صفحات ثقافية

بين السلطة المستبدة وجدران المعتقل السياسي

null
دمشق ـ تهامة الجندي
بين السلطة المستبدة وجدران المعتقل السياسي يمتد فضاء متكامل من المفاسد والمظالم والمقاومة، هو ما حاول الكاتب السوري فادي قوشقجي تصوير بعض من وجوهه المظلمة في روايته الجديدة “الحاكم بأمر اللات” الصادرة حديثا عن دار أطلس في دمشق، وهي الثالثة له بعد رواية “خريف الأحلام” و”أبواب الشمس” بالإضافة إلى أربعة مسلسلات تلفزيونية.

عنوان الرواية يحيلنا على ديكتاتور يستمد شرعيته من قوى غيبية لا تدخل في نطاق الدساتير والحقوق البشرية. والتفاصيل تؤكد هذا المعنى من خلال أربعة عشر فصلا متفاوتة من حيث الاستطالة، لكل منها عنوان له دلالة مباشرة التحديد من قبيل: “نبيل جعفر”، “مقاطع من محضر اعترافات فراس الملقب بالموس”، “مداخلة للمؤلف”، “الجنرال بنفسه”، والفصول تعتمد أسلوب الرواية داخل الرواية لسرد وقائع وسيَر حقيقية.
الرواية المنطلق تحكي عن المؤلف نفسه وصديقه الإسباني خوسيه الذي يقنعه بكتابة قصة حقيقية جرت أحداثها في إسبانيا في عهد الجنرال فرانكو، وكان أبوه أحد أبطالها، وكيف وافق فادي على الفكرة شريطة أن ينقل الأمكنة والأحداث إلى مدينته دمشق، ويعرّب الأسماء والمناخ. والفصول هنا قصيرة جدا، لا تتعدى بضع صفحات، وهي تدور في زمن الكتابة وفي العاصمة السورية، وتتناول اللقاءات والمراسلات ووجهات النظر المتبادلة بين الكاتب وصديقه بصدد المقاطع الناجزة من الرواية بعد ترجمتها إلى الإسبانية.
على الضفة الأخرى هناك الأحداث التي سمع بها المؤلف، والتي تدور حول الجنرال وضحاياه في مرحلة زمنية تمتد بين سبعينيات القرن العشرين وثمانيناته، وقد صيغت بأسلوب تعدد الرواة وتداخل الأزمنة والحبكة البوليسية، حيث تبدأ بصوت الروائي نبيل جعفر وهو ينتظر أصدقاءه عماد وأنس وسهيل في مطعم شعبي بدمشق مساء الخميس، وحين يتأخر الأصدقاء كثيرا، ويستفسر عن سبب غيابهم على الهاتف، يكتشف أنهم ماتوا جميعا بنوبة قلبية في يومين متتالين: “ثلاثة أشخاص عاشوا على الدوام بدءا من الصف الأول الإعدادي كأصدقاء مخلصين، وواظبوا على سهرة أسبوعية لم يتغيبوا عنها منذ عشر سنين إلاّ مرتين، مرة لوفاة والد أحدهم، ومرة لوفاتهم” (ص23).
منذ تلك اللحظة تتحول سهرة الخميس الأخيرة التي وقعت قبل سقوط فرانكو بثلاثة أعوام، تتحول إلى تاريخ مفصلي لتحديد مجريات الأحداث السابقة واللاحقة للسهرة، والأحداث سوف تسير على وقع السؤال عما إذا كانت الوفاة المباغتة والغريبة طبيعية من عجائب القضاء والقدر، أم أنها مدبّرة؟ والتحري عن الأسباب سوف يفتح ملفات الاستبداد والمعارضة السرّية والمعتقل السياسي في عهد كما يصفه نبيل: “كل شيء يشبه كل شيء، الفشل يشبه النجاح، الموهبة تشبه ادعاءها، اللص يشبه رجل الدولة… ولا آفاق، الجنرال هو أفقك الوحيد” (ص42).
مجريات التحري وذاكرة نبيل عرّفت القارئ بأصدقاء الدراسة الذين غابوا: أنس شخص وديع يعمل كسائق على خط دولي، دخله مرتفع نسبيا، وحياته مستقرة مع زوجته الرائعة بهية وولده خلدون المسمّى على اسم شقيق أنس الذي دخل السجن واختفى، أما عماد فهو شخص ظريف وعاشق خائب وعازب، يعزف على العود ولديه مصبغة صغيرة، بينما سهيل متزوج ولديه ورشة لصيانة الأجهزة، وجميعهم يؤمن بفكر اليسار الذي كان يبشر به أستاذهم كامل عبد المولى: “رجل يقول بصوت مرتفع إنه لن يلعق حذاء الجنرال، بل يعمل من أجل تمزيقه… ويدفع باستمرار ثمن أقواله” (ص44).
وصوت أستاذ الفلسفة كامل عبد المولى المنتمي إلى تنظيم يساري محظور يحدثنا عن علاقته الودودة بطلابه، وعن تفاصيل عشقه زوجته أميمة، وعن ولهه وصداقته مع ولديه ماجد ومنى، يحدثنا عن علاقات حرّة تناقض واقع الاستبداد الذي عاش في ظله ثلاثين عاما، وشارك في انتفاضة لدحره قُمعت بوحشية: “خسرنا مشروعنا لبناء بلد حر يرفع فيه كل مواطن رأسه ويعتز بجنسيته، وانتصر مشروع الجنرال لبناء بلد تسكنه أشباح مشوهة وممسوخة” (ص79)، وبعد الهزيمة سُجن الأستاذ لمدة عامين ثم خرج من المعتقل وأُعيد إلى التدريس، لكنه بدأ يكتب تحت اسم مستعار لفضح جرائم الجنرال في منابر وإصدارات تُنشر وتُوزع خارج البلاد، وحين اكتُشف أمره أُودع ثانية في السجن لمدة عام، وتظاهر بالجنون، وأُفرج عنه مع السجين رقم 9 الفاقد الذاكرة والموجود في مصح الأمراض العقلية منذ عشرين عاما دون أن يعرف أحد من هو ولماذا سُجن.
يتزامن موعد إطلاق سراح الأستاذ كامل والرقم 9 مع موعد انتهاء سهرة الخميس الأخيرة وخروج الأصدقاء من المطعم، حيث يلتقون بالمصادفة، ويتعرف أنس على شقيقه خلدون الذي كان يظن الجميع أنه مات في السجن، لكن الشقيق الفاقد الذاكرة يحتمي بالأستاذ ويصرّ على البقاء معه، وهذه المفاجأة الصادمة هي التي تودي بحياة أنس وصديقيه كما تكشف الفصول الأخيرة من الرواية التي تتحدث عن زوال الطغيان وبزوغ شمس الحرية وتسلّم عبد المولى وزارة الثقافة وبدء التحقيق في جرائم العهد السابق.
إلى جانب ذلك كان لصوت الجنرال حكايته الخاصة، كذلك الأمر بالنسبة الى صوت السجّان ورجل الأمن، وبين طيات الحكايا المختلفة حضر الحب والجنس والمشاعر الدافئة، وفي ظل هذه الخلطة المركبة من الرواة والتقنيات والتفريعات ونقل الحقائق من بيئتها الأم استطاعت التفاصيل أن تتناغم في بوتقة مشوّقة لها مذاقها الخاص في الثلثين الأولين من الرواية، لكنها ما لبثت أن فقدت خصوصيتها وعانت من التكرار ووقوع المؤلف في مأزق الشرح والتبرير، لاسيما في الفصول الأخيرة، بحيث لم تستطع أن تكون وفية تماما للواقع، ولا أن تكون بنت شرعية للمخيلة الأدبية.

الكتاب: “الحاكم بأمر اللات” رواية في 174 ص قطع متوسط
المؤلف: فادي قوشقجي
الناشر: دار أطلس/ دمشق 2010
الكفاح العربي

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. عندما بدأت قراءة هذه المقالة أصابتني الدهشة !! هكذا كتاب يطبع في دمشق مش ممكن !! ولكن عندما أكملت القراءة عرفت أن الجنرال الظالم المستبد القاتل هو فرانكو وليس (( غيره )) ولذلك عرفت كيف طبع هذا الكتاب في دمشق إنه لايعني الوضع في سوريا لامن قريب ولامن بعيد – أنا كسوري أفخر وأعتز بما عندنا من حرية الكتابة عن فرانكو وشاه ايران وموبوتو سيسيكو والجنرال سوهارتو وشاوشيسكو والإمبراطور بوكاسا الأول و و و و !!! إنها حرية يغبطنا عليها العالمين جميعاً وأنا أعجب من هؤلاء الذين يروجون الأراجيف والإشاعات عن عدم الحرية في سوريا — ياأخي بس تحايد حافظ وبشار واكتب ماشئت

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى