جنِّبوا البلد الفوضى الكيانية
سليمان تقي الدين
لم يعد القرار الاتهامي الذي يمكن أن يصدر عن المحكمة الدولية الخاصة بلبنان مهماً بذاته مهما كانت حيثياته وخلاصاته. منذ بدأ التحقيق الدولي كان يُواكب بالاتهام السياسي لهذا أو ذاك من اطراف وعناصر القوى المستهدفة بالهجوم الأميركي على المنطقة. وقعت جريمة الاغتيال ورافقها فوراً مطلب التحقيق الدولي بذريعة عدم الثقة بالأجهزة الأمنية والعدالة في لبنان. في أجواء الشحن السياسي المركز على سوريا كان يصعب مواجهة مطلب المحكمة الدولية التي من المفترض أنها ستحاكم دولة وليس جماعة أو حزباً. حين تعثر الاتفاق على تمرير نظام المحكمة جرى اقرارها بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة. هذا المسار الذي قيل فيه الكثير يؤكد ان المحكمة أداة من أدوات النفوذ الدولي، استخدمت وستظل تستخدم إلى أمد طويل في محاصرة واستنزاف الجهات المعنية في الوضع اللبناني داخلياً وخارجياً. حتى الآن أدت المحكمة جزءاً من مهمتها السياسية قبل ان يصدر قرارها الاتهامي. قد يكون عنوان القرار اتهام «حزب الله» لكن علينا الانتباه أن المحكمة ستذهب في اتجاهات عدة لمطاردة كل المنظومة السياسية التي ينضوي فيها «حزب الله». قد يعتقد البعض بخبث أو سذاجة ان هذه مناسبة أو وسيلة للنيل من «سلاح المقاومة» وأن ذلك قد يخلق التوازن السياسي في البلد. هذا المنحى في التفكير المقصود أو غير المقصود، لا يدرك ان المستهدف هو مجمل الوضع اللبناني والعربي. «سلاح المقاومة» على أهميته في الصراع لن يسقط كقوة مادية، بل ما سوف ينهار هو الهيكل اللبناني كله، وما سيخترق هو الأمن العربي، ومن سيدفع الثمن هو كل اللبنانيين ويكتشفون ربما متأخرين أن صيغة عيشهم سقطت لمصلحة «يهودية الدولة»، ووحدة بلدهم قد انفرطت لمصلحة التوطين، وتطورهم الاقتصادي قد تخرّب، ومجتمعهم قد تفكك لمصلحة تيارات التعصب والتشدد التي تجعل المنطقة من حولها عرضة لهذه التخريبات التي تنضوي واقعياً في مشروع الهيمنة الإسرائيلية. النظام الطائفي مسؤول طبعاً عن ضعف الدولة وهشاشتها، لكن المجتمع الطائفي والتكوينات السياسية الشعبية الطائفية مسؤولة أيضا عن تعطيل أي مشروع يجعل من الصراع بين اللبنانيين بين تقدم وتأخر، بين اصلاح ومحافظة. يكرر اللبنانيون ما هو أسوأ من ظاهرة العنف لتغيير المعادلات السياسية. يكررون إعادة إنتاج شروط الأزمة ومعطياتها وآلياتها. خلال خمس سنوات من التخبّط السياسي شهد لبنان أوسع نشاط شعبي على ضفتي البلد وهو في اتجاهيه يطالب ببناء الدولة القوية الموحدة غير المنقسمة. وبقطع النظر عن الشعارات والطروحات لم يكن ذلك ممكناً إلا بكسر الاحتكار السياسي الطائفي داخل الطوائف وعلى مستوى الدولة نفسها. موجة سياسية من هنا وموجة من هناك مع بعض الفصول الأمنية وتواطؤ اطراف الطبقة السياسية من الجانبين على إعادة تكوين السلطة وفق القواعد السابقة. لم تستغل هذه الطبقة لحظة التقاطع الإقليمي الدولي على احتواء الأزمة في «الدوحة» لتفكيك بعض المشكلات والنزاعات ومنها مسألة المحكمة الدولية ونظام العدالة وكل ما رافق التحقيق الدولي أو أعمال العنف لكي تطوي هذه الصفحة على تفاهم وطني. كان الهم الأساس لطرفي الصراع ان يقتسموا السلطة ليستخدموها في معالجة القضايا الخلافية كلٌ من موقعه. سياسات التأجيل وترحيل القضايا ليس عفواً بل هو يصدر عن رغبة في الاحتكام إلى ميزان القوى السياسي وليس إلى الضوابط والقواعد القانونية.
في ملف «الشهود الزور» والضباط الأربعة وتوقيفهم التعسفي، وفي الحملات التي طاولت فئات لبنانية وغير لبنانية، والضحايا الذين سقطوا في التوترات السياسية، وما كان مفترضاً من اختراقات أمنية، لا سيما الاختراق الإسرائيلي، لم تقف حكومة الوحدة الوطنية في جلسة واحدة لاستدراك تلك الأجواء والممارسات. يصبح هذا الجهاز الأمني أو هذا الموقع القضائي مشكلة لحظة احتدام النزاع ولا يكون موضع نظر في شرعيته وشرعية ممارسته في لحظات الوئام السياسي. في شكل أو آخر تتصرف القوى السياسية على أنها تحتاج إلى ضمانات لنفسها ومجموعاتها وليس إلى ايجاد قاعدة عامة للحكم والمؤسسات ومسؤولياتها.
إذا كان البلد اليوم يواجه هذه المرحلة الأخطر من الأزمة حيث الصراع يرتبط بفكرة الجريمة و«العدالة»، أي «العقاب» على ما في هذا المشهد من شبهات سياسية ومن عدم صدقية للهدف نفسه ولوسيلة تحقيقه، فإن العمل على ضبط هذا الصراع بل احتوائه إذا أمكن مهمة وطنية تكاد توازي كل الشعارات والقضايا والمسائل الأخرى. فلا شيء يستحق أصلاً أن يتعرض البلد لحريق شامل ونزاعات أهلية بطبيعتها تنزع عن أي مشروع سياسي صفته في خدمة لبنان واللبنانيين. كيف إذا كان هذا المشكل اللبناني هو مقدمة لاستدراج العرب إلى صراعات ونزاعات وانشغالات عن قضايا هي التي سترسم مستقبل المنطقة ومنها لبنان. لقد صار محسوماً ان ترابط الأزمات والمشكلات وتداخلها هو الأصل في المشروع الغربي الإسرائيلي بينما نغرق نحن في صراعات تجعل البلد ضحية مجانية لترتيبات إقليمية.
السفير