السباق الى البيت الابيض دخل شوطه الأخير: الولايات المتحدة أمام مفصل سياسي تاريخي
بدأ الشوط الاخير في السباق الى البيت الابيض مع العد العكسي لآخر 72 ساعة، قبل فتح مراكز الاقتراع، حيث كثف المرشحان للرئاسة نشاطاتهما الانتخابية التي حملتهما الى اكثر من ولاية وأكثر من مدينة في اليوم الواحد في محاولة اخيرة لتعبئة المؤيدين وجذب المترددين، والشد على أكبر عدد ممكن من الايدي الممدودة.
وفي هذه الايام الاخيرة المحمومة ذكّر كل من المرشح الديموقراطي باراك اوباما، والجمهوري جون ماكين الناخبين بالاسباب التي دعته الى الترشح لمنصب الرئاسة. وحتى خلال الخطب الرنانة، ووسط الهتافات المدوية، طرح اوباما وماكين رؤى مختلفة للمستقبل ومفاهيم مختلفة للقيادة . هذه الرؤى والمفاهيم المتناقضة تكتسب اهمية خاصة في هذه الانتخابات لانها من المرجح ان تكون بداية لتحولات سياسية -قيمية-اقتصادية بعيدة المدى.
وينهي ماكين خطبه ونشاطاته الانتخابية بدعوة انصاره الى مشاركته في “القتال” من اجل الوطن الذي يقول انه فوق كل اعتبار آخر. ويذكّر جمهوره بوطنيته، ربما في محاولة للتقليل من وطنية منافسه الديموقراطي ذي الاسم المختلف والخلفية غير المألوفة حين يقول: ” انا أميركي، واخترت القتال”. وما ان ينطق بهذه الكلمات حتى ترتفع الهتافات العالية والصفير والتصفيق في جوقة منتشية بالمشاعر الوطنية الجياشة. وبعدها يطلب ماكين من انصاره الانضمام اليه للقتال او الكفاح من اجل العدالة وخدمة الوطن واصلاح الاقتصاد واستئصال الفساد.
ماكين الذي يصف نفسه بأنه سياسي مستقل في تفكيره ومستعد للتغريد خارج سربه، يطرح نفسه كقائد مخلص ووحيد يؤمن بأن تاريخه وسيرته الذاتية ومعاناته في السجن واحساسه بالشرف كلها صفات تجعله قائدا جيدا. وهذا ما يعنيه حين يقول: “لقد حاربت من اجلكم معظم حياتي، وفي اماكن كانت تعني الهزيمة فيها أكثر من العودة الى مجلس الشيوخ”. ويذكّر جمهوره بأن منافسه اوباما غير مؤهل لقيادة البلاد في هذه المرحلة العصيبة.
ولكن مزايا ماكين القيادية لم تساعده كثيرا كما كان يتوقع ويأمل. ويوم امس وخلال نشاط في ولاية فيرجينيا المحورية التي تميل الان لمنافسه اوباما، ناشد مؤيديه دعمه قائلا: ” دعوني اقول ما هو واضح: نحن بحاجة للانتصار في فيرجينيا في الرابع من تشرين الثاني. اصدقائي، انا بحاجة الى مساعدتكم في الايام الثلاثة المقبلة. تطوعوا. واقرعوا على الابواب”.
من جهته، يطرح اوباما نفسه بشكل واضح او ضمني كممثل لجيل سياسي جديد ولعالم مختلف، ولكنه يعتمد ايضا، كما يفعل ماكين، على سيرته الذاتية وخلفيته الاجتماعية المتواضعة، وتجربته ونشأته كأبن لأب افريقي من كينيا، عاش معه لشهر واحد فقط عندما كان في العاشرة من عمره، وأم بيضاء، وتربى على ايدي جديه الاميركيين في ولاية هاواي، وأمضى جزءا من طفولته في اندونيسيا. ويرى اوباما ان هذه الخلفية الخاصة هي احد مصادر قوته، كما قال اخيرا في احدى مقابلاته: ” أنا آت من خلفية متنوعة، ولذلك اعتقد انني افهم ثقافات مختلفة”… ويرى ان هذه الخلفية تجعلني مؤهلا لمواجهة تحديات واخطار القرن الحادي والعشرين… بشكل فعال أكثر من جون ماكين”.
رؤية اوباما لمستقبل البلاد ومفهومه للقيادة يختلفان عن ماكين. وهو لا يطرح نفسه كمخلص او كفارس يأتي على حصان ابيض لانقاذ البلاد من محنتها، كما يدعي معارضوه، بل كمرشح وكسياسي توحيدي يريد ان يقود حركة اصلاحية لها رؤية شمولية اكثر وتمثل قاعدة شعبية واسعة وغير محصورة بطبقة او اتنية او منطقة. وهذا ما يعنيه عندما يقول: “نحن التغيير الذي نؤمن به”. اوباما لا يطرح نفسه كقائد وحيد يتفرد او يتسرع في قراراته كما يتهم ماكين احيانا، (وخصوصا بعد اختياره سارة بايلين نائبة له) بل كمرشح يطفو على موجة او حركة اجتماعية تعكس تحولات قيمية، ان لم نقل ايديولوجية، وتغييرات وديموغرافية واقتصادية وضعت بعض الولايات التي كانت راسخة في المعسكر الجمهوري تقليديا، اما في المعسكر الديموقراطي او تميل اليه الان.
ويرى بعض المحللين والمؤرخين ان من بين ما يميز هذه الحملة الانتخابية الفريدة من نوعها، وخصوصاً في حال انتخاب اوباما، هو انها يمكن ان تدشن بداية حقبة جديدة في السياسة والمجتمع الاميركيين، تتخطى شخص اوباما لتصير نقطة مفصلية في تاريخ الولايات المتحدة يسود فيها حزب ديموقراطي معتدل، ولا يمثل بالضرورة التيار الليبرالي (او اليساري) كما يقول الجمهوريون. ويبين تاريخ الانتخابات المفصلية في اميركا انها تكون نتيجة لانكماش اقتصادي، او بسبب حروب خارجية مكلفة او نتيجة لخلافات داخلية عميقة، كما يقول الخبير القانوني أخيل ريد عمار. ووفقا لهذا التحليل الانتخابات التي جرت في 1800 (الحقبة الديموقراطية التي جلبها انتخاب توماس جيفرسون) والتي انتهت مع انتخاب الجمهوري ابراهام لينكولن في 1861 وشملت الحرب الاهلية التي ادت الى تغييرات جوهرية سياسية وقانونية، ودشنت حقبة سيطرة الحزب الجمهوري، مع بعض الاستثناءات غير المهمة ، والتي استمرت نحو 72 سنة. هذه الحقبة الجمهورية انتهت بشكل مدوّ في1932 بعد انهيار المصارف وبدء مرحلة الركود الاقتصادي الكبير ومع انتخاب فرانكلين روزفلت. وهذه الحقبة الديموقراطية التي جلبت تغييرات اجتماعية واقتصادية جذرية (تغيير في الانظمة الضريبية والضمان الاجتماعي، مع قيام السلطات الفيديرالية بدور اكبر في الاقتصاد)، انتهت عمليا (على رغم ولاية الرئيس الجمهوري دوايت أيزنهاور، الذي كان يعتبر مترفعا عن الحزبية، ورئاسة ريتشارد نيكسون التي اجهضتها فضيحة ووترغيت) مع ما سمي بـ”ثورة ريغان” بعد انتخاب رونالد ريغان في 1980.
واستناداً الى هذا التحليل فان الطروحات والافكار السياسية والقيمية والايديولوجية والسياسات الاقتصادية لهؤلاء الرؤساء : جيفرسون ولينكولن وروزفلت وريغان، بقي تأثيرها سائداً في المجتمع والسياسة الاميركيين لسنوات ولعقود طويلة. وكل هذه التغييرات جاءت في خضم او في اعقاب ازمات اقتصادية او حروب خارجية (او الحرب الاهلية) وارهاصات اجتماعية داخلية كانت تدفع بفئات وشرائح اجتماعية مهمة للمطالبة بتغيير جذري.
وتواجه الولايات المتحدة اليوم أسوأ واخطر ازمة اقتصادية في تاريخها منذ “الركود الاقتصادي الكبير” في ثلاثينات القرن الماضي، كما تجد نفسها في حربين مكلفتين في العراق وافغانستان لا يبدو ان لاي منهما نهاية قريبة، كانت لهما انعكاسات سلبية داخلية مست بالحريات الفردية وساهمت في تقسيم البلاد. وفي بعض الحالات السابقة كان الناخبون “يجازفون” بانتخاب مرشح جديد او غير معروف كثيرا، او من خارج الطبقة السياسية لانهم رأوا فيه تجسيدا للتغيير المنشود. وأفضل مثال على ذلك هو انتخاب ابراهام لينكولن حين كان نائبا مغمورا من خلفية متواضعة وذا تجربة محدودة لا توحي بانه سيصبح أعظم رئيس في تاريخ اميركا. كما يمكن اعتبار انتخاب ريغان في 1980 “مجازفة” من الناخبين الاميركيين او رهان على مرشح غير معروف ومن خارج الطبقة السياسية في واشنطن. والسؤال اليوم مع بدء العد العكسي للبيت الابيض ومع التقدم الواضح لاوباما، هو ما هو حجم الائتلاف الديموقراطي الذي سينتخب يوم الثلثاء المقبل، وما هي اصداء نهاية حقبة ريغان الجمهورية التي ساهم الرئيس جورج بوش في هزيمتها.