صفحات العالمما يحدث في لبنان

زعران!

نهلة الشهال
من دون «ال» التعريف، في محاولة لتقريبها من الصفة أكثر من تعيينها لموصوف. أو فلنقل – حتى لا يغضب اللغويون من هذه البدع – هي محاولة للتعميم بواسطة التجهيل، عسى ذلك يجعل من الشتيمة فعلاً عادلاً مساواتياً. ولولا وجود سليم الحص ليذكرنا أنه وجد في يوم من الأيام رجال دولة في لبنان، سواء كانوا في الحكم أو المعارضة، لمال المرء إلى اعتبار الحالة الراهنة خاصّية عامة للبلد: الطبقة السياسية المسيطرة مؤلفة من زعران!
والزعرنة أنواع. هناك من يكذب جهاراً نهاراً، فيتكلم بأناقة عما يفترض أن يكون – عن المؤسسات، واحترام القانون ومصير البلد إلخ – وهو يعرف أن تحت كلامه الظاهر طبقة دفينة من الكلام، ولكل مفردة ينطق بها قرين، كما في حكايات الجن. ومستمعوه يعرفون، ويتولون الترجمة الفورية في عقولهم ثم في ما ينطقون به، فإذا بالخطاب يتعلق بهواجس السطوة والابتزاز، وإذا به طائفياً حتى النخاع. ويتلقفه الصف الثاني فيسف وينفلت لسانه عن أقوال يتداولها عادة الرعاع. ولا حاجة لذكر الأسماء، فالتوصيف يدل أي مشاهد للتلفزيون على الشخوص وهم كثر، بل تحدث مباراة في المزايدة وكأن من لا «يقول» على هذه الشاكلة، ينتقص صمته أو أدبه في الكلام من مكانته. وأغلب الظن أن هناك أيضاً تبييض وجه أمام الزعيم الأكبر، تزلفاً واستجلاباً للمنافع، أو دفاعاً عن موقع ودور مكتسبين. وهناك بالطبع من يستعمل علو نبرته وتطرفه في تأكيد وجود يتزايد هامـــشية. وجود شخصي أو جماعي. وهناك قلة تحرض لأغراض سياسية حقيقية، بمعنى أنها ترجو حصول تغييرات تلائمها، كحالة ممثلي القوات اللبنانية مثلاً وبعض الكتائب، الذين استعادوا النغمة الغبية عن الكيانات المفروزة، وهي بقايا أحلام قادتهم في ما مضى إلى أحضان إسرائيل، ولم ينتبهوا حتى اليوم إلى استحالة ما يحلمون به. فالبلد حين يتفكك ينتقل إلى الخراب وليس إلى الاستقلالات الفئوية. وحتى بلد بحجم العراق ومكانته وإمكاناته يطرح تفككه أفقاً مصيراً كهذا… واليمن والسودان كذلك، وما شئتم. لأن الآلية المفضية إلى ذلك حروب أهلية تتدرج إلى تناحر بين الجماعات المنسجمة نفسها. انهيار المشروع الدولتي الذي عرفته المنطقة في فترات مختلفة منذ بدايات القرن العشرين وحتى منتصفه، يفتح المجال أمام الفوضى والاقتتال والعبث.
استعراض حزب الله في المطار خسارة صافية له. فلا هو يضيف إلى قوته وقدرته العسكرية التي يفترض أن هاجسه هو إخفاؤها، ولا هو يردع خصومه عن العويل حيال انتهاكاته، بل بالعكس. هو ماء يصب في طاحونتهم. وما يحيل الفعلة من الغلطة إلى ما يقرب الزعرنة هو تحديداً الفارق بين القوة العسكرية والقوة الميليشياوية، وتلك الاستعراضية المقصودة ترهيباً. ثم علو نبرة من استهدفته الحماية، ولعله اطمأن إلى منعته، فنطق بمزيج من البهورة والتهور. ورد عليه خصومه بما يساويه، وتراشق المسؤولون بكلام السوقة بعدما ارتكبوا أفعالها.
لا عجب بعد ذلك إن كان عامة الناس فالتين تماماً. ليس لافتقادهم القدوة وبقية هذه الترهات، بل لما تنطق عنه الحالة العامة. لا يمكن لشرطي سير أن يوقف معربداً وراء مقوده، ولا هو يحاول ذلك أصلاً. ولم يعد أحد يعتذر لخطأ يرتكبه في الحياة المدنية اليومية، بل يمعن ويعنف ضحيته. لفتني أن إفساح المجال لسيدة متقدمة في السن للمرور على الرصيف أو لصعود باص النقل، لم يعد من ضمن قواعد السلوك المتعارف عليها، ليس فحسب لدى الشبان والشابات، بل عموماً. والأمثلة لا تحصى، وتشمل كل شيء. لفتني في زيارة حديثة لمدينة الرباط المغربية، مقدار التهذيب في تصرفات الناس في الشارع، وأزعم أنه واحدة من العلامات المؤكدة على وجود استقرار مجتمعي، حتى وإن كانت مشاكل المغرب، من فقر وسواه، عديدة. وحين يشكو ساكنو حي فقير في لبنان – وهذه شهادة مستقاة من بعض أحياء باب التبانة والقبة – من كثرة البعوض أو الجرذ، وتقوم البلدية، بعد لأي، بتنظيف الفسحات الداخلية بين البنايات حيث تتراكم النفايات التي… رماها السكان أنفسهم، غالباً من شرفاتهم، ثم تنذر الناس بعدم العودة لهذه الفعلة، يحتج هؤلاء ويغضبون من البلدية لأنها «تهددهم» بينما «الدولة» لا تقدم لهم شيئاً، ويسردون لائحة من الإهمالات تبدأ بانقطاع الكهرباء ولا تنتهي عند البطالة.
وهي حالة صحيحة، سوى أن وجهة التعبير عنها مدمرة. لفتني أن السائقين يسعون بكل ما أوتوا من قوة للتواطؤ «ضد» دورية لشرطة السير على الطرق العامة تسجل زيادة السرعة بواسطة الرادارات، فينبهون بعضهم لوجودها في تضامن ضد «الدولة»، أو يتبرع شغيلة محلات تقع على الأرصفة بـ «حراسة» سيارتك، ويقترحون تنبيهك إلى وجود دورية قريبة بواسطة «الميسدكول»! أو يقترحون عليك إيداعهم بعض النقود المعدنية لإسقاطها في العداد متى لاح موظف تكبيل السيارات المتوقفة بلا بدل. وهم يفعلون لوجه الله، ويعيدون الفلوس إذا لم يضطروا لدفعها، في عملية تواطؤ أخرى ضد الدولة. ويبرر الجميع ذلك بأن الأموال المجباة تسرق من قبل الحكام والمتنفذين!
وحين جادلتُ محـــدثيّ، ســـــاعية إلى إيجاد تسوية بين فقر الناس وضيقهم – في حالة ســـكان تلك الأحياء – وضرورة فرض بعض الانضباط عليهم من أجل مصلحتهم هم، حين سعيت إلى الوقوع على طرف خيط للخروج من الحلقة المفرغة تلك، رُدّ علي بإجماع واثق، بأنه لا يوجد حل، وبأنه لا أمل، وبأنها كذلك ولا مخارج.
فأي دولة هذه التي تستدرج كل الناس للانقلاب عليها وخيانتها يومياً وفي كل تفصيل. وهم إذ يفعلون ينتحرون أيضاً، إذ يقاوم الناس بالقدر نفسه من الاستماتة كل مسؤولية ذاتية، كمحاولة لإيجاد لجنة حي للعناية بالنظافة مثلاً أو لإدارة مشكلات الحياة اليومية وتنظيم التعامل المشترك، ويتوجسون منها، ويعتبرونها مفتعلة وبنت أفكار خواجات، أو متولدة عن مخططات لسياسي مستقر أو متبرعم، سيظهر خلفها بعد حين. وحين تنشأ مثل هذه الظواهر على رغم كل شيء، لعناد متوافر بالصدفة في مجموعة، يأتي فعلاً سياسي مستقر أو متبرعم لشرائها أو لضعضعتها بكل ما يملك من قوة.
ذاك جدل في صلب الاجتماع السياسي. لا يمكن تفسير قوة تقبل الاستقطاب الطائفي والمذهبي في البلد إلا بوصفها تفريغاً عصابياً لهذا الاختناق في الحياة العامة. ولا يمكن تفسيره إلا، وهذه مفارقة، بوصفه يأساً تاماً من القدرة على تحقيق شيء، ومن الإيمان بالتقدم أياً تكن مفرداته. و «لا قيم بلا إيمان»، كما قال الفيلسوف سلافوي زيزك.
الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى