الأخلاق السياسية والفضائل الحزبية
بقلم جاد الكريم الجباعي
يعترف الجميع اليوم أن عبارات الحزبي والرفيق والمناضل والثوري وما في سياقها قد أصابها غير قليل من التشويه، حتى باتت موضوع سخرية وتهكم، يعود ذلك، كما نعتقد، إلى انحطاط الأخلاق السياسية، وشحوب إن لم نقل انعدام، الفضائل الحزبية بوجه عام. ولعل معظمنا لا يعترف بـ / أو لا يعرف أن كل نظام اجتماعي سياسي يقوم على نظام أخلاقي، وكذلك كل نموذج ثقافي، كالثقافة العربية والثقافة اليونانية والثقافة الإسلامية… وكذلك جميع الثقافات الأخرى. وقد عرف التاريخ أنظمة سياسية قامت على مبدأ الشجاعة وأخرى على مبدأ الشرف وثالثة قامت على مبادئ المساواة والتسامح والاعتدال وغيرها من قيم المواطنة، بما هي فضيلة الدولة الجمهورية. الاستبداد وحده انتهاك لمبادئ الأخلاق وانتهاك للفضائل الأخلاقية وللنظام الأخلاقي، وهو عامل تفسيخ القيم الأخلاقية وسبب انحلالها، إنه إهانة للكرامة الإنسانية.
البعد الأخلاقي للحياة الاجتماعية بوجه عام، وللسياسة بوجه خاص، ينبع من حقيقة أن الإنسان / الفرد كائن عاقل وأخلاقي في الوقت ذاته، لا يمكن فصل العقل عن الأخلاق، لأن الأخلاق هي التي جعلت الإنسان إنساناً. (الدين يندرج في مكارم الأخلاق، لذلك قال الرسول الكريم: إنما جئت لأتمم مكارم الأخلاق). جميع العلاقات الاجتماعية والإنسانية ذات بعد أخلاقي، بل ذات محتوى أخلاقي، وكذلك علاقات الإنتاج. المحتوى الأخلاقي لهذه العلاقات هو المحتوى الإنساني، فإذا ما ضمر محتواها الأخلاقي / الإنساني تصير علاقات قوة وتسلط وغطرسة واستغلال واستبداد.
النقد الذي وجهه الاشتراكيون العقلانيون / الأخلاقيون لعلاقات الإنتاج الرأسمالية كان يذهب بخط مستقيم إلى ضمور المحتوى الأخلاقي / الإنساني في هذه العلاقات، أو جفافه، أو انعدامه، ولا سيما حين يغلب الاحتكار على المنافسة؛ لذلك تجسد النقد الاشتراكي في قيم الحرية والعدالة والمساواة، القيم التي تضع البشرية على خط التحسن والتقدم، وهي قيم أخلاقية بقدر ما هي اجتماعية سياسية، لا يمكن فصل ما هو اجتماعي / اقتصادي وسياسي عما هو أخلاقي، لأننا نعيش في تاريخ هو في الجملة تاريخ تحسن الإنسان وتقدمه، رغم التراجعات والانتكاسات، وأخطرها ما نشهده اليوم من غطرسة القوة ودكتاتورية السوق.
ما كان للتسلط والاستبداد أن يوجدا وأن يبلغا، عندنا، هذا الحد لولا انتهاك النظام الأخلاقي للمجتمع، لولا ازدراء النظام الأخلاقي العام، وازدراء القانون العام، وازدراء كل ما هو عام ووطني، وتعظيم كل ما هو خاص وفئوي، ولولا تهاون مجتمعنا في الدفاع عن نظامه الأخلاقي، وتهاونه في الدفاع عن القانون. ما كان لهذا كله أن يحدث لولا حلول “الثورة” محل الدولة، والدولة كائن سياسي وأخلاقي بالتعريف، ولولا حلول سلطة الحزب الثوري محل سلطة الدولة، أي سلطة القانون، ولولا تحول مجال الدولة ومجال سلطتها السياسية من مجال وطني عام إلى مجال خاص، غدت معه مبادئ الحق وقيم الحرية والعدالة والمساواة خاضعة خضوعاً تاماً للاقتناع الذاتي للفئة الحاكمة، التي صارت هي وحدها من يقرر، تحت غطاء الأيديولوجية الثورية والمشروعية الثورية، ما هو الحق وما هي الحقيقة وما هي الوطنية وما هي مصلحة الشعب ومصلحة “الأمة”، وما هي العدالة وما هي الحرية وما هي المساواة، ومن الذي يستحقها، ومن الذي لا يستحقها (لا حرية لأعداء الشعب، ولا عدالة لهم، ولا مساواة بين المناضل “التقدمي” وبين الرجعي، عميل الاستعمار والإمبريالية، وكل من ليس مناضلاً تقدمياً رجعي بالضرورة). لنقل بكلمة موجزة إن انتهاك النظام الأخلاقي، الذي كان آخذاً في التشكل، هو انتهاك العقد الاجتماعي الذي كان آخذاً في التشكل، أي انتهاك لمبدأ كلية المجتمع وعمومية الدولة ووطنية السلطة. ذلكم هو المغزى العميق لاستمرار حالة الطوارئ والعمل بالأحكام العرفية. الامتيازات حلت محل الحقوق المدنية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية، وإرادة الحزب الثوري حلت محل الإرادة العامة التي يجسدها القانون، ذلكم هو أساس الانحطاط الأخلاقي.
يكفي التدليل على ذلك بواقع أن المجتمع انقسم إلى راشين ومرتشين ورائشين بينهم، وإلى وشاة ومخبرين، مأجورين ومتطوعين، وموشيُّ بهم ومخبر عنهم، وأن الملك العام صار ملكاً سائباً وغنيمة لكل مقتدر، ومفهوم “حلال على الشاطر” حل محل مفهوم الحلال. من هو الشاطر، الذي يرتشي، بلا خجل ولا شعور بالإثم والعار، ومن هو المخبر الواشي، الذي يعتبر الوشاية واجباً ثورياً، لأنها تندرج في باب الدفاع عن الحزب وعن الثورة ضد أعدائهما، ومن هو المقتدر الذي يسطو على المال العام وعلى الملك العام لا يخشى رقيباً ولا حسيباً .. من هو هذا الشاطر سوى الرفيق؟!
المسألة، كما تبدو لنا، ليست مسألة عيوب أخلاقية في الأشخاص، بل مسألة عيوب أخلاقية في النظام الذي ينتج العيوب الأخلاقية، ويهدر الكرامة الإنسانية، ولا يقوى ولا يستمر إلا بقدر ما يدمر ذاتية الأفراد وحريتهم واستقلالهم، وبقدر ما يهين كرامتهم، بقدر ما يلغي الشخص القانوني في الإنسان (المواطن) ثم الشخص الأخلاقي، لأنه قائم على التبعية والاستزلام والوشاية والكيد والانتقام، وعلى الولاء الحزبي والولاء الشخصي، وعلى ولاءات أخرى ما قبل وطنية. لذلك كانت النزاهة والاستقامة واحترام الذات والحرص على المال العام والشأن العام والعمل بمقتضى القانون محنة على من ظلوا ممسكين بها، كالممسكين بالجمر.
ما دامت المسألة كذلك، أي مسألة نظام ينتج العيوب الأخلاقية، ومسألة أيديولوجية تسوغ هذه العيوب وتبررها باسم الثورة وضرورات الدفاع عنها، وباسم الصمود والتصدي والممانعة، فإن إعادة إنتاج النظام الأخلاقي المجتمعي والخروج من بؤرة الفساد والإفساد تبدأ بإعادة الاعتبار للقانون الوضعي العام، الذي يسري على الحاكمين والمحكومين بلا استثناء ولا تمييز. فالقانون قيمة أخلاقية في ذاته، ونظام عام لإنتاج القيم الأخلاقية في الوقت عينه. القانون هو ماهية الدولة الوطنية الحديثة وجوهرها، هو ماهية الجمهورية وجوهرها، والمواطنة هي فضيلة الجمهورية بامتياز، لأن المواطن هو أساسها، وغاية جميع وظائفها الاجتماعية.
الإنسان غاية في ذاته لا يجوز أن يكون وسيلة لأي غاية أخرى مهما سمت، وكذلك المواطن. أساس المواطن هو الإنسان، وحقوق الإنسان الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية تتجلى عملياً في حقوق المواطن، في كل دولة وطنية على حدة، ولا تنفصل عن الحقوق الأخرى التي أقرتها شرعة حقوق الإنسان وملحقاتها.
هنا تجدر الإشارة إلى أن الديمقراطية التي ننشد هي ديمقراطية إنسانية ينمو فيها العنصر الأخلاقي / الإنساني طرداً مع نمو العدالة الاجتماعية. فالعدالة هي التجسيد العملي للمساواة. الديمقراطية، التي لا تختزل إلى آليات ديمقراطية تقتضيها “اللعبة السياسية”، هي الحاضنة التاريخية للعدالة، ما دامت الديمقراطية نظاماً عاماً يضعه المجتمع لنفسه ويعمل على تطويره وتحسينه باستمرار وفقاً لتحسن شروط حياته، ونمو ثروته البشرية والمادية والروحية.
على صعيد آخر، لا حياة سياسية سليمة بلا أحزاب سياسية مختلفة ومتنافسة يسعى كل منها لتقديم أفضل ما لديه لمجتمعه، في الوقت الذي يناضل فيه من أجل قضيته الخاصة، قومية كانت هذه القضية أم إسلامية أم اشتراكية. والحزبي في مبدئه هو “ملح الأرض”، لأنه يخرج من قوقعته الأنانية إلى رحاب الغيرية وإلى رحاب الجماعية والمجتمعية، وإلى رحاب الوطنية والإنسانية، وينظر إلى مصالحه الشخصية وإلى المصالح الخاصة من منظور المصلحة العامة، ويكرس وقته وجهده من أجلها، بل يخاطر بحياته في سبيل قضية عامة يدعمها وتدعمه. الغيرية وإيثار المصلحة العامة والانحياز إلى العدالة والتضامن مع الحقيقة من أهم فضائل الحزبي. تنافس الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني على تقديم أفضل ما لديها للوطن هو المناخ المواتي للحفاظ على القيم الأخلاقية، وإنتاج قيم جماعية ومجتمعية، وطنية وإنسانية، بخلاف مناخ الاحتكار والاستئثار وطغيان المصالح الخاصة والفردية على المصلحة العامة.
الحزبي ملح الأرض، والأحزاب السياسية، (لا الأيديولوجية أو العقائدية)، التي تتنافس على تقديم أفضل ما لديها لمجتمعها وشعبها، من خلال برامجها ورؤاها وممارستها، شرط لازم، لا غنى عنه، لحياة سياسية سليمة ولحياة أخلاقية سليمة، وفي هذا السياق تتجلى فضائل المعارضة السياسية، التي تستحق اسمها، بوصفها سلطة بالقوة، يمكن أن تصير سلطة بالفعل. الأحزاب السياسية التي هذه بعض صفاتها تستمد مشروعيتها من الشعب لا من العقيدة، وناخبوها هم من يقررون مصائرها نجاحاً أم إخفاقاً، وهم من يرفعونها إلى سدة الحكم ويسقطونها عنها، لا أن تقرّر هي مصير ناخبيها بل مصير شعبها ومجتمعها ووطنها، كما هي الحال عندنا.
لدى أي سلطة على الإطلاق ميل ما إلى تجاوز حدودها، وإلى الاستهانة بالقانون الذي أوكلت إليها مهمة تنفيذه، والمعارضة هي من يضع حداً لهذا الميل، ويكشف جميع مظاهر الاستهانة بالقانون، حتى تصير سلطة بالفعل تتلقى سهام النقد. هذه العملية المجتمعية المعقدة أشد التعقيد، التي يعبر عنها تداول السلطة سلماً هي مما يصون النظام الأخلاقي من غوائل المصالح الخاصة العمياء. ونعني بالنظام الأخلاقي هنا كل ما يبنى على مبادئ الحرية والمساواة والعدالة، منظوراً إليها في واقعها الفعلي على مسرح التاريخ. والقانون الوضعي هو قوام هذا البناء، لأنه حرية موضوعية وأخلاق موضوعية وتعبير عملي عن العدالة.
موقع الآوان