الفساد والتخلف متلازمان في الدول الهالكة
غسان المفلح
نادرا ما يوجد بلد في العالم، متقدم وسلطته فاسدة، ونادرا ما يوجد بلد في العالم متخلف وسلطته نزيهة..! لكن يوجد في عالمنا العربي ونتيجة الفورة النفطية، دول شعبها يعيش في بحبوحة، والفساد ينخر سلطاتها. وهذا استثناء قليل جدا يؤكد القاعدة..
لا يوجد في العالم أيضا دولة فاسدة، لأن قانون الدولة لا يوجد في مواده أي مادة من أي نوع كان تشرعن الفساد ونهب المال العام..لذا يحتاج الأشخاص القائمون على السلطة، إلى جملة من الممارسات والآليات، لاختراق قانون الدولة..في الدول الديمقراطية نجد أن النخب المنتخبة مباشرة من قبل الشعب وعبر انتخابات حرة ونزيهة، نجد أن الفاسد منها، بالضرورة هو رجل يخترق القانون، والمنافسة السياسية والرقابة المجتمعية، تجعله يعد إلى المئة من أجل القيام بسرقة المال العام، والتقاليد التي أرستها هذه الدول عبر تجربتها التاريخية، تجعل من الصعب تمرير هكذا أمر..وإن مر، فإن مروره يكون مصادفة ما، ومع ذلك نجد أن هذه الظاهرة الفاسدة تحمل سمة شخصانية، يعني أن يقوم به الوزير الفلاني بوصفه شخصا، وليس بوصفه ممثلا للقانون الذي عينه وزيرا له صلاحيات؟ ثم في حال انكشافه، يقال ان الوزير الفلاني سرق كذا أو سمسر في صفقة ما…ويحال إلى المحاكمة بدون تردد..ومهما تكاثرت هذه الظواهر إلا انها تبقى في إطار المسيطر عليه، لجهة عدم انعكاسه على الاقتصاد الوطني، وعلى دخل المواطن في تلك الدول.
لهذا كنا ولازلنا نرى ضرورة التمييز بين سلطة الدولة وبين السلطة التنفيذية..السلطة التنفيذية هذه وفي تلك الدول يأخذها تيار سياسي، ويتربع أشخاصه على مناصبها برضى أكثرية الشعب…
المنصب هناك محط الأنظار’ المنافسين والصحافة الحرة والأحزاب الصغيرة والكبيرة، ومنظمات المجتمع المدني…كلها تتابع وتلاحق قضائيا في أحيان كثيرة شخوص هذه المناصب..هنا تكمن أهم ميزات القانون الديمقراطي الذي تحول بفعل الزمن وتراكم التجربة والخبرة إلى عرف أيضا…محاسبة المسؤولين…قانون وعرف اجتماعي وسياسي…وهذه الرقابة التنافسية ومؤسساتها هي توزيع دستوري ومشروع لسلطة الدولة، وهذا ما ترفضه السلطة الشخصانية، وتحتكره لنفسها، وهذا موضوع يحتاج للعودة إليه لتوضيحه، لأهميته في تحديد مفاهيمنا..
المثال المصري لكونه الآن حديث الإعلام بحكم قرب الانتخابات المصرية: التطور الذي حدث والاختلاف بين مصر الثمنينيات ومصر الآن…في دور التفتح الديمقراطي البطيء حيث بدأ المجتمع المصري يمارس رقابته بالتدريج..وبدأ المواطن المصري، يلجأ لمنظمات المجتمع المدني كي تنصفه، وهذا تطور مهم…بينما هذا الأمر لم يكن واردا في تلك الفترة..الأحزاب المعارضة صغرت أم كبرت هي الآن بالمرصاد لنخب الحزب الحاكم..وهذه التقاليد لا تبنى بين ليلة وضحاها..ثم الدولة التاريخية الراهنة تعتمد الفصل بين السلطات، التشريعية والقضائية والتنفيذية، هذا الفصل أتى عبر هذه التجربة التاريخية، ليؤكد عنوانا بسيطا: سيادة الدولة هي السلطة التي تكون فوق هذه السلطات، ولا مجال للتلاعب فيها، إلا بتغول واحدة من هذه السلطات، واغتصابها لبقية السلطات بما فيها السلطة السيادية للدولة.
الاغتصاب أيا كان هو فعل شخصاني، لا توجد دولة في العالم تغتصب سلطتها، ولا توجد سلطة دولة تغتصب دولتها، الأصل في القصة، هو التصرف الرسالي- أنبياء أيديولوجيون، أو ضباط خلاصيون بطموحاتهم- ضد قانون الدولة، وهذا السلوك الذي كما قلنا في كتابات سابقة، يكون بالضد من قانونية الدولة حتى ولو كانت ضعيفة أو حديثة التكون، وأكثر ما يميز هذه الرسالية هو: تشفيه القانون وإخفاؤه تحت هالة من الخطاب التعبوي الرسالي دينيا أم قوميا أم عداليا من جهة، وتقديس الأشخاص الناطقين به، حتى يتحول كل هذا إلى عرف اجتماعي يتراكم بفعل عاملين: الأول استخدام قوة الدولة وإشعار الأصدقاء فيها قبل الأعداء، بقوة السلطة مشخصة بقائد أو ملك، والميكافيلية هنا لا تتحدث عن الدولة بقدر ما تتحدث عن الأمير المستبد، والعامل الثاني اللجوء إلى الرشوى الاجتماعية والمالية للمجتمع، وهذا ما يسمى عادة بإفساد المجتع، ثم رشاوى سياسية وخلافه للنظام الدولي أو لجزء منه، ورشاوى لشركات عملاقة لها عبر استثمارات وعمولات وخلافه.
نقول تغول الدولة ومن ثم نصفها بالضعيفة! هذا لا يستقيم، لأن النقاش يتعامل هنا، مع إطار قانوني وليس إطارا شخصانيا، وهذا ما يجعل السلطة المشخصنة طيه غير ظاهرة في تشرير مفهوم الدولة. لا توجد في قانون أي دولة إقامة مهرجانات الولاء والتأليه لأشخاص، وعلى حساب موازنتها المالية.
هذا لا يعني ان هنالك جدارا أسمنتيا يفصل السلطة الشخصانية عن دولتها، لأن هذه السلطة لا يمكن لها الحياة دون أن تستخدم سلطة الدولة، كما لا يمكن لدولة أن تستمر بدون سلطة، السلطة تستخدم قانون الطوارئ الذي تقره الدولة في قانونها عند الأزمات. بينما تستفيد السلطات المشخصنة منه لكي تستخدمه بشكل لا قانوني، لأن لقانون الطوارئ وجها يتمثل في إعطاء صلاحيات غير مؤسسية، كأن يتدخل الجيش، أو كأن يعطي صلاحية لأجهزة المخابرات أن تتصرف في لحظة ما وفقا لتقديراتها، وكما هو معروف أن أخطر ما يمثله قانون الطوارئ هو شخصنة القانون أي تركه لشخصيات مطلقة الصلاحية، وبدون رقابة.
كنت تناولت موضوع الثقافة الشفاهية ودورها في السلطات المشخصنة، وعداءها للثقافة المكتوبة، القانون هو ثقافة مكتوبة، لها أس أخلاقي، فهو يحمي الجميع من الجميع…لا يوجد قانون مكتوب بدون أس أخلاقي.
هذه الشخصنة لعلاقات القوة بين السلطة والدولة، وبين السلطة والمجتمع، تتحول مع الزمن إلى جملة من علاقات القوة، سواء على المستوى الأمني، أم على المستوى الاقتصادي والسياسي، ويتداخل هذا مع سرقة ونهب المال العام…
المال العام المنهوب لا يعوض، ما لم تكن هنالك خميرة قوية جدا، لا تعوضه وإنما تمد بعمر عدم الإحساس به لفترات طويلة، كالمورد النفطي، أو المورد الزبائني، تحصيل دخل ما بالقوة من توترات إقليمية أو دولية او ماشابه..هذا يقودنا أيضا إلى وجه الفساد الآخر’ الاستخدام الاستخباراتي بطرق غير قانونية وغير شرعية، ولا علاقة لها بمصالح البلد، بل بمصالح السلطات وأشخاصها..اللعبة الاستخباراتية العربية في لبنان نموذجا. تتحصل هذه الشخصيات السلطوية على أموال بحكم موقعها الاستخباري وإطلاق يدها فيه..
تراكم مال الفساد هذا يكون بالضرورة على حساب تجديد بنى الدولة ومؤسساتها، وتجديد البنى التحتية وملاحقة أسباب التطور والحصول عليها، لكي يتنعم بها المواطن في هذه الدولة. وهذا ما لا يحدث، لأن أموال الفساد قد خزنت في مكان آخر، وقد استخدمت بغير هذا المجال التطوري.
مثال آخر: رئيس فرع مخابرات يمكن أن يفتح طريقا ويؤمن مستلزماته كلها من أجل قصر بناه في مكان ناء قليلا.. بينما قرى بحالها لا توجد فيها طرقات وإن وجدت، فهي مهترئة، قصر يصله الانترنت وكل وسائل الاتصال، وغالبا ما تكون كل هذه الأموال على حساب خزينة الدولة، ولا يدفعها من جيبه الخاص، لأنه لو كان نزيها لا يستطيع تأمين الأموال من أجل هذه المسائل، وكل هذا يتم بتلفون من الشخص المذكور، وبعدها تتم تسوية الأوراق ومتطلبات الصرف..بينما قرى بكاملها لازالت لا تعرف النت…
الفساد هو أصل اهتلاك الدول، وفيما بعد تسمى دولا فاشلة…
‘ كاتب سوري
القدس العربي