صفحات ثقافية

السياسة العارية

null
احمد بزون
كثيراً ما نسمع المماحكات حول تسييس المحكمة ولاتسييسها، فما بالكم لو قلنا إن لوحات العري مسيّسة، تلك التي تغيب تهمة علاقتها بالسياسة عن أذهان العديد من الناس، وأن شعر الغزل والخمريات أيضاً مسيّس، أو لنقل أيضاً على شبهة في علاقته بالسياسة.
لا أبتكر هنا فكرة جديدة، بل أكرر ما اجتهد في تبيانه العديد من علماء الاجتماع، إذ لا فنّ إلا وعلى علاقة بالسياسة، من قريب أو بعيد، حتى لو كان عنوانه أو نوعه بعيداً عن أي مضمون سياسي.
المحكمة مسيسة، أو القضاء مسيس، هذا أمر طبيعي وأكثر جلاء في مقارنته بلوحات العري. فالسياسيون هم الذين وضعوا القوانين والدساتير ونصبوا القضاة.. يا لبراءة السياسيين والأنظمة التي يديرونها، فالقوانين نفسها مختلفة في العالم باختلاف الأنظمة السياسية. تماماً كما هي صور النساء العاريات التي ندعي براءتها من السياسة. فالفنانون الذين صوّروا العري منذ بداية تاريخ الفن حتى اليوم لم ينطلقوا من سياسة واحدة، ولا من موقف واحد من المرأة. حتى الفنانات أنفسهن عندما بدأن منذ بداية النصف الثاني من القرن الماضي يصوّرن أجسادهن أو جسد المرأة، إنما كن ينطلقن من موقف سياسي، هو موقف من المجتمع والمحيط والقوانين التي راحت النسوية تناهضها.
من اعتبر جسد المرأة غرضاً، أو مجرد هدف جنسي، أو سلعة للبيع والشراء، لوّن جسد المرأة بقناعاته، حتى المصور الفوتوغرافي كان يصور المرأة في مستوى منخفض عن الرجل. وعندما انتفضت المرأة وثارت، إن من خلال جمعيات نسائية أو من خلال أحزاب تقدمية، تغيرت صورتها، وتغير معنى عريها، معنى الجسد المجرد من أكسسواراته، فرأينا العاريات يُظهرن كل ما كان مكبوتاً أو ممنوعاً، أو ما كان يعتبر رمز العار في زمن حزام العفة، فالتحرر الذي عمّ المجتمع الغربي وصلت مفاعيله إلى المرأة، وبالتالي إلى لوحة العري التي تجسد جمالياتها، كما تقدم فهماً جديداً لمعنى هذه الجماليات. فحتى الفجور الذي كنا نراه في لوحات العري كان ردة فعل سياسية، ولن يغيب عن بالنا أيضاً أننا لا نستطيع أن نفصل مجتمعات البغي والانحلال الأخلاقي عن السياسة.
المراحل التي تقلبت فيها لوحات العري وتبدلت معها في التاريخ كانت، بكل بساطة، سياسية بامتياز، وكذلك الشعر والفنون بما فيها الموسيقى على علاقة بالسياسة! وإلا كيف نتحدث عن التانغو بلا سياسة وكذلك عن البلوز والجاز وموسيقى المهاجرين عموماً من دون أن نمر بالسياسة!
مضحك أمر الفنانين الذين يفاخرون بابتعادهم عن السياسة، وكذلك الشعراء ومن معهم من أهل الفن والإبداع… وكذلك هو شأن الذين يستبعدون السياسة عن المحاكم والقضاء، كأن القوانين التي تسيّرنا من صنع الله وحده لا شريك له.
قد لا يجاري السياسيون ولا الفنانون هذا الكلام، فهم لا يقبضون على السياسة في مكان، بريئون من دمها، إلا أن علماء الاجتماع ينتظرونهم عند كل مفترق، ليؤكدوا أن لكل فن مواقفه وظروفه ومجتمعه وثقافته، وبالتالي لا مهرب من وجود طقوس للسياسة حتى في نشرة الأخبار الجوية.
لن نستطيع الهرب من السياسة حتى لو رمينا لها ثيابنا!
السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى