صفحات العالمما يحدث في لبنان

واقعة مطار بيروت وضائقة المراقب الإسرائيلي

حازم الأمين
من المفيد ربما أن نتخيل كيف يراقب الإسرائيليون الوقائع الداخلية في لبنان، تلك التي شهدتها العاصمة بيروت في الشهرين الفائتين. الوقائع الأمنية والسياسية، بدءاً من حوادث برج أبي حيدر، أي الاشتباكات المسلحة بين «حزب الله» وجماعة الأحباش، وصولاً الى واقعة مطار بيروت الدولي التي انتهك فيها الحزب حرمة المطار، وما بين هاتين الحادثتين من احتقان ووقوف على شفير الانفجار.
بالنسبة إلينا في بيروت شكلت هذه الحوادث إشارات الى ضعف الدولة وأجهزتها في مقابل ضخامة آلة الحزب الأمنية والاجتماعية والسياسية، وعدم تردده في توظيف هذه الآلة ضارباً عرض الحائط بكل اعتبار لوجود سلطة ونظام وحكومة. وللوهلة الأولى قد يخيل إلينا أن ذلك انما هو استكمال لخيار الحزب نقل لبنان، كل لبنان، الى موقع المواجهة التي من المفترض أن الحزب يخوضها وحده مع إسرائيل. لكن من المرجح أن المراقب الإسرائيلي، خلف الحدود لن تكون هذه حاله، إذ إن تحول بيروت الى نقطة جذب رئيسية لـ «كفاءة» «حزب الله» لن يضيره بشيء، لا بل إن هذه الكفاءة، وبما انها ليست مطلقة، ولقدراتها حدود، فان انتقال جزء منها الى بيروت سيُخفف عن ذلك المراقب بعضاً من أعبائه. انها معادلة منطقية ولا تحتاج الى الكثير كي يتم إثباتها.
هذا على الصعيد الفني والتقني، أما على الصعيد السياسي فمن الواضح أن بوصلة هموم «حزب الله» انتقلت من الجنوب الى بيروت على نحو لافت ومتصاعد منذ أكثر من سنتين. ويبدو أن تضاعف انشغال «حزب الله» في الشأن الداخلي اللبناني أوقعه أولاً في وهم ترجمة حجمه في المواجهة مع إسرائيل في معادلة التوازن والعلاقات بين الجماعات اللبنانية، متناسياً أن ذلك الحجم انما تحصيله وفق معادلة أخرى. هكذا كان أن اصطدم الحزب قبل غيره بهذا التضخم، في شوارع بيروت أولاً، وفي شارعه الداخلي الذي يئن تحت وطأة انعدام النظام في مناطق كثيرة يسيطر عليها في شكل مطلق.
لكن، وبالعودة الى المراقب الإسرائيلي، فهذا الأخير لن يضيره على الاطلاق تخبط الحزب بنفسه وببلده، لا بل إن إمساكه ببيروت وبمناطق أخرى، على نحو ما هو حاصل حالياً، سيبعث غبطة أكيدة في نفس هذا المراقب. فلنقارن مثلاً بين عدد المواجهات والعمليات العسكرية التي خاضتها حركة حماس قبل إمساكها بالسلطة في قطاع غزة وبعد إمساكها بهذه السلطة، وسنستنتج كم أن إقدام الحركة الإسلامية الفلسطينية على الانقلاب على السلطة الوطنية في قطاع غزة قد خفف أعباء على الإسرائيليين أين منها ما سيوفره جدار الفصل العنصري الذي هم في صدد إنجازه.
في لبنان يقوم «حزب الله» في كل يوم بخطوات باتجاه تحوله الى سلطة واضحة ومحسوسة. يحصل هذا على كل الأصعدة، في الأمن وفي السياسة وفي الثقافة، وكم سيكون ذلك برداً وسلاماً على الحدود.
في الأمن لا داعي لتكرار إحصاء الحوادث التي تؤشر الى سقوط الحزب في فخ السلطة المباشرة. وفي السياسة يلعب الحزب كل الأوراق بعيداً عن منطق المواجهة بينه وبين الإسرائيليين، وهو وإن كان أبقى على مضمون تخويني في خطابه الداخلي، إلا أنه أبدى استعداداً واضحاً للمساومة على «ثوابته» وفق منطق التحالفات. وواقعة القيادي في التيار العوني العميد فايز كرم خير دليل على ذلك: فقد قدم الحزب لحليفه التيار الوطني الحر كل التسهيلات للتخفف من الأعباء السياسية الناجمة عن اكتشاف متعامل مع إسرائيل في صفوف قيادته، لا بل إن الحزب غض طرفاً عن حملات الدفاع عن فايز كرم، تلك التي باشرها التيار العوني. وغض الطرف هذا يبقى مفهوماً في سياق المواجهة الداخلية، لكنه غير مفهوم على الاطلاق إذا ما كانت جبهة الجنوب أولوية «حزب الله» في هذه الأيام.
في الثقافة يمــــارس الحزب رقابة سلطوية لها فعاليتها الواضحة في أرجاء العاصمة، وهو سخــر لهذه المهمة أصواتاً وأقلاماً لا يقل تأثيرها عن تأثير قرارات الوزارات والأجهزة الرقابية الرسمية. فالحملة على ترجمة كتاب لعاموس عوز، وهو كتاب يكشف فيه الكاتب صعوبة، لا بل استحالة، أن تكون إسرائيلياً، أفضت الى غياب الكتاب عن المكتبات، على رغم أن قراراً رسمياً بمنعه لم يصدر على الاطلاق. وإشارات قادة «حزب الله» وعلى رأسهم السيد حسن نصر الله الى تواطؤ كتاب وصحافيين في «موجات التطبيع» أثمرت بدورها مزيداً من الرقابة والتوجس.
لكل هذه المستويات من الحضور السلطوي مقابل في تجربة حركة حماس في غزة، وما على المراقب الإسرائيلي إلا أن يجري مقارنة سريعة حتى يستنتج انه بصدد وضع سيساعده على مواجهة معضلة «حزب الله».
لكن المقارنة مع تجربة حماس في غزة قد لا تكون حاضرة في ذهن اللبنانيين بقدر حضور تجربة مشابهة عايشوها، وإن لم تعايشها أجيالهم الجديدة. انها تجربة انتقال حركة فتح من منطقة العرقوب الى شوارع بيروت. وفتح التي استعانت في انتقالها هذا بذلك الحضور المسلح في المخيمات الفلسطينية، والذي كان اتفاق القاهرة قد سهّله عليها، انتشرت في أحياء بيروت على نحو ما انتشر «حزب الله» في السنتين الفائتتين وفي الأحياء ذاتها تقريباً، مستعيناً بما توفره له المربعات الأمنية في الضاحية الجنوبية.
والقول بأن المقارنة تفقد بعضاً من قيمتها أمام حقيقة أن حركة فتح هي تنظيم فلسطيني دخل الى الأزمة اللبنانية من باب الصراع مع إسرائيل، في حين أن «حزب الله» حزب لبناني وجزء أساسي من التركيبة الداخلية، فهذه حجة تتولى تبديدها حقيقة الصراع الطائفي اللبناني عبر الكشف عن أن من تولى تصديع الحضور الفتحاوي في بيروت ليس مناعة وطنية لبنانية، انما اعتبارات أخرى تماماً، ليس أقلها جوهرية الانغماس في أزقة العاصمة وفي شوارعها حتى النخاع.
وفي تلك الفترة لم تكن ضائقة المراقب الإسرائيلي في أوجها.
الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى