المحكمة الدولية.. تمرين الرأي العام
غسان المفلح
إن علاقة السياسة بالإعلام في تكوين الرأي العام، علاقة باتت الآن تحتل مساحة من التخصصات الواسعة والابحاث الكثيرة، وباتت جزءا رئيسيا من عمل أي طاقم سياسي، ولبنان ليس خارج هذا المنظور.
في مقابلته الأخيرة مع تلفزيون ‘الجديد’ قال الرئيس اللبناني ميشال سليمان ‘ان المحكمة الدولية تقررت في مجلس الأمن الدولي، وطُلبت من اللبنانيين وتم التوافق عليها في طاولة الحوار وفي البيانات الوزارية، لكن ذلك لم يمنع احتدام الجدل والسجال لسببين: الأول طريقة معالجة وضع الضباط الأربعة والثانية التسريبات التي تخرج (…) المطلوب أن تستعيد المحكمة مصداقيتها وابتعادها عن التسييس والنظر في كل الاحتمالات والقرائن’. وأكد أن ما يُشاع عن القرار الاتهامي ‘هو من باب الشائعات’. وقال ‘أنا رئيس الجمهورية ولم أبلّغ بأي تاريخ لصدور القرار أو بمضمونه’.
منذ اجتياح حزب الله لبيروت في الثامن من أيار/مايو 2008، وما تبع هذا الاجتياح من اتفاق الدوحة مرورا بالعودة إلى المعادلة الداخلية اللبنانية ( س- س) مرورا بالتأسيسات الفرنسية لعودة سورية إلى لبنان من طاقة المحكمة الدولية ذاتها، وغض طرف أمريكي واضح عن هذه التأسيسات الساركوزية، التي جاءت أثقل مما أرادته المملكة العربية السعودية من مهرجان المصالحة مع سورية، ولكنه بالتأكيد أقل قليلا من الحاجة التوافقية لـ’س- س’ في الملف العراقي، يعتقد بعض الساسة في السعودية، ونتيجة عجز دولي وإقليمي عن الدخول على خط العراق السياسي، بأن دعم سورية في العراق، سيكون على حساب إيران من جهة، والحد من خروج العراق الوليد في صيغة ديمقراطية إيجابية، ومع ذلك فشلت هذه أيضا وعاد المالكي بمباركة أمريكية – إيرانية- ورضا سوري متحفظ. هذه السياسة أيضا أدخلت العلاقات الفرنسية السعودية طورا معقدا، وصل إلى درجة من النفور المعلن، عبر تأجيل زيارة خادم الحرمين الشريفين إلى باريس، مرتين اعلن عنهما، من دون توضيح الأسباب والاعتماد على التسريبات الصحافية.
الاجتياح حدث لإلغاء المحكمة الدولية واتفاق الدوحة، كان مقدمة لإلغاء فعالية هذه المحكمة، على الأقل ما يخص الاتهام السياسي للنظام السوري من قبل قوى الرابع عشر من آذار، وحصل النظام السوري على ما يريد، ولحفظ ماء الوجه الرابعي عشري من آذاري، والسياسة السعودية الأوبامية الساركوزية، أرادوا اللعب بالملف من أجل توجيه الانظار عما يجري، ومن خلال تسريب الأخبار أن المحكمة ستطال حزب الله، متناسين أن لا إسرائيل ولا أمريكا ولا سورية قادرة على إنهاء سلاح حزب الله، مهما حاصرته، حزب الله ليس منظمة التحـــرير الفلسطينية، كما أنه ليس جيشا نظاميا، وإن استطاعوا ذلك فسيكون الثمن باهظا وأكثر مما يتحملونه، حزب الله قوته في وجوده داخل شعب طائفته في لبنان وفي كل بيت شيعي تقريبا، ويشكل رب عمل تعيش من استثمارته آلوف العائلات الشيعية وغير الشيعية اللبنانية.
ببساطة تحول النظام السوري من متهم من قبل قوى الرابع عشر من آذار، إلى وسيط من أجل تهدئة حزب الله ومنعه من اجتياح بيروت ثانية، رغم أن النظام السوري مصر على إلغاء المحكمة الدولية لسببين:
الأول- يخاف أن تطاله- طرطوشة- على قولة أهل الشام ولبنان بصدور القرار الظني لأنه لا يثق بالسياسات الغربية، ويعرفها جيدا..
والثاني- تحالفه مع إيران وعدم المساس بحزب الله، إسرائيل وحدها ربما تريد قرارا ظنيا يتهم حزب الله، من دون أن يصل إلى النظام السوري بأية إشارة، سبق وتعرضنا للموقف الإسرائيلي الإيجابي من عودة النظام السوري إلى لبنان.
في ظل هذه الأجواء وغيرها من لعبة عض الأصابع الجارية الآن على الساحة اللبنانية، جاءت تصريحات الرئيس سليمان، طالبا التمهل في إصدار القرار الظني- صحيفة ‘النهار’ اللبنانية- من جهة، وإعادة المصداقية للمحكمة الدولية من جهة أخرى، هذا أخطر تصريح برأيي عن المحكمة، يصدر من المقام اللبناني السياسي الأول، وهو إدانة لا تحمل اللبس إلى هذه المحكمة، في أنها فقدت مصداقيتها، والسيد وليد بك جنبلاط يردد هذه الأيام نغمة ‘محاكمة شهود الزور، أو إلغاء المحكمة الدولية، بعد أن نقل مقره تقريبا إلى دمشق، وبعد أن عادت بعض مؤسسات الحريرية إلى دمشق ولو رمزيا، وآخرها استقبال سيدتنا الأولى أسماء الأسد للنائبة بهية الحريري في دمشق.
حزب الله لن يكون كبش فداء، ولن يقبل هو، ولن تقبل إيران، ولن يقبل الرئيس السوري بشار الأسد بذلك، وهــــذا الكباش الجاري سياسيا لبنانيا، ليس سوى تمارين ذهنيـــة وإعلامية للمواطن اللبناني لكي يبدأ بالمطالبة بإلغاء المحكمة الدولـــــية، وإن اقتضى الأمر في تصعيد هذا التمرين، يمكن لحـــزب الله أن يقوم بحركة ما استعراضية كالتي قام بها في المطار أثناء استقباله للسيد جميل السيد العائد من إجازته الباريسية كبطل ومحرر للبنان.
السياسة السعودية ببساطــــــة فشلت في رهــــاناتها اللبنانية، ولكنها نجحت في العراق، حيث عادت ككــــتلة واحدة مع السياسة السورية، من أجل قيام طائف عراقي دائم، عند تشــكيل كل حكومة عراقية. العراق أهم من لبنان سعوديا الآن على الأقل.
الصحف تكتب عن مصالحة بين الرئيس السوري والسيد نوري المالكي وعودة سفراء البلدين، وكتب بعض المحللين أن لبنان بوابة عودة سورية إلى العراق، وكأن سورية خرجت من العراق أو لم تكن فيه.
ساركوزي داخليا محاصر بإزمات عدة اقتصادية وسياسية، ومشغول بإعادة كتابة الهوية الوطنية الفرنسية، وترحيل الغجر، وهو غير قادر على حرية التحرك دوليا وإقليميا كما كان لحظة توليه منصبه، الذي لم ينجز فيه سوى مهمة واحدة، وهي عودة سورية إلى كامل لبنان.
ستبقى التصريحات الآن ومنها تصريح الرئيس سليمان، تملأ وسائل الإعلام، لحين تأتي اللحظة التي يدرك المشاركون جميعا في هذا الذي يجري أن المواطن اللبناني سيخرج إلى الشارع ويطالب الحكومة بإلغاء المحكمة الدولية لبنانيا، وتتكفل فرنسا ساركوزي بإيجاد مخرج في مجلس الأمن للقرار 1644 الذي قضى بإنشاء هذه المحكمة. والسياسة الأمريكية تترقب، ووحدها فقط القادرة على إفشال ما يجري، عبر رفضها اللعب بقرار مجلس الأمن لكي لا تكون سابقة، وهذا ما تخافه السياسة السورية، لا يوجد في تاريخ مجلس الأمن، أنه تراجع عن قرار اتخذه، ربما تكون هذه المرة الأولى! أو يجدون مخرجا آخر..
لنستعد منذ الآن لمسيرات لبنانية تطالب بإلغاء المحكمة الدولية تحت تهديد سلاح المقاومة، وبنفس الجموع التي خرجت من أجل خروج القوات السورية من لبنان، بذلك تكون قد حققت الوحدة الوطنية اللبنانية توافقا على مطلب واحد في تاريخها.
لا شيء في لبنان غير ممكن، إلا دولة فوق الطوائف.
كاتب سوري
القدس العربي