مشروع “حماس”… و”طلبنة” غزة
د.خالد الحروب
أدبيات الإسلامويين وتنظيراتهم، كما هي أدبيات وتنظيرات الأدلجة عند غيرهم، تعج وعودها وتعبيراتها الكبيرة باليوتوبيا المتعالية. ومن التعبيرات الشائعة التي تتردد في تلك التنظيرات مقولة “المشروع الحضاري الإسلامي” وكونه جوهر ما تستهدف تحقيقه، أو استعادته، الحركية الإسلاموية الراهنة. وتنتسب هذه المقولة إلى قاموس طويل من التعبيرات الفضفاضة الجذابة للجمهور العام والبراقة المظهر في الخارج، ورأسها “الإسلام هو الحل”، لكنها فقيرة من ناحية الجوهر. بيد أن محاكمة الإسلامويين يجب ألا تتم تبعاً لمقولاتهم وشعاراتهم التي يطالبون بها. والأهم والأدق موضوعيّاً هو المحاكمة على الممارسة وأرض الواقع. وما أتاحته الممارسة الإسلاموية حتى هذه اللحظة لا يشير إلى أي إنجاز حقيقي على الأرض في تحقيق “مشروع حضاري ما” أو حتى التوجه نحوه. وما بين أيدينا هو تجارب عملية متعددة: إسلاموية حركية وصلت إلى الحكم والسيطرة في منطقتها مثل إيران، وأفغانستان، وبعض أقاليم الحكم الذاتي في ماليزيا وإندونيسيا، وقطاع غزة، وإسلاموية حركية وصلت إلى التأثير في القوانين بشكل مباشر (برلماني) أو غير مباشر (حشد شعبي وإعلامي) مثل العديد من الدول العربية والإسلامية (الكويت، اليمن، الأردن، مصر، المغرب، باكستان، الجزائر، اليمن.. إلخ).
ومن الحركات الإسلاموية المسيطرة في بعض أجزاء إندونيسيا إلى الحكم (الإسلامي) في السودان وحتى “حماس” في قطاع غزة، يكاد يبتلع هاجس المرأة كل شعارات “المشروع الحضاري الإسلامي” ويقزمه في عيون مؤيديه إلى كيفية مطاردتها ومحاصرتها وفرض القيود عليها. في السودان يتجه البلد نحو التقسيم تحت ظل “الحكم الإسلامي” لأن الولع بالإمساك بفرض القيود على المجتمع يتقدم على أولوية الوحدة الوطنية. ففي أكثر من مرحلة، وكما يؤرخ عبدالوهاب الأفندي المطلع على التجربة السودانية، رفضت حكومة البشير -ومنذ مفاوضات الإيغاد سنة 1994 وحتى الآن- القبول بشراكة وطنية تحفظ الوحدة الترابية للسودان مع الجنوب مقابل عدم تطبيق الشريعة والقبول بنظام علماني في البلد يحفظ حقوق الجميع. ومنظرو “المشروع الحضاري الإسلامي” فضلوا الحرب وتقسيم البلد بدعوى تطبيق الشريعة، التي اختزلت هي الأخرى في مطاردة مرتديات البنطال في الخرطوم، إضافة إلى اتساع طبقة المنتفعين من إسلامويي القطاع الخاص.
وفي قطاع غزة لا يحتاج الزائر إلى دقة ملاحظة كي يرى تكرار “حماس” ببلاهة لما قام به إسلامويون عديدون في أكثر من مكان -الانهماك في أمور ثانوية وهامشية محطها مطاردة المرأة، على حساب أولويات كبرى وضاغطة. ولا يعني هذا أن تحقيق تلك الأولويات يشرعن فتح المجال للقبول بما يتم فرضه على النساء هناك، فهي سياسات مرفوضة أيّاً كان زمنها ومكانها وظرفها. ولم يعد للتساؤل الذي رافق سيطرة “حماس” على الحكم في قطاع غزة، وفيما إن كانت ستنهج نهجاً أردوغانيّاً أم طالبانيّاً، أي معنى عملي، إذ حُسمت الإجابة عنه بالخيار الثاني. وما يحدث في قطاع غزة من ناحية الأسلمة المفروضة وقمع الحريات الاجتماعية والثقافية والإعلامية التي لا تنسجم مع رؤية “حماس” أمر خطير ومرفوض ويكرر تجربة الأنظمة الشمولية والاستبدادية ولكن برداء ديني.
وفي ظل حصار همجي وغير إنساني يمثل جريمة ضد الإنسانية تشارك فيها دول العالم الكبرى، تزيد “حماس” من معاناة الناس في مطاردة مظاهر اجتماعهم العفوي، وتغيير ما تعودوا عليه لقرون طويلة. أعراسهم ولقاءاتهم واختلاطهم ووضع المرأة بينهم هي توافقات اجتماعية وطبقية وظرفية لا دخل للقانون في تحديد شكلها. وعندما يضطر الأزواج والخاطبون إلى الاحتفاظ بعقود الزواج في جيوبهم أثناء تنقلاتهم خشية اقتحام مسلح ما لجلستهم والسؤال عن علاقتهم ببعضهم بعضاً، فإن ذلك معناه انحدار مخيف في قيم ونمط الحياة الفلسطينية لم يكن موجوداً على الإطلاق. وعندما تُطاردُ دراجات هوائية سيارة عائلية تجلس فيها امرأة بجانب رجل يمد ذراعه على متكأ الكرسي خلف رأسها وتوقفها وتقودها إلى مركز الشرطة فإن ذلك “عسس” سخيف على حياة الناس. وعندما يتم إيقاف شقيق وشقيقته في طريقهما للبيت ليلاً لأنهما لا يحملان هوية بما يثبت “العلاقة الشرعية” بينهما فإن تلك ممارسة طالبانية لا مماراة فيها. إنها سلسلة طويلة من الممارسات تبدأ بفرض غير مباشر للحجاب على طالبات المدارس (من دون مستمسكات إدارية وتعليمات مكتوبة)، إلى مطاردتهن في المطاعم والمقاهي، إلى حظر تدخين “النرجيلة”، وصولاً إلى “تفتيش” الكمبيوترات الخاصة بحثاً عن صور وأفلام مخلة بالأخلاق. والحال أن قدرات “طالبان” التقنية لم تتح لها ما تتيحه قدرات “حماس” التقنية الآن. فـ”حماس” التي طورت الكثير من تلك القدرات في مجال تصنيع الصواريخ وصد الاختراقات الأمنية الإسرائيلية واستخدام التكنولوجيا الحديثة، تستخدم الآن الكثير من تلك القدرات لضبط ومراقبة المجتمع الغزي بأبوية تثير الاشمئزاز. لماذا تقوم “حماس” بذلك وهي تدرك ما يجره عليها من نقد وخسارات؟ كيف يمكن أن نفهم أولوية فرض الأسلمة في حين أن أولوية إعمار قطاع غزة بعد الحرب، مثلًا، وإنفاق مئات الملايين وبناء مئات البيوت المدمرة، لا تلح على حكومة “حماس” بسبب المناكفة مع حكومة رام الله حول من يسيطر على المال وآليات الإنفاق؟ هل يُختزل “المشروع الحضاري الإسلامي” في فهم “حماس” إلى مطاردة المرأة والأسلمة المفروضة، في جزء مقسوم من الوطن الكل؟ هل السيطرة والأسلمة تُقدم على الوحدة الوطنية؟
هناك تفسيران قد يُساعدان في فهم مآلات “حماس” الطالبانية على المستوى الاجتماعي. الأول هو تآكل الفكر المعتدل في داخل “حماس” لصالح الفكر السلفي المتشدد.
والأمر الثاني هو أن ظروف الحصار والمواجهة التي فُرضت على الحركة بعد فوزها في الانتخابات، ثم توقف “المقاومة” بعد الحرب الإسرائيلية الوحشية، وبروز مظاهر فساد عند بعض مسؤوليها، ثم ما يرافق تجربة أي حكم من محسوبيات وسواها، قاد بمجمله إلى زيادة وتائر نقد الجماعات الصغيرة الأكثر تشدداً لـ”حماس”، ونقد كثير من أفراد “حماس” لها أيضاً، واتهامها بالابتعاد عن “النهج الإسلامي وعدم إقامة حكم الله في الأرض”. وللرد على ذلك تتشدد “حماس” في الأسلمة الاجتماعية لتثبت أنها الأكثر أسلمة وتمسكاً بالشعارات التي كانت ترددها. ولكن خلاصة ذلك كله مريرة وهي أن “المشروع الحضاري الإسلامي” والمقولات الكبيرة التي يرددها الإسلامويون هنا وهناك ليقولوا إنهم البديل لما هو قائم، يتأكد يوماً إثر يوم أن جوهرها لا يتخطى الغرق في الهامشيات، وهذه الهامشيات يحتل لباس المرأة وسلوكها رأس الأولويات فيها.
الاتحاد