من يوقف هذا السيل من النزاعات العربية؟
فايز سارة
تكاد الاخبار لا تخلو من انباء يومية حول النزاعات العربية، وهي نزاعات تمتدّ عبر قوس كبير من التنوع والتعدد. اذ هي نزاعات عنفية ودموية في بعض الأحيان، وقد تكون صراعات ايديولوجية وسياسية في أحيان أخرى، وهي تأخذ أحياناً شكل النزاعات الثقافية والاقتصادية وغيرها، وكلها حاضرة ومستمرة في الإعلام الذي يظهر وكأنه بوابة النزاعات العربية ووعاؤها الأكثر اتساعاً.
وتنوّع النزاعات العربية، يمتدّ إلى مجالات نوعية أخرى تضاف الى ما سبق. فنهاك نزاعات بينية، تقوم بين بلد عربي وآخر على ما هو عليه النزاع الجزائري ـ المغربي بصدد الصحراء، وثمة نزاعات داخل بلد واحد، وهي نزاعات متنوعة منها نزاع عرقي على ما هو الحال في السودان بين الشمال والجنوب، او صراع قومي كما في حالة العراق من صراع بين الاكثرية العربية والأقليات ولا سيما الاكراد، وقد يكون الصراع له طابع ديني او طائفي على نحو ما وصفت الصراعات اللبنانية منذ اواسط سبعينيات القرن الماضي، وطبقاً لما هي عليه بعض وقائع النزاعات في عراق اليوم، ولا سيما النزاع الطائفي بين السنة والشيعة، وكذلك الصراع الديني بين المسلمين السنة والأقباط في مصر.
لقد أدّت الصراعات والنزاعات القائمة بين البلدان العربية وداخلها الى التهاب الواقع العربي، وتشظي جماعاته في المستوى العام وفي المستويات الوطنية، وزاد ذلك في اضعاف البلدان العربية، وصيرورتها كيانات هشة. بل ان بلدانا عربية كبيرة وذات طاقات بشرية واقتصادية كبيرة، تحولت الى بنى هامشية وضعيفة وبعضها مهدّد بالتقسيم على نحو ما هو عليه حال السودان بين شمال وجنوب، والعراق بذهابه الى الفيدرالية، مرشح للانقسام الى ثلاث دول، كردية في الشمال وعربية سنية في الوسط وعربية شيعية في الجنوب.
وتؤكد مراجعة الواقع التاريخي للمنطقة وبلدانها العربية، ان طبيعة هذه البلدان لم تكن مختلفة في تكويناتها العرقية والدينية والطائفية سابقاً عما هي عليه حالياً، وهذا واقع مثبت على الأقل عبر المئة عام الماضية، التي تكونت فيها الكيانات العربية الحديثة. وسواء عبر الفترة الماضية، أو في الأبعد منها زماناً، لم تشهد المنطقة هذا الحجم، ولا هذا النوع من النزاعات العاصفة والمدمّرة، الأمر الذي يدفع للتوقف عند بعض الأسباب والعوامل المفجّرة للصراعات والنزاعات القائمة، والتي تندرج في محورين، اولهما خارجي، والثاني داخلي.
وفي المحور الاول، يمكن القول إن الأهم والأبرز في اسباب تفجر الصراعات العربية حضور كم هائل من التدخلات الدولية والاقليمية في الواقع العربي وشؤونه المختلفة. وهذه التدخلات لم تقتصر على تدخلات الدول الكبرى واسرائيل المزروعة وسط القلب العربي، انما ظهرت ايضاً في تدخلات دول الجوار ولا سيما ايران وتركيا، وقد سجلت في هذا الجانب تدخلات فاضحة ومتعددة الاشكال في الشؤون الداخلية للعديد من البلدان العربية، خصوصاً العراق.
اما في جانب الاسباب الداخلية للنزاعات العربية، فان الاهم يكمن في الانغلاقات السياسية التي يعانيها الواقع العربي وفي مستوياته القطرية بشكل خاص، حيث تفتقد البلدان العربية الى آفاق مستقبلية لتطورها في كل مناحي الحياة، وهناك غياب شبه كامل للمشاريع الجدية في ميادين التنمية الاقتصادية والاجتماعية، مما كرّس الفقر والتفاوتات الاجتماعية، كما ان بين الاسباب المهمة والاساسية للنزاعات طبيعة السلطة الاقلوية والاستبدادية القائمة والتي تركز كل قدراتها واهتماماتها على الإمساك بالسلطة في بلدانها والاستئثار بها بالتركيز على مصلحة السلطة وهمومها الأمنية، والانتهاك الفاضح لحقوق مواطنيها، وكله يضاف الى تدهور المستويات العلمية والمعرفية والثقافية، وتهميش الثقافة والمثقفين، وطغيان الجهل وتكريس سياسة التجهيل على الحياة العربية.
لقد جعلت وقائع الحياة الراهنة الواقع العربي أكثر هشاشة وضعفاً، وصار بإمكان إنصاف المتعلمين ومحدودي المعرفة وقليلي المواهب احتلال مواقع السلطة، وتأكيد حضورهم خارجها، وانطبق الأمر على كثير من رجال الدين الذين صاروا في ظل الاوضاع الراهنة، أكثر قدرة على التحكم في أوساط واسعة من الجمهور من خلال سيول من الفتاوى وشنّ حملات التحريض على الآخر المختلف دينياً وطائفياً، مكملين حملات التخوين والافتراء التي تتابعها السلطات ضد مواطنيها، مما عزز الانقسامات في الأوساط الشعبية ودفعها للانخراط في صراعات ونزاعات الواقع العربي الحالية.
إن تغيير صورة الواقع العربي، والانتقال به من واقع الصراع والنزاع الى الوحدة والتوافق أمر ممكن، بل هو أمر ملحّ ومطلوب، ويمكن أن يتمّ من خلال الدفع نحو إجراء تغييرات اصلاحية في الواقع العربي، والدفع في مسارات تغيير ما هو قائم من توجهات وسياسات، بدفع النخب العربية والجماعات السياسية والمدنية نحو العمل باتجاه خطين أساسيين، اولهما العمل على تهدئة النزاعات والصراعات العربية، والحدّ من الاندفاعات باتجاهها، والثاني العمل على تحقيق إصلاحات سياسية واقتصادية واجتماعية في الواقع العربي، تطال بصورة أساسية الأنظمة الحاكمة والمؤسسات الدينية.
ان قيام النخبة العربية في قطاعاتها المختلفة بممارسة مسؤولياتها ودورها، يشكل مدخلاً لوقف التدهور في الحال العربي جميعه والحدّ من النزاعات العربية ولجمها، مما يعني توفير الطاقات العربية المهدورة وتوظيفها في مصلحة المستقبل العربي.
السفير