الكذب ملح المفاوضات
فواز طرابلسي
مع «تقدم» المفاوضات الإسرائيلية الفلسطينية، تتسع الفوارق، بطريقة فاغرة، بين الشروط والطروحات التي يتقدم بها الفريق الإسرائيلي وبين الشروط والطروحات التي يعلنها المفاوض الفلسطيني.
يحين موعد انتهاء العمل بقرار التجميد الجزئي للبناء الاستيطاني في الضفة الغربية في غضون أيام. يصر السيد محمود عباس بأنه لن يستمر في التفاوض إذا استؤنفت أعمال البناء الاستيطاني (وهي لم تتوقف أصلاً). تتقدم الولايات المتحدة بمشروع للتمديد لشهرين أو ثلاثة يصعب أن يلقى الرفض الكامل من قبل المفاوض الإسرائيلي.
ولكن فيما الأنظار تتجه إلى الراهن من الخلافات، حدود الدولة، الأمن، القدس، قبل البحث فيما يسمى الحل النهائي، تميّز الأسبوع الأخير بإعلان المسؤولين الإسرائيليين صيغهم للحل النهائي، وفق منطق يقول إن غرض المفاوضات ليس مجرد التسوية بل هي «إنهاء للنزاع». في أقل تقدير، باتت كل الأوراق ـ الإسرائيلية ـ على الطاولة. بها يعود المفاوض الإسرائيلي، على نحو غير مسبوق، إلى أساسيات النزاع الفلسطيني ـ الإسرائيلي والعربي ـ الإسرائيلي.
الوقاحة عند أفيغدور ليبرمان بلا حدود. يذكّر مَن لم يدرك بعد أن إسرائيل ترفض مبادرة السلام العربية جملة وتفصيلاً. يقلب معادلتها رأساً على عقب. أن المعادلة ليست معادلة الأرض مقابل السلام، إنما هي معادلة مبادلة الأراضي والسكان. يدعو إسرائيل لتتأهب من أجل حل يتضمن تبادلاً للسكان إلى جانب تبادل الأراضي. يدعو أن تكون مسألة مواطني إسرائيل العرب إحدى القضايا المركزية على طاولة المفاوضات.
السبب الذي يعطيه ليبرمان لهذا الانقلاب هو رفض الفلسطينيين الاعتراف بيهودية دولة إسرائيل. لأن الفلسطينيين يرفضون الاعتراف بيهودية إسرائيل، يجب أن يجري تبادل سكاني «يخرج» بموجبه فلسطينيو أراضي الـ48 و«يدخل» المستوطنون اليهود ومعهم أراضي الضفة الغربية والقدس الشرقية التي بنيت عليها مستوطناتهم واستوعبها الجدار، علماً أن البناء الاستيطاني مستمر والجدار يمتد ويتوسع.
هذا ما يجب أن يجري إذا رفض الفلسطينيون الاعتراف بيهودية دولة إسرائيل. ولكن، ماذا لو اعترفوا بيهودية دولة إسرائيل؟ النتيجة ذاتها. إذا قبل المفاوض الفلسطيني الاعتراف بيهودية إسرائيل، يكون قد اعترف بحق إسرائيل في أن تجري تبادلاً للسكان لتتخلص من الأقلية العربية في إسرائيل، طالما أنه من غير المنصف، كما يدعي ليبرمان، أن لا تضم الدولة الفلسطينية يهودياً واحداً في حين تضم الدولة اليهودية أكثر من مليون عربي!
مع أن هذا الرأي صادر عن الشخص الثاني أو الثالث في تراتبية الحكومة الإسرائيلية، سارع ليبرمان إلى التصريح بأنه يورد هذا الاقتراح بالصفة الشخصية.
يمكن الرد على اقتراح التبادل السكاني هذا باقتراح بديل. لماذا، مثلاً، لا يجري تبادل للسكان بين الدول العربية وإسرائيل؟ فتستعيد الدول العربية الجاليات اليهودية التي غادرتها وتستعيد دولة إسرائيل اللاجئين الفلسطينيين. ما من شك في أن معارضي التوطين في لبنان سوف يسرّون لهذا الاقتراح.
الحقيقة أن الاقتراح ليس رأياً شخصياً لكاتب هذه السطور. إنه مشروع تقدم به «الأخ أبو مازن» في السبعينيات، وكان عضو اللجنة المركزية لحركة فتح، واشتغل عليه لسنوات وأقام له مؤسسة أبحاث وأجرى له الاتصالات، بل ألّف عنه الكتب. يستطيع الرئيس محمود عباس (الأخ أبو مازن) أن يوفر على نفسه عناء التشاطر الكلامي بأنه اعترف بدولة إسرائيل في أوسلو، و«سمّوها ما شئتم» ـ وكأن الموضوع موضوع تسمية ـ فيقدم هذا الاقتراح، بالصفة الشخصية، طبعاً. كما يستطيع متحمّس فلسطيني أو عربي، أن يرد على اقتراح التبادل الليبرماني باقتراح للتبادل السكاني يعود بموجبه اليهود الذين هاجروا إلى فلسطين بعد العام 1920 إلى بلادهم الأصلية، في مقابل عودة اللاجئين الفلسطينيين هم أيضاً إلى بلادهم، فلسطين. ما دام البحث هو على مثل هذا المستوى «الجذري»، فعلى المستوى ذاته يجب أن يكون التفاوض والنقاش.
السيد ليبرمان صريح وعنصري ومتهم بالفساد. أما رئيس وزرائه، فمناور ودجّال. ولسنا نتجنى عليه إذا اتهمناه بالكذب. فقد اعترف هو نفسه بأنه كذب على إدارة الرئيس الأميركي بوش في صدد تجميد المستوطنات، إبان ولايته السابقة، من أجل نسف اتفاق أوسلو. ويجب الاعتراف له بأن كذبه كان مجزياً.
للمزيد من توضيح صيغة «دولتان لشعبين»، يدعو نتنياهو إلى «تقرير المصير» للشعبين. يقول إنه طالما أن إسرائيل اعترفت في أوسلو، بحق الشعب الفلسطيني في «تقرير المصير»، فعلى محمود عباس والفلسطينيين الاعتراف بحق الشعب اليهودي في تقرير المصير في «وطنه التاريخي».
كذبة! لم تعترف إسرائيل للشعب الفلسطيني بحق تقرير المصير في اتفاق أوسلو! اعترفت بمنظمة التحرير ممثلاً للشعب الفلسطيني وبإقامة سلطة انتقالية ذاتية على الضفة الغربية وغزة. أما الاعتراف بحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره، على أرضه، فيعني في أقل تقدير: حقه في الاستقلال والسيادة على أرضه، حقه في الانفصال أو الوحدة مع أي شعب أو دولة في الجوار، وحقه في بناء دولته المستقلة. فأين في مواقف الحكومات الإسرائيلية ظهر الاعتراف بالاستقلال الناجز والسيادة الكاملة للشعب الفلسطيني على أرضه، حتى في حدود الأراضي المحتلة عام 1967، ولم يبق منها قيد البحث أكثر من ثلاثة كانتونات منفصلة فيما رئيس وزراء إسرائيل يصر، في تصريحه ذاته، على بقاء الجيش الإسرائيلي على الحدود بين الضفة الغربية والأردن، منعاً لقيام «جبهة شرقية» ضد إسرائيل، حسب تعبيره.
وهل من حاجة لأن نكمل ملاحقة الكذاب إلى باب داره، فنسأله أين يقع «الوطن التاريخي» للشعب اليهودي؟ وأين تقع حدود دولة إسرائيل؟ وهل يعترف نتنياهو للشعب الفلسطيني بحق تقرير المصير فقط أو بحق تقرير المصير «في وطنه التاريخي»، وطالما أننا نبحث في صيغة «دولتين لشعبين»، فأين يقع «الوطن التاريخي» للشعب الفلسطيني ليمارس عليه حق «تقرير المصير» الذي يزعم السيد نتنياهو أنه اعترف له به؟
وفق منطق التوازي ذاته بين الدولتين لشعبين، يخلص نتنياهو لاقتراح «حق عودة» للشعبين أيضاً. يقول: «مثلما منحت إسرائيل كل يهودي في العالم حق الهجرة إلى إسرائيل، على الدولة الفلسطينية الجديدة أن تسمح للفلسطينيين في جميع أنحاء العالم بالهجرة إلى أراضيها. إن اللاجئين الفلسطينيين لا يملكون الحق في المجيء إلى الدولة اليهودية».
هذا أوضح رفض رسمي علني إسرائيلي لحق العودة الفلسطيني، المكرّس في قرار الجمعية العمومية للأمم المتحدة (بتاريخ 11 كانون الأول 1948). بل الأفدح، والأوقح، هو انقلاب المعادلات مرة أخرى. ليست إسرائيل هي من يمنع اللاجئين من «العودة» إنها السلطة الوطنية الفلسطينية التي تمنعهم من العودة إلى الضفة الغربية وغزة أو ما بقي منهما. صدّق أو لا تصدّق. هل من أحد يسأل هذا الدجّال إذا كان يوافق على أن يدخل أربعة ملايين ونصف المليون فلسطيني إلى الضفة الغربية وغزة أصلاً؟
ليس هذا تمريناً في تحليل النصوص. لكنه تنبيه إلى أن هذا المستوى من التصعيد الجذري في الأهداف والمطالب، لا يواجه بالجزئيات والتشاطر الكلامي.
مع أننا لسنا ندري بعد ما حدود الدولة التي اعترفت بها منظمة التحرير الفلسطينية أو تلك التي اعترفت بها مبادرة السلام العربية سلفاً، اقترب نتنياهو وليبرمان كثيراً من صياغة شروط الاستسلام الإسرائيلية على الشعب الفلسطيني والعرب عموماً. ولم يعد الحديث عن برنامج «تصفية» من قبيل المبالغة الدعاوية أو الارتياب المؤامراتي.
ولمن يعتقد أن هذه كلها مناورات إسرائيلية لاستدرار التنازلات، فليقتدِ بالعدو. ولتُطرح شروط الاستسلام الفلسطينية العربية على إسرائيل! على افتراض أن في ذلك ما يستدر التنازلات لمصلحة الفلسطينيين والعرب مجتمعين.
السفير