفية العنصر الوحيد في تفسير الكثير من الأحداث فهي جزء من عناصر الجواب عن أسئلة من قبيل: لماذا تعجز القوى السياسية في العراق عن تشكيل حكومة بعد حوالى نصف سنة على الانتخابات؟ لماذا تواجه التجربة المتميزة التي شهدتها البحرين في الإصلاح أزمة خطيرة؟ لماذا كانت الكويت نموذجاً للعمل الديموقراطي وأصبحت تواجه اليوم جموداً مفزعاً لآليات السلطة؟ لماذا تعجز باكستان وهي قوة نووية عن تقديم المساعدات لمنكوبي الفيضانات؟ لماذا يحتل حزب الله مطار بيروت بدعوى رفع الظلم عن مواطن بدل أن يلتجئ المواطن إلى القضاء للتظلم، أو ينتظر الحزب الانتخابات القادمة للإطاحة بالحكومة بطريقة شرعية؟ لماذا يفتح الكثير من الحكومات مفاوضات معلنة أو خفية مع الحركات المتشددة التي كانت تقاومها بالأمس القريب؟
بعد قراءة الصحف وحضور الشريط السينمائي كنت أنوي زيارة محمد أركون، حملت معي نسخة من صحيفة «الحياة» بالتاريخ نفسه تتضمن مقالي في تقديم كتابيه الأخيرين (النشر يوم 11/09 كان مجرد صدفة!)، كنت أنوي أن أحدثه عن الشريط أيضاً، وعن كل هذه الأفكار التي كانت تدور في خلدي. لكن حالته الصحية كانت متعكرة، ولم يخطر على بالي أنها ستمضي إلى مزيد من التعكر، فأرجأت الزيارة إلى مرة أخرى. لكن أركون لم يعد إلى بيته بعد ذلك، ولم يطّلع على المقال، ولم يعرف مضمون الشريط. فقد توفي بعد يومين، وخطر في ذهني وأنا أتلقى خبر وفاته أنه لم يأخذ فكرة التعايش بين الأديان من جامعة السوربون، وإنما من القرويين البسطاء الذين صورهم شريط «رجال وآلهة»، هؤلاء الذين عاش أركون في بيئتهم وتربى بينهم، قبل أن يحط الرحال إلى عاصمة الأنوار. وقد خسرت الساحة الثقافية بوفاته شخصية تمتعت بقدر كبير من التأثير في مجال التحليل للقضية الدينية التي ستواصل إشغال البشر في القرن الحادي والعشرين، ولقد كان أركون من أول الذين تنبهوا إلى ضرورة إيلاء الموضوع الديني العناية اللازمة في البحوث الحديثة، ولم يكن لائقاً أن أكتب هذا المقال حول صراع الأديان وحوارها من دون أن أختتمه بالترحم عليه، بعد ربع قرن من الصداقة. لقد كان أركون أحد هؤلاء الرجال!
الحياة