الإصلاح في الطوائف؟
سليمان تقي الدين
كانت السياسة اللبنانية تقوم على تيارات مدنية، وطنية، قومية، يسارية، وتنوّع في المصادر الثقافية. أدت الحرب المركّبة إلى انهيار التيارات المدنية لصالح التطئيف والتمذهب. لم تعد هناك مصادر عقلانية للسياسة. يتغذى الإسلام السياسي من العقائد الدينية الموروثة، ويفقد المسيحيون والدروز ثقافتهم الليبرالية. انشقت المؤسسة السياسية المسيحية على خيارين، الأول يستغرق في اللبننة التي تقود إلى الانعزال، والثاني يسعى إلى «مشرقية» تحضنه وتحميه كتيار سياسي طائفي منفتح. أما الدروز فلم يستعيدوا توازنهم السياسي بعد الارتجاجات الناشئة عن وحدانية الزعامة وتقلباتها.
أنتجت ثقافات الطوائف في الماضي رؤى مشتركة للبنان تتقوى وتنمو على المصالح المدنية في إطار الدولة كمجال عام. ساهمت العقلنة السياسية، لا سيما الضغط المتمثل بالقوى العلمانية، في تعزيز المجال الوطني على حساب المصالح الفئوية. أما اليوم فقد فاضت المؤسسات السياسية الطائفية وألغت المساحات المشتركة وراحت تبحث عن إيديولوجيات هزيلة لتبرير هوياتها ومشاريعها.
لم تعد «اللبننة» مفهومة أصلاً في ظل صمود الكيان الجغرافي وحدوده. ولم تعد «العروبة» مفهومة في ظل خوائها كمشروع بعد أن تحولت الأنظمة التي حملت شعاراتها إلى ارتباط سياسي تفرضه موازين القوى. ولم تعد «المشرقية» ذات معنى يتعدّى التكيّف مع محاولات تشكيل منظومات إقليمية غير محسومة، تتنازعها تيارات سياسية وثقافية واقتصادية كبرى.
في أزمة لبنان الوجودية اليوم تتحكّم الظرفية السياسية والبراغماتية (النفعية المؤقتة) بالتطورات فيه. فلا السنّية السياسية يمكن أن تتأصل خارج العروبة، ولا الشيعية السياسية يمكن أن تتحوّل إلى ثورة دائمة خارج الجغرافيا، ولا المسيحية السياسية يمكن أن تستمر كمشروع في زحمة الاضطراب الإسلامي السياسي والعقائدي، ولا الدرزية السياسية يمكن أن تعيش من دون التوازن بين هويتها الثقافية وليبراليتها السياسية.
في واقع الأمر تعيش الطوائف اللبنانية بتجلياتها السياسية المتكئة إلى محاولات التأصيل الثقافي الفئوي مأزقاً حاداً داخل صفوفها وفي ما بينها مجتمعة. ليس بين الجماعات مَن يملك مؤهلات للهيمنة الإيجابية الموحدة، ولا يمكن أن تشكّل الطوائف بهوياتها الطائفية المتجذرة والمتوترة الآن مشروع دولة واحدة. ما تملكه الطوائف من ميزات أو امتيازات أو مصادر قوة مادية أو معنوية لا يشكل في المدى اللبناني أفقاً لمركزية سياسية. العنف المعنوي والمادي الذي يندلع بين حين وآخر دليل على استحالات عدة منها التقسيم النهائي والتوحيد بالقوة. لبنان معلّق اليوم على مشاريع موهومة بقدرة الطوائف على العيش في مسالمة واستقرار على أساس من النظام الطائفي ومؤسساته الرسمية وغير الرسمية.
كلما تأخر اللبنانيون عن إدراك هذه الحقيقة وقبولها، ابتعد احتمال خروجهم من الصراعات المتفجّرة. لا يستطيع الإطار الإقليمي أن يساعد اللبنانيين على مواجهة مشكلاتهم إذا لم يجدوا لأنفسهم وسيلة لإدارة عيشهم المشترك. لا يمكن التقدم في هذا الاتجاه إذا ظلت القضايا المطروحة في لبنان ملفات تخص الطوائف، من الدفاع الوطني والأمن إلى السياسة الخارجية والحرية والعدالة والاقتصاد. اللبننة والعروبة والمشرقية وحتى الأسلمة في أي نموذج مستقر تحتاج كل واحدة إلى الاشتراك في المواطنة أو الاشتراك في الحقوق والواجبات.
لن يتقدم المشروع «الوطني» اللبناني إلا من خلال نفاذ هذه الأسئلة إلى الطوائف وإنتاج تعددية سياسية ـ ثقافية حقيقية داخلها. هناك اليوم انشقاقات «سياسوية» أي تتخذ طابع السياسة، وهي في العمق سطحية مصلحية لهذه أو تلك من القوى المهمّشة في الطوائف. هناك صراخ وضجيج لدى كل الطوائف واحتجاج على الحصرية، ولكن ليس على الأفق المرتجى للخروج من أزمة المشاريع كل المشاريع الطائفية. في ظاهر الحال تبدو هذه الظاهرات نوعاً من «عمالة» بعض الفئات لطوائف أخرى. في معظم الأحيان، وفي غالب المواقع والممارسات هذه حقيقة عملانية وإن لم تكن مطلقة. على السطح السياسي يبدو غريباً أن تكون مستقلاً أو في موقف النعم واللاّ المشروطتين. في حين يجب أن تكون هذه قاعدة ذهبية من قواعد السياسة العقلانية. مع المقاومة بشروط، ومع العدالة بشروط، ومع اللبننة والعروبة، وطروحات الإصلاح والتغيير كذلك. إذا كان هناك من معنى «للثوابت» فهي في تكاملها كمنظومة من القيم المشتركة. كل ما هو ثابت حصراً لفئة معينة هو نفي لثابت آخر لدى فئة أخرى. تسقط الثوابت حين تصير احتكاراً كما هو متداول في السياسات اليومية: أنا العدالة أو الحرية أو المقاومة أو السيادة أو التقدم. إذا كان الآخر في البلد الواحد لا يعرض عليّ شراكته في هذه القيم فهو لا يستطيع أن يفرضها كقيم مشتركة. ليس ما نقول ترفاً فكرياً بل هو الصعوبة في مواجهة المصاعب. لن نخرج من هذا النفق المتمادي إلا بعقلنة السياسة وإخراجها من «المقدس» الديني والطائفي والشخصاني.
التعدد الطائفي والثقافي والسياسي معطى واقعي يجب الاعتراف به والتعامل معه وقبوله وإدارته بالحوار والديموقراطية. يبدأ العنف من لحظة الإلغاء المعنوي أو الإنكار أو التجاهل. وفي خطابنا وثقافتنا وممارستنا حجم هائل من مشاريع الإلغاء.
السفير