نموذجية المعركة (غير الدائرة!) حول يهودية إسرائيل
نهلة الشهال
المعركة حول الإقرار بيهودية دولة اسرائيل معبرة في شكل حاد عن مجمل الشروط المحيطة بالمفاوضات كوسيلة مأمولة للتوصل الى تسوية تاريخية، وهي السيرورة التي ابتدأت، رسمياً على الأقل، مع اتفاقات أوسلو، والتي تشارف اليوم على نهاياتها.
والتوصيف ها هنا مفيد. فما إن استعيدت المفاوضات المباشرة، التي كانت مطلباً اسرائيلياً عنّف نتانياهو من أجله أوباما، شخصياً، حتى طرحت القيادة الإسرائيلية فكرة الاعتراف بيهودية الدولة شرطاً فعلياً لاستمرار التفاوض، وعملة مقايضة للمطلب الفلسطيني بتجميد التوسع في الاستيطان.
وهكذا انزاح النقاش كله الى موضوع آخر، بدا في الأول كأنه تكتيك لإبطال الشرط الفلسطيني، ثم ما لبث أن أصبح هو نقطة القلب من الموقف بمجمله.
ولم ينفع في التخفيف من وطأة ذلك أن أصواتاً اسرائيلية خرجت، في الكنيست نفسها وفي الصحف، تصف التصويت الذي جرى على المقترح بالانزلاق نحو الفاشية، وبسواه من النعوت والإدانات. فإقرار المبدأ تحول اسرائيلياً الى مقياس، من لا يرضى به يكون نشازاً. وأما الرد الفلسطيني الذي شاء لنفسه أن يكون حكيماً، أي ضرورة تعيين حدود تلك الدولة «مهما سماها أصحابها»، وهو المقترح الذي بلوره المفاوض الفلسطيني استجابة للمطالبات الأميركية بالتقدم بـ «عرض مضاد»، فقد انزلق مجدداً الى ممارسة تنازل مسبق، ليس خطيراً فحسب، بل مجانياً على ما يبدو. فالاستخفاف باسم الدولة تلك براءة كاذبة، إذ لا يتعلق الأمر بإطلاق صفة «الجماهيرية العظمى» على إسرائيل، بل بالإقرار بيهودية المواطنة التي تجعل من ليس يهودياً أو من لا يقسم بالولاء لليهودية كصفة مركزية للدولة، مواطناً من الدرجة الثانية في أحسن الأحوال. بل يبني ليبرمان على ذلك مسرحية لن تلبث أن تتحول الى معطى سياسي يسهّل كل مشاريع ترحيل الفلسطينيين من اسرائيل، بأساليب شتى، منها التضييق عليهم وفق نظام أبرتهايد رسمي هذه المرة وليس فعلياً فحسب. فهو باشر بالقول إن رفض هذه الصفة يفتح الطريق أمام فلسطينيي الداخل لإعلان استقلال ذاتي! وليس مفيداً البحث عن المصدر الذي استند إليه الرجل، ودحض كلامه، ما سيصبح انزلاقاً إضافياً الى ما هو خارج الصدد.
هل كان حقاً من اللازم اضافة «مهما كان الاسم» تلك؟ أليس في ذلك تضييعاً لمعركة يجب ان تخاض حول الصفة العنصرية والتمييزية التي تطالب بها إسرائيل، وفي جعبة هذه المعركة إمكانات هائلة متعلقة بالمبادئ الدولية التي تشدد على المساواة في الحقوق بين البشر، بصرف النظر عن العرق والدين، وأخرى متعلقة بإثارة مسألة ديموقراطية اسرائيل المزعومة والتي لا ينفك بعض الاسرائيليين أنفسهم من المناهضين لسياسة قادتهم، عن التشهير بها بصفتها ديموقراطية لليهود فحسب. هل هذه معركة ثانوية؟
ولكن الأخطر في ذلك هو الشق الثاني من دلالات الموقف المتخذ. فهو عبّر عن عمق التفكير السائد لدى السلطة الفلسطينية، والذي يكترث فعلياً بتحديد وضعية للضفة الغربية، وذلك في أحسن الحالات. فما يشي به فعلياً هو استعداده للتنازل عن كل شيء مقابل دولة في حدود 1967: اللاجئين، وفلسطينيي الداخل بل حتى غزة تبعاً لخصوصية وقوعها بين يدي حماس، والقدس التي ستنزاح هذه المرة جغرافياً بحكم الأمر الواقع، فتسمى أبوديس قدساً… طالما أن الموضوع تسميات! هناك، في الضفة الغربية، بل في أجزاء متفرقة منها، بحكم المستوطنات الهائلة، ستنشأ باندستونات فلسطينية. وهذه «يمكن الفلسطينيين أن يسموها كما يشاؤون»، على ما قال مرة ليبرمان نفسه رداً على المطالبات بإنشاء دولة فلسطينية.
لقد تحول السجال الحالي الى فرصة كي يمارس الطرف الإسرائيلي خطوة جديدة في عملية إزاحة خطوط التفاوض لمصلحته، فعامل «العرض المضاد» برفض واستهجان، قائلاً إنه غير مقبول بتاتاً، مشدداً على أن هذا الرفض يعبر عن إجماع واسع في اسرائيل. ويعني كل ذلك أن إسرائيل نجحت في ظرف أيام بكسب معركة «يهودية الدولة» وبالحصول ليس فحسب على موقف أميركي مؤيد، بل على موقف فلسطيني مذعن، يعتد، وللسخرية، بـ «القانون الدولي» على ما قال السيد ياسر عبد ربه، لتبرير الاستخفاف بتعيين الأمر كـ «تسمية». وبالمقابل، جددت إسرائيل رفضها الانسحاب حتى حدود الرابع من حزيران (يونيو)، مما ليس منة بل هو مطابق للقرارات الدولية.
هذا نموذج يدور اليوم تحت نظرنا عن الإدارة الرديئة للتفاوض نفسه، والذي ترجع رداءته الى عاملين متصلين: التفاوض بلا مرجعيات ثابتة، من جهة، ما يجعل كل النقاط المطروحة متساوية في الأهمية وعرضة للدخول في سوق النخاسة تلك، والتفاوض بلا امتلاك خيارات أخرى، من جهة ثانية، حيث تبدو المخارج التي يتم التلويح بها أقرب الى «الحرد» منها الى أي شيء آخر: فمن يهدد بالاستقالة، أو بحل السلطة، أو بإعلان دولة من طرف واحد، أو بتدويل الملف الفلسطيني ـ وهي كلها خيارات ممكنة ومهمة ـ عليه حقاً أن يكون مستعداً لكل هذه الاحتمالات وليس فحسب ناطقاً بها لفظياً. وهذا وحده ما يمكنه أن يعدل توازن القوى المختل لمصلحة اسرائيل في المفاوضات الحالية: فليغضب حقاً الفلسطينيون، وليستعدوا لتبعات هذا الغضب، ليس بانتفاضة ثالثة إن كانت شروطها غير متوافرة، بل بالبدء بالصعيد الديبلوماسي نفسه، باستعادة زمام المبادرة السياسية… وعندها سنرى، عندها سيتغير حتماً المشهد البائس الحالي. عندها ستمارس ضغوط، وتنقطع مساعدات، ويتعرض البعض الى سحب بطاقات الشخصيات المهمة، وربما للاعتقال أو الاغتيال، ولكن سيحضر الطرف الفلسطيني بصفته صاحب القضية، وليس متسولاً يفترض به أن يرضى بأي فتات.
الحياة