أبو زيد وأركون ومعركة التجديد
برهان غليون
اختطف الموت في الفترة الأخيرة اثنين من أبرز مفكرينا المعاصرين، نصر حامد أبو زيد ومحمد أركون، بعد أن كان قد غيب، قبل أشهر، محمد عابد الجابري، أحد أشهر المفكرين العرب المعاصرين. وإذا كان ميل الجابري إلى الاعتدال وبحثه عن المصالحة بين العقل والدين، والحداثة والتراث، فتح لفكره باب الانتشار كما لم يحصل لمؤلف غيره، فقد واجه كل من أبو زيد وأركون مقاومة قوية، واعتبرا من المفكرين الراديكاليين الذين تجرؤوا على وضع الفكر الديني فوق المشرحة، وسعيا إلى نشر مفاهيم جديدة حول الإسلام لم تحظ دائماً برضا رجال الدين والمفكرين الإسلاميين. وكما قادت العاصفة التي أثارها أبو زيد إلى إبعاده عن جامعة القاهرة ورحيله الطوعي إلى جامعات الغرب التي استقبلته بترحاب، واجه أركون العديد من مواقف التشكيك والرفض، قبل أن يصبح بعد أحداث 11 سبتمبر الشارح الرئيسي في الجامعات الغربية لـ”أزمة الإسلام”.
اتهم فكر أبو زيد وأركون بالغموض والالتباس والبعد عن منطق الدين، وأخذ عليهما، وعلى أكثر الباحثين العرب في التراث الإسلامي، فشلهما في التواصل مع قطاعات الجماهير الواسعة، وعدم نجاحهما في نقل فكرهما إلى خارج الحلقات الضيقة للمثقفين الذين يشاركونهم طروحاتهم، وبالتالي إخفاقهم في ممارسة أي تأثير فعلي وفي ترجمة أفكارهم إلى حقائق عملية. ولا يزال الدعاة، التقليديون والمحدثون، هم الذين يحظون بولاء الجمهور وإصغائه، من دون الحديث عن النفوذ الذي يمارسه زعماء الإسلام السياسي على الشباب خصوصاً. وينظر قسم كبير من الرأي العام إلى عجز الباحثين المجددين عن اختراق جدار العزلة من حول فكرهم على أنه دليل قاطع على اغتراب هذا الفكر، وخطأ دعوته، وضعف أسسه الدينية، بل تناقضها مع روح الإسلام ومتطلبات الإيمان الصحيح.
والحال، ليس أبو زيد ولا أركون ولا غيرهما من الباحثين في التراث، مصلحين دينيين، بل باحثون في العلوم الإنسانية. وليس من عادة الباحثين أن يكون لهم جمهور واسع، ذلك أن جمهورهم هو الباحثون الآخرون العاملون في حقلهم. وحوارهم الرئيسي هو مع هؤلاء في سبيل تطوير المعرفة العلمية التي لا مقدرة للجمهور الواسع على اكتسابها أو النقاش فيها من دون تكوين علمي مسبق. واتصالهم مع الجمهور الواسع يكون عادة من باب تقريب النظريات العلمية من الوعي العام، وتحسيسه بالمشكلات التي يثيرها البحث العلمي في مجال أو أكثر.
وما حصل في العقود القليلة الماضية هو خلط بين مقام الباحث العلمي في الشأن الديني وبين الداعية المجدد في الدين. ونظر الكثير من الجمهور المتابع إلى الباحثين وناقدي الفكر الديني كما لو كانوا أصحاب دعوة دينية تجديدية، كما نظر هؤلاء لأنفسهم أيضاً على أن بحثهم العلمي في الشأن الديني يهدف إلى تجديد فكر المسلمين وممارساتهم الدينية استناداً إلى معطيات البحث العلمي. ولا يكف أبو زيد في كتاباته عن الحديث عن ضرورة فهم الإسلام فهما علميا والانطلاق من البحث العلمي لتجديد رؤية المسلمين وإصلاح عقائدهم الدينية المتوارثة!
وفي اعتقادي، أن هذا الخلط لم يخدم قضية البحث العلمي في ميادين النشاطات الاجتماعية والإنسانية، ولم يساهم في تطوير أي حركة تجديد ديني. فبقدر ما أفقد الباحث العلمي مكانته بوصفه عامل معرفة، محايد عقائدياً، وحوّله إلى داعية لا يختلف -رغم جدة رؤيته وتأويلاته للدين- عن أي داعية آخر… أضعف موقف الباحثين الجدد وعرضهم لهجوم دائم من قبل خصومهم التقليديين ودعاة الإسلام السياسي. وقد أثار هذا الخلط، عند الجمهور العريض، شكاً حول البحث العلمي في الدين ونوايا الباحثين فيه، بل حول نوايا دعوة التجديد الديني نفسها، بصرف النظر عن مرجعية أصحابها.
ومقابل دعوات التجديد على أسس التفسير العقلي أو العلمي للنص الديني، والتي ستفسر من قبل غالبية المسلمين على أنها نقد للدين وعدوان عليه، ستبرز نزعة قوية عند أصحاب الولايات الدينية، الفقهية والسياسية، للدفاع عن التأويلات الأكثر إغراقاً في الابتعاد عن العقل، واعتبار التشبث بنماذج السلف الصخرة القوية التي تحول دون زعزعة الإيمان في عصر العواصف الفكرية والنزاعات الأيديولوجية.
تبدو نتائج هذه المعركة واضحة اليوم في إخفاق مشاريع الإصلاح والتجديد الديني، وفي السيطرة المتزايدة لأصحاب الدعوة إلى الانكفاء على موقف الاقتداء، بدل استخدام منهج العقل في الدين، بل والتخلي عن أي مطلب عقلي في أي شأن من شؤون الحياة والمجتمعات، وفي العودة المظفرة للحجاب والبرقع والجلباب. وهي بارزة أيضاً في نجاح رجال الدين والدعاة التقليديين في عزل الإصلاحيين والفكر الإصلاحي الديني عموماً عن جمهور المؤمنين، وفي التشكيك بشرعية حديثهم في الدين، من خلال وسمهم بالعلمانيين، بل واتهام بعضهم في دينه وإخلاصه لمجتمعه.
وليس من المستغرب أن يخسر الباحثون العلميون المعركة عندما ينتقلون من ميدان البحث العلمي، أي تقرير الواقع الديني كما هو، إلى ميدان التبشير بتأويل جديد للدين وتقرير ماهية الدين القويم. فهم أقوياء وأصحاب حجة في فهم آليات عمل الدين، لكنهم ضعفاء في شرعية تحديد متطلبات الإيمان الصحيح، وليس هذا من مهامهم، وليس لهم فيه أفضلية على منافسيهم من رجال الدين والمشتغلين عليه. فعلى خلاف هؤلاء، ليس لرجال العلم صلاحية معترف بها في توجيه العقائد وتقرير السليم والخاطئ منها، ولا يفيدهم منهجهم العلمي كثيراً في التقرب من جمهور المؤمنين، إن لم يشكل حائلا دون فهم المتدينين لأهدافهم وغاياتهم. فالدين هو قبل أي شيء آخر دعوة وليس علماً، ولا يمكن للعلم أن يقدم حججاً أقوى لصالح تأويل المجددين ضد التقليديين، وليس للعلم ما يقوله في تقرير العقائد أو المسلمات الدينية.
لكن إذا كان التجديد الديني مطلباً بديهياً اليوم، في مواجهة طوفان التقليد والعودة إلى أقصى التأويلات تطرفاً، ولم يكن للباحثين العلميين في الدين ما يؤهلهم للانتصار على خصومهم من أصحاب المحافظة والاقتداء… فكيف يكون الإصلاح؟ ومن المؤهل لنقل جمهور المؤمنين من تصوره البالي لمقاصد الشريعة ومطالب الإيمان إلى تصور جديد ينسجم مع متطلبات العصر الأخلاقية والمعنوية؟ هذا موضوع مقال قادم.
الاتحاد