الفتنة المشرقية.. إبعاد هذه السياسة عن الدين والطائفة
غسان المفلح
الدعوة إلى فصل الدين عن السياسة، تكاثرت منذ عقدين من الزمن، وتصاعدت خاصة بعد أحداث 11 أيلول/سبتمبر وانهيار مركز برجي التجارة العالمية في نيويورك، هذه الدعوة بالطبع وجدت صدى لها في العالم العربي عموما، وفي دول مشرقية ومصر بشكل خاص. لأنها لم تعد قضية مطروحة في تونس والجزائر والمغرب، والسبب أنها دول بغض النظر عن كثير مما يقال، حققت نقلة على صعيد الحريات، وأسست لها دستوريا، إضافة لنقطة على غاية من الأهمية، ان هذه الدول الثلاث، ليس لديها طوائف، والدين لديها أكثر دهرنة من دول المشرق، وذلك لأسباب عديدة لسنا بصدد الحديث عنها الآن، وما حدث في الجزائر هو نتاج اختلاف النظام السياسي عن كل من تونس والمغرب، وبالطبع هذا الاختلاف له حيثياته ونتائجه التي شهدناها وكلها ذات منشأ سياسي.. ولنلاحظ نتيجة لهذا الاختلاف عن دول المشرق، أن النخب السياسية والثقافية هناك، تحمل عناوين تحديث الدولة والمجتمع.. واستطاعت أن تبني خطوة أولى في التعاطي مع الإسلام السياسي السلمي، اصبح جزءا من العملية الديمقراطية، رغم محدوديتها، ومع ذلك نلاحظ أن الرئيس التونسي زين العابدين بن علي يرفع راية علمنة المجتمع وتنميته على كافة الصعد، وقد حقق الاقتصاد التونسي نقلة نسبية باعتراف الجميع.
أثبتت تجربة الدول الثلاث، أن حرية المجتمع على المستوى العام والفردي وحدها الكفيلة بتحقيق التقدم على كافة الصعد. الحرية استوعبت هذه العلمانية، ولم يبـــق للنخب التي تتصدر العلمانية أولوياتها من وظيفة سوى تنمية الثــــقافة المجتمــــعية من أجل صيانة وتعزيز مفهوم الحرية الفردية وما يترتب عليها، أي مجتمع يفصل الدين عن السياسة، وهذا من حقهم بغـــض النظر عن أي اعتبارن فهم لم تعد لديهم مشكلة في تصنيف أنظمتهم السياسية، كحالنا نحن السوريين مثلا، تارة نرى أن نظامنا علماني وتارة نراه نصف علماني، وتارة أخرى نراه ليبراليا على المستوى الاجتماعي والاقتصادي.
أما في مصر رغم تقدم الحريات العامة والفردية، ورغم غليان المجتمع المصري بتقدمه الديمقراطي، لا نعرف لماذا لايزال النظام السياسي متمسك بمادة أن ‘دين رئيس الدولة هو الإسلام؟ ربما كما يقال انه لازال يرى اللعبة مع الدين خصبة ومربحة سياسيا، من أجل التوريث واستقرار النظام، لفترة أخرى! ورغم ذلك لا يمكن تبرير هذا التمييز ضد الأقباط والمواطنين المسيحيين المصريين، بأي حال من الأحوال. لهذا لازالت قضية الحريات العامة والفردية تحتل مساحة الفعل الثقافي السياسي والفكري في مصر.
وبمناسبة الفتنة يفند الباحث المصري مكرم أحمد في مقاله في ‘الأهرام’ ‘الفتنة تدخل طورا خطيرا’02.10.2010 أسباب هذا الأمر بأربعة يمكن للقارئ العودة إليها، ولكننا نعرض منها سببين’ المشكلة الثالثة: تتعلق بضرورة التزام الدولة بوضع برنامـــج تنفيذي يستهدف تطبيق كل حقوق المواطنة على أقباط مصر بما يكفل المساواة الكاملة في كل الحقوق والواجبات بين جميع المواطنين… لأن هذه القواعد ينبغي أن تلقى احترام النص الدستوري، لأن المساواة وتكافؤ الحقوق والواجبات هما الركنان الأساسيان لأي دستور إنساني صحيح.
* المشكلة الأخيرة: تتعلق بحقوق تغيير المعتقد والملة والديانة باعتبارها حقوقا طبيعية شخصية، لا يجوز للدولة المدنية أو أي من مؤسسات المجتمع المدني التدخل فيها في عصر جعل حرية الاعتقاد ركنا أساسيا في حقوق الإنسان…’
هنا تنقلب الآية ونحن نعبر مصر تجاه المشرق حيث المطلوب إبعاد السياسية عن الدين كليا.. وليس فصل الدين عن السياسية..! ليست القضية في المشرق لغزا.. وهذا ما نحاول أن نتطرق له هنا..
نأتي الآن إلى مشرقنا، المتخم بالنفط المدولن، والمقاومة، وإيران، وإسرائيل كمحظية أمريكية أوروبية، والآن تركيا.
‘ فصل الدين عن الدولة’ والسياسة هي عنصر من عناصر هذه الدولة، فصله عن الحق والواجب، وفصله عن مؤسسات الدولة، وجعل الحرية مؤسسة تضمن للدولة ما تضمنه للأديان، وهذه قضية نسبية ولازالت خلافية، حول التداخل المؤسسي في تلك الحالة بين المؤسسات الدينية ومؤسسات الدولة في كل تجربة على حدا.. وهذا أمر من وجهة نظرنا مختلف عما نطرحه الآن نقول بفصل السياسة عن الدين لمجموعة من الأسباب أهمها:
– السياسة فيما يسمى دول المشرق، لا تمثل لا المجتمع ولا الدولة، بل تمثل فقط أشخاصا.
– السياسة لا تحركها مصالح الدولة، بل تحركها مصالح النخبة الضيقة من الأشخاص المستولين قوة وعنوة على ما تتيحه سلطة الدولة لهم..
– السياسة مع الغرب وإسرائيل ضمنا في المشرق لاتزال مستندة الى مراعاة مصالح نفس الشخوص السلطوية وعائلاتهم.
– السياسة في المشرق لم تعرف الحرية ولم تعش حتى اللحظة ما يمكننا تسميته ضغط الرأي العام الداخلي، وإن كانت أحيانا توهم الآخرين بذلك، ولكنها في النهاية تصيغ سياساتها بناء على مقدمة كبرى أنها تمتلك جهاز القمع القادر على مواجهة أي مساءلة داخلية.
– السياسة تتحول إلى علاقات شخصية واستخباراتية، احيانا تجد المصلحة الشخصية أو الصداقة أو علاقة القرابة بين زعيم إسلاموي متشدد ورجل استخبارات من النظام السياسي الهجين تعريفا، ويمكن أن يترتب على هذه الصداقة قضايا ذات أبعاد سياسية خطيرة.
– السياسة المشخصنة، لا تقف عند حد يمكن أن تلعب بكل الحدود، ومنها حدود إثارة الفتنة، لماذا لأنها تشعر بأنها هي صاحبة الحق في كل شيء ولا أحد يحاسبها أو يحق له محاسبتها، لذا يمكن أن تنشئ هذه السياسة المشخصنة علاقات تبدو لنا غير مفهومة.
بناء على هذه المعطيات وغيرها التي يمكننا تعميمها على أكثرية دول المشرق، يمكن لنا أن نفهم لماذا موضوع الفتنة مطروح في دول المشرق وغير مطروح في الدول المغاربية. وهنالك فارق بين فتنة دينية أو طائفية وبين صراع سياسي مباشر على السلطة كما جرى في الجزائر. الطرفان الرئيسيان في الصراع كانا ينحدران من نفس الدين ومن نفس المذهب حتى..
هذه السياسة المشرقية هي التي خربت الدولة والدين والسياسة معا، وأفلست بلدانها رغم ما تتمتع به من خيرات، فمن يسرق وينهب مال الفقراء لا يجد أية غضاضة باللعب بأديان هؤلاء الفقراء وطوائفهم.. بل العكس هو الصحيح، فهو يجب أن يلعب بها من أجل أن يستمر بنهب الدولة والمجتمع معا.
أكثرية التنظيمات الدينية والطائفية خضعت لهذه اللعبة، ومنها من أنتجتها هذه اللعبة الخطرة، لذلك تجد أنظمة المشرق تمنع تطور الفتنة إلى عنف في غالب الأحيان، وهي تعرف أسبابها، وتعرف كيف تئدها إلى الأبد، ولكن ليس من مصلحتها، فالتهديد بالفتنة وتخويف الناس والدول الأخرى بها سياسة وسياسة لازالت مربحة لهذه النخب الضيقة أيضا…
هذه السياسة المطلوب فصلها عن الدين، أما فصل الدين عن السياسة المطروحة غالبا فأمر بات له مختصون ومرجعيات وشيوخ طريقة، لأنهم يرون أنه عليهم حماية هذه السياسة ‘بالذات’ التي خربت الأوطان والوجدان من الدين! والأخطر في الموضوع أنها تريد حمايتها من الدين بوصــــفه قوة يمكن ان تتحول إلى معارضة سياسية من أجل حرية المجتمع، وعنصرا في تراث المجتمع الأخلاقي، وليس بوصفه قضايا أخرى يصدرون بها آراءهم للبشــــر، انه بحاجة إلى إصلاح ديني أو بحاجة لكي يتعلمن أو أن يدخل الحداثة وما بعدها- على أساس أن هتلر لم يكن علمانيا وحداثويا، لا بل ما بعد حداثوي!؟.. الخ المعزوفة، التي يريدون من خلالها تأبيد هذه الأنظمة الكابوسية، أنظروا ماذا تفعل بالعـــراق ومعه إيران أيضا، يريدون النظام السياسي العراقي نسخة منهم أو نسخة لبنانية قابلة دوما لتصدير أزماتهم إليها أو الاستفادة منها، بزبائنية لا تحتمل أي حد قانوني أو أخلاقي.
‘ كاتب سوري
القدس العربي