في انتظار فؤاد باشا!
الياس خوري
اعتقد بعضنا ان الخروج العسكري السوري من لبنان سوف يعني اقفال الساحة اللبنانية، والشروع في بناء الوطن.
وكان هذا البعض على خطأ.
احد الافتراضات الساذجة التي سادت هي ان الآخرين يتحملون وحدهم مسؤولية انهيار الدولة اللبنانية، عبر ظاهرة ما أُطلق عليه في العالم اسم اللبننة، التي باتت تعني تفكك الدول. الآخرون، في عُرف هذا الافتراض هم الجميع: من الفلسطينيين والسوريين الى الاسرائيليين والأمريكيين الى آخره… اما الشعب اللبناني فهو شعب البراءة والضيعة الوادعة واغاني فيروز…
من هنا سادت المقولة الشهيرة عن ‘حروب الآخرين’، او ‘حروب من اجل الآخرين’، بحيث اصدر اللبنانيون الحكم ببراءة انفسهم قبل اجراء اية محاكمة نقدية للحرب، ما استتبع صدور قانون العفو الشهير، الذي شرّع حكم امراء الحرب وسفّاحيها، وجعل الوطن الصغير اسير طوائفه من جديد.
ولكن بعد خروج الآخرين، عبر الاندحار الاسرائيلي عام 2000، وانسحاب الجيش السوري عام 2005، لم يعد في استطاعة اصحاب فكرة حروب الآخرين، تبرئة انفسهم، فخروج الآخرين حمل في طياته احتمالات تجدد الحرب الأهلية في اي لحظة. لكنه فتح الشبابيك كلها من اجل عودة هؤلاء الآخرين. فالحرب الأهلية تحتاج الى آخرين من اجل تمويلها وتسليحها، والطوائف تحتاج الى حماة من اجل استمرار لعبتها.
هكذا دخل الامريكيون والسعوديون على خط انتفاضة الاستقلال، ودخل السوريون والايرانيون على خط الانتفاضة المضادة. وجرى تحويل الدور اللبناني من ساحة للصراعات الاقليمية والدولية الى كواليس مسرحها.
المسرحية تدور في المفاوضات الاسرائيلية- الفلسطينية، التي يريد الامريكيون توسيعها كي تشمل سورية، وكواليس المسرح في لبنان تشتعل بالصراعات، التي وصلت الى ذروتها في الاستقبال المثير في مطار بيروت الذي نظّمه حزب الله لضابط الاستخبارات اللبنانية السابق اللواء جميل السيد، على اثر عودته من باريس يوم السبت 18 ايلول- سبتمبر الجاري.
هكذا تقوم الكواليس بتغيير المشهد، فيتحول الضابط السابق بطلا، ويتم استقباله بكل مظاهر التكريم والتعظيم، ويجري محو تاريخ من القمع الذي دام خمسة عشر عاما بالتماعات اضواء كاميرات التلفزيون.
المسألة ليست هنا، ولا في متاهة شهود الزور، المسألة في مكان آخر، ولها اسم واحد هو الصراع السني- الشيعي على الهيمنة على لبنان.
واذا كانت الورقة الشيعية قوية بالمقاومة المسلحة والفعّالة التي صنعها حزب الله، وادت الى فشل الحرب الاسرائيلية على لبنان في تموز/ يوليو 2006، والحاق هزيمة عسكرية وسياسية بالجيش الاسرائيلي، فإن الورقة السنية تحمل في المقابل ذاكرة الدعم الطويل للمقاومة الفلسطينية خلال الحرب الأهلية اللبنانية، وتستند الى النظام العربي الذي تقوده السعودية منذ هزيمة الخامس من حزيران.
صحيح ان الشيعية السياسية في نسختها الجديدة التي يمثّلها حزب الله، تملك تفوقا ناجما عن نجاحها في بناء مساحة امنية خاصة بها لا سابق لها، لأنها انتزعت هذه المساحة من اسرائيل وبالكفاح المسلّح الطويل، غير ان قدرتها على توظيف هذه المساحة عبر شمولها كل لبنان تبقى محدودة، بسبب العاملين الداخلي اي الطائفي، والاقليمي، اي التوازنات السعودية- السورية.
والتحالف الشيعي- الماروني، الذي يمثله الحلف بين التيار العوني وحزب الله، لا يستطيع حسم الصراع، لأنه يشبه الحلف بين تيار المستقبل ومسيحيي 14 آذار. فالتحالف الأخير لم يستطع ترجمة انتصاره في الانتخابات البرلمانية الى سلطة تحكم منفردة.
والسبب في ذلك يعود الى ان المارونية السياسية اللبنانية خرجت من المعادلة. وجاء خروجها بعد هزيمتها في الحرب الأهلية، وكعقاب مُستحق على تعاملها المخزي مع اسرائيل، ولأنها ايضاً لم تعد تجد حليفاً دولياً او اقليمياً تعمل لحسابه.
الصراع على السلطة اذاً هو في عنق الزجاجة الشيعي- السني. وقد ارتكبت القيادات السياسية للطائفتين الخطأ القاتل بالتحالف مع قوى خارجية. وهو خطأ بنيوي وقَدَري، لأنها لا تستطيع ان تقوم كبنية مهيمنة من دون ارتكابه.
هكذا استدعت الطوائف اللبنانية الكريمة القوى الخارجية. مقولة حروب الآخرين لا تصح الا في حال تغييب فكرة الوطن، وهو احدى سمات النظام الطائفي الذي تأسس في ظل حكم المتصرفية 1860 ولا يزال مستمراً الى يومنا هذا.
غير ان هناك عاملا متجدداً، يجب أخذه في الحسبان، لأنه من المرجّح ان يكون العامل الحاسم في هذه الدورة الجديدة من لعبة الصراع على السلطة. وهذا العامل هو مبنى متكامل في السياسة اللبنانية والاقليمية رسمه الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد، ويتألف من ثلاثة عناصر:
– الحياد غير السلبي، الذي يقوم على دعم طوائف ضد طوائف، من دون ان يسمح لأية طائفة بسحق الطوائف الاخرى، وهذا يتم عبر لعب دور الحَكَم الذي يصير حاكما ساعة يشاء.
– ابقاء الباب مفتوحا امام الحوار مع الأمريكيين، عبر سياسة عربية متوازنة قوامها التفاهم مع السعودية، وعدم تحويل الخلافات الى صدام. وفي حال القرار الامريكي بالصدام فإن النظام يملك احتاطيا استراتيجياً هو تحالفه مع ايران، كي يصدّ اي هجوم.
– ابقاء الصراع مع اسرائيل متأججا في الأطراف، اي عبر البوابتين اللبنانية والفلسطينية، ولكن تحت سقف العمل على تلافي الوصول الى حرب شاملة.
استعادت هذه الثوابت زخمها مع فشل الهجوم بهدف اسقاط النظام السوري، وهو فشل قاد الى استعادة النظام دوره الاقليمي، والى اقامة توازناته الجديدة عبر ادخال الطرف التركي في المعادلة، بسبب الضعف السعودي المتفاقم.
وبعدما بُرىء النظام السوري من دم رفيق الحريري، يستطيع اليوم ان يبدأ في لعب دور ضابط التوازن الداخلي الجديد في لبنان، وهو الدور الأكثر صعوبة في تاريخه، لأن قوى الصراع الحالي لم تعد ميليشيات صغيرة، بل هناك جيش منظّم ومجهّز ومموّل اسمه حزب الله من جهة، وطائفة سنية منظّمة وتملك المال، وهي امتداد للأكثرية في العالم العربي، من جهة أخرى
لعبة الصراع بين الطائفتين الكبريين في لبنان قد تكون الأكثر خطراً، وسوف تستدعي حُكما تدخل والي الشام.
عام 1860 حسم والي الشام فؤاد باشا الحرب الأهلية في جبل لبنان التي دارت بين الموارنة والدروز، وانتهت الى تأسيس المتصرفية.
فمن يكون فؤاد باشا الجديد؟
وهل يستطيع اداء دوره الصعب؟
القدس العربي