مصر: الجميــع ضــد “الإخـوان”
عبد العظيم حماد
ببراعة لا تقل عن براعته في الكتابة الدرامية، لخص الأستاذ وحيد حامد مأساة جماعة الإخوان المسلمين من الناحية السياسية، ومأساة المصريين مع الجماعة، في عبارة قليلة الألفاظ غزيرة المعاني.
وذلك حين قال في حديثه الأخير لملحق “الأهرام” (ع الهواء): إذا كانت الجماعة لم تقبل اختلافا معها في عمل فني فكيف ستقبل المعارضة إذا وصلت إلى الحكم؟!
وأضيف من جانبي أن المؤكد أن الجماعة في حالة وصولها إلى الحكم سوف تعتبر المعارضة لسياستها معارضة لشرع الله، فإذا تبين بعد ان شرع الله بريء من أخطائهم البشرية، فسوف يقولون بكل اطمئنان انهم أخطأوا في التأويل، وجلّ من لا يخطئ.
الفائدة الكبرى التي أسداها وحيد حامد بإبداعه لمسلسل الجماعة مع كل التقدير والثناء المستحقين لكل من شارك في هذا العمل، ومع بعض التحفظات المحدودة التي لا محل لذكرها الآن هي أنه أنزل هذه الجماعة، فكرة وتاريخا واعمالا وأعضاء وزعماء من عالم الأساطير الغائمة إلى أرض الحياة اليومية، ومن دائرة القداسة إلى واقع السياسة النسبي غير المقدس على الاطلاق، وبالطبع فقد كان في مقدمة من أنزلوا من ذلك الأفق الأسطوري المقدس مؤسس الجماعة ومرشدها الأول المرحوم الأستاذ حسن البنا الذي شاهدناه بشرا كالبشر من أمثاله من أصحاب الأفكار والأدوار التاريخية، وليس إماما معصوما من الخطأ لا يعتريه الضعف، ولا تشوبه الشوائب.
وهنا ينتهي دور وحيد حامد، ودور الدراما حتى وإن كانت هناك أجزاء تالية من هذا المسلسل. وهنا أيضا يجب أن يبدأ دور السياسة والثقافة العامة، في الإفادة من الزخم النفسي والفكري الذي صنعه عرض الجزء الأول في البحث عن حل ديموقراطي سلمي لمعضلة مصر وبقية الدول العربية والاسلامية مع جماعة الإخوان وعموم تيارات الاسلام السياسي. وهو بحث يجب أن يشارك فيه الإخوان أنفسهم وبقية الجماعات الاسلامية ذات الطبيعة السياسية، فمما لاشك فيه أن هذه الجماعات وفي مقدمها جماعة الإخوان انما تعبر عن تيار حاضر بقوة في المجتمع المصري، وغيره من المجتمعات العربية والاسلامية، وإلا ما كانت عاشت وازدادت قوة عبر هذا التاريخ الطويل كله، رغم ما ارتكبته من اخطاء وخطايا، وجرائم في أحيان كثيرة، وعليه فإن من مصلحة الجميع أوطانا وشعوبا في الحاضر والمستقبل البحث عن حل لتلك المعضلة التي أشرنا اليها، بحيث ينخرط هذا التيار طوعا أو كرها مع الآخرين في توافق سلمي على بناء النهضة والتقدم والأمن القومي.. و… و… و…. الديموقراطية.
وفي الحالة المصرية تحديدا يبدو الظرف مثاليا لتجربة قد تصل بنا إلى هذا التوافق التاريخي، فنحن مقبلون على انتخابات برلمانية، بالغة الأهمية، لأنها تسبق انتخابات الرئاسة من ناحية، ولأنها تأتي بعد انتخابات حقق فيها الإخوان انتصارات غير مسبوقة، والذي نقترحه ببساطة هو حصار الجماعة بأقوى الضغوط السلمية الديموقراطية المشروعة قانونا لاجبارها علي مراجعة تاريخها، وفصل العمل السياسي الذي هو نسبي ومتغير بطبيعته عن القيم الثابتة أو المطلقة، مع الاعتراف بحقها الذي لا نزاع عليه في استلهام تلك القيم كمرجعية للأداء السياسي والبشري القابل للرفض والمعارضة، دون أن يعد ذلك اعتراضا على شرع الله وقيم الاسلام، ولتحقيق ذلك يجب على الحزب الوطني ألا يجد غضاضة في عقد صفقة مع سائر الأحزاب الشرعية المؤمنة بالديموقراطية ونسبية السياسة ومدنية الدولة لخوض انتخابات حرة تأتي ببرلمان توافقي تقل فيه أو تنعدم فرص الإخوان للفوز ما لم يلتزموا بالشروط التي اتفق عليها الجميع، وهي كما ذكرنا احترام الديموقراطية، ونسبية السياسة ومدنية الدولة، ورغم ما تثيره كلمة صفقة من حساسية لدى البعض، فإنه لا عيب في مبدأ الصفقات السياسية من حيث الأصل، بل انها في كثير من الأحيان تكون عملا محمودا، إذ أن مبدأ الصفقات هو الأساس في تشكيل ما يعرف باسم الجبهات وطنية كانت أم شعبية، ولكن يشترط في الصفقة لكي تكون غير معيبة ان تكون علنية ومعروفة المبادئ والأغراض، وربما محددة المدة.
وقد جربت مصر هذا النوع من الصفقات في مراحل مهمة من تاريخها، أبرزها الائتلاف الكبير بين الوفد بقيادة سعد زغلول نفسه والأحرار الدستوريين بقيادة عدلي يكن بعد سقوط حكومة زيور باشا، والائتلاف بين الحزبين أيضا في أول حكومات النحاس باشا سنة 1928 بعد وفاة سعد زغلول، وفي تلك التجارب كلها كان يتفق حزب الغالبية التقليدي مع شركائه الآخرين بعد مفاوضات شاقة بالطبع على اغلاق دوائر بعينها لأحزاب الأقليات حتى تمثل في البرلمان، دون مزاحمة أو ضغط من حزب الغالبية، ولم تكن النتائج سيئة، بل كانت على العكس بالغة الايجابية لولا أن احزاب الأقلية بالتواطؤ مع القصر الملكي كانت هي التي تنقلب على هذا التوافق أو التآلف، لتنفرد بالحكم بتأييد القصر، ومن ثم تعود الحياة السياسية إلى التأزم من جديد.
لكن هذه الصيغة لن تؤدي الغرض المطلوب منها وهو تحقيق نقلة نوعية في حياتنا السياسية نحو الديموقراطية، وتقوية الأحزاب المدنية المعارضة إلا إذا أخذها الحزب الوطني مأخذا أكثر جدية من مجرد تمثيل تلك الأحزاب بعدد هزيل من المقاعد على سبيل استيفاء الشكل، بل إن تلك الصفقة لن تؤدي الغرض منها حتى وإن حصلت بموجبها أحزاب المعارضة على عدد معقول من المقاعد، من دون أن يكون للمعارضة دور حقيقي من خلال التمثيل البرلماني في رقابة وترشيد الأداء الحكومي، والسياسة القومية، فذلك هو الذي يضع جماعة الإخوان وبقية تيارات الاسلام السياسي تحت الحصار الذي نأمل أن يدفعها كرها ان لم يكن طوعا لقبول الشروط السالفة الذكر، وبذلك يكسب الجميع بمن فيهم الاخوان وغيرهم من الاسلاميين، علما بأن الإكراه السلمي في السياسة لا غضاضة فيه، مادام يتم بالوسائل القانونية والديموقراطية.
•••
فإذا كان الحزب الوطني الحاكم لا يزال مترددا في قبول درجة أكبر من المشاركة السياسية مع الآخرين بحكم ثقافة احتكار السلطة طوال عقود، وإذا كان الحزب الوطني يخشى من تمرد بعض اعضائه ممن سوف يحرمون من الترشيح في الدوائر التي سوف تغلق لمصلحة مرشحي المعارضة، فإن المكاسب التي ستحققها مثل تلك الصفقة المقترحة تفوق بكثير تلك الحسابات الضيقة.
إن الوقت قصير، والظرف مناسب، والفائدة مؤكدة… فهل من قرار؟
النهار