صفحات مختارة

الإقامة العربية في الماضي

null
خالد غزال
ندر أن وجدت  مجتمعات في العالم الحديث مشدودة إلى ماضيها على غرار ما هو عليه حال مجتمعات العالم العربي. فالماضي هنا يمسك بتلابيب الحاضر ويحدد معالم المستقبل، والأموات يجثمون على الأحياء ويمنعون أي خروج من إسار سلطتهم. رغم التطورات العلمية والتكنولوجية الهائلة التي شهدها العالم خلال القرن العشرين وتصاعدها المتواصل، يبدو أن العالم العربي قرر الانغلاق على نفسه وإدارة الظهر للتاريخ والاكتفاء بما أنتجه ماضيه. لا يعنينا أن يكون لنا موقع في صناعة المستقبل، مستمتعين بالإقامة في التخلف والركود، مستسلمين لثقافات عفا عليها الزمن، مبتهجين بما حققناه ومعتبرين أن التاريخ توقف عند هذه الانجازات، وهو ما دفع  بفوزي منصور في كتابه “خروج العرب من التاريخ” إلى الحكم على العرب بأنهم  يديرون ظهورهم للمستقبل غير أبهين بعودة الانحطاط بأشكاله المتعددة. تكاد الإحالة إلى الماضي تشمل جميع المجالات من الثقافة إلى العلوم إلى الدين والاقتصاد والاجتماع، وهو شأن يضع العربي في حالة من الانفصام بين توقه إلى مواكبة العصر وبين انشداده إلى الموروث بكل أشكاله، هي معركة التجديد والنهضة التي انخرط فيها كثيرون، ومعركة الثقافة العقلانية بروادها القلائل الذين كابدوا طغيان التقليد، وما زالوا يدفعون ثمن الخروج من الماضي وظلاميته. فما هي سمات الثقافة العربية الراهنة، وكيف وأين يتجلى الانجذاب إلى الماضي، وما الأسباب التي حتمت تكريس هذه الإقامة، وبالتالي هل من سبيل إلى الخروج منه والدخول في العصر؟
في بعض سمات الثقافة العربية الراهنة
تحتل الثقافة موقعا مركزيا ومقياسا لمدى خروج مجتمع محدد إلى رحاب التقدم. يعيش العالم العربي معركة نهوضه في جانبها الثقافي كما يخوضها في المجالات الحضارية الأخرى. وإذا كانت الغلبة حتى الآن للبقاء أسرى الماضي ، فإن ما أنجز على صعيد المعركة الثقافية لصالح التقدم يظل يشكل واحدا من العناصر الايجابية التي يمكن البناء عليها حاضرا ومستقبلا.
يمثل الاعتداد بالذات احد أمراض الثقافة العربية، يطغى على العقل العربي جنون امتلاك الحقيقة والرأي الصواب. تنغرس هذه النظرة عميقا في الوجدان العربي المصاب بنرجسية الدور الرسولي المناط به في قيادة العالم وتحول العرب إلى القوة المهيمنة، وهي نظرة تستند إلى تراث ديني يضع العرب في المكانة الأولى بن شعوب العالم لكون نبيّ الإسلام قد خرج من ديارهم ولكون المسلمين “خير أمّة أخرجت للناس”. يحمل التراث الأدبي والفكري العربي منذ عصوره الأولى هذه النرجسية، ويسعى المثقف العربي إلى إسقاط الماضي على حاضره. ينتج عن هذه النظرة ازدواج يعبر عن نفسه بكون الذات العربية تعيش ماديا وعمليا في العصر الحديث، لكنها في الواقع تظل مشدودة إلى القرون الغابرة. والأخطر من ذلك ادعاءات بعدم الحاجة إلى علوم الآخرين خصوصا ما هو آت من الغرب بكل ما يعنيه ذلك من إقامة في التخلف الحضاري المتعدد الجوانب.
سمة ثانية من سمات الثقافة العربية تتصل بسيادة ثقافة التقليد وغلبة النقل على العقل. تعتمد ثقافة التقليد على تقديس الماضي بشكل أساسي، مما يجعل كل إحلال لمبضع النقد لهذا الماضي موضع رفض وشبهة في المقدم عليه. إن عقلية القياس هذه تعجز عن تصور الجديد وغير المألوف في التراث، مما يجعلها عاجزة عن تمثل الحداثة الراهنة، وذلك لانشدادها إلى قياس الحاضر على الماضي، وهي عقلية موروثة من الفقهاء والمتكلمين. ولأنّ هذه الثقافة تمارس تقديس النصوص وعبادتها ، فلا مانع لديها من جعل النص يتماهى مع الدين بما يكسبه صفة قدسية وبالتالي يحوله إلى سلطة مادية. أدّى هذا التقديس للنص مقرونا بغياب العقلانية إلى صعوبة في التمييز بين الحقيقة والصواب واقتحام للأساطير والخرافات والغيبيات وهيمنتها على قسم واسع من التراث. هذا الابتلاء الذي أصاب العقل العربي بالعودة اللاتاريخية إلى الماضي والإقامة فيه منعه من رؤية الايجابي في هذا الماضي للإفادة منه واستلهامه مجددا، ووضع ما بات خارج الزمن جانبا بصفته تعبيرا عن مرحلة محددة من التاريخ العربي يتسبب التمسك بها بإعاقات تمنع مسار التقدم وتعرقله.
يشكل “تديين الثقافة” واحدا من المؤشرات الخطرة التي تربط الثقافة العربية ربطا وثيقا بالماضي. يفرض على المجتمعات العربية قراءة للنصوص الدينية غير تاريخية لا تأخذ في الاعتبار تاريخ نزولها ومكانه والتشريعات التي ترتبت عليها، وهي شؤون لا تتلاءم مع الواقع الراهن والتطورات التي طرأت خلال قرون مضت. نجم عن ذلك تحول التاريخ العربي والإسلامي إلى ما يشبه اجترارا للماضي وتمجيدا للأسلاف مقرونا ببكائيات على هذا الماضي.ويتجلى تديين الثقافة بقوة من خلال إغراق المكتبات ومواقع الانترنت ومعارض الكتب بأنواع من الكتب التراثية ذات الاتجاه السلفي المتشدد، وهي ثقافة تؤكد على الدوام أن الحقيقة موجودة في الماضي، وبالتالي لا حاجة إلى البحث في الحاضر والمستقبل. وهي أفكار تعفي المثقف العربي من تحليل الداخل وتعيين أسباب الظواهر المتعددة، بل التركيز على مقولة قضاء الله وقدره في ما يصيب العرب من أحداث.
لا تنجو سياسة التديين هذه من مسؤولية تغذية ثقافة الكراهية والعنف بين الطوائف والمذاهب خصوصا أنها تتغذى من مصدرين أساسيين هما المأثورات اللاهوتية من جهة، ومن البنى العصبية والعشائرية والطائفية من جهة أخرى. وهي موروثات يجري استحضارها بقوة في الثقافة والسياسة والاجتماع وفرض حقائقها الماضوية وإسقاطها على الراهن من الأحداث. إن ما يجري من اقتتال أهليّ تحت عنوان الصراع بين السنة والشيعة في أكثر من مكان إنما هو احد مظاهر هذا الاستحضار الدائم للتاريخ السياسي القديم ورميه مجددا على الحاضر بكل ما حمله هذا التاريخ من عنف وكراهية. ولأنّ الماضي يجثم إلى هذه الدرجة على الحاضر، فإنّ الثقافة العربية تستسهل اعتماد نظرية المؤامرة على العرب والمسلمين بهدف الحط من شأن ثقافتهم ودينهم وحضارتهم، بما يجعلهم أسرى التخلف والركود. ينجم عن نظرية المؤامرة ما بات يعرف بمفهوم “الأمن الثقافي العربي” الهادف إلى الدفاع عن المكونات الثقافية الأصلية للعالم العربي في وجه زحف الثقافة الأجنبية والعلوم الوافدة بوصفها أدوات تسلط على الذات العربية. وهي نظرية تعفي العقل العربي من المساءلة عن المآل الذي أوصل العرب إلى هذا الدرك من الانحطاط وتعطيه تبريرا لأسباب الإخفاقات التي مني بها ماضيا وحاضرا.
تؤثر الإقامة في الماضي ثقافيا على درجة الإبداع والخلق في كل المجالات، وذلك لصالح ما يعرف ب”ثقافة الاستلهام”، وهي ثقافة تعفي نفسها من عناء البحث عبر استلهام الماضي سواء كان فلسفيا أم علميا أم أدبيا، وهو ما يفسر درجة القحط الثقافي والعجز عن مواكبة تطورات العصر. وإذا ما أثيرت قضايا وأسئلة فإنها تأتي بعد أن يكون الزمن قد تجاوزها وطرح تحديات جديدة. يفسر هذا الوضع عدم قدرة العقل العربي اللحاق بالحداثة وبإحداث حد من القطيعة مع التراث والماضي واستيعابه وغربلته بما يسمح بمواكبة الحاضر، فجاء استعصاء الحداثة بمكوناتها المتعددة ليؤكد أن ما تعرفه المجتمعات العربية ليس سوى تحديث مقطوع الجذور عن  الخلفية الفكرية التي أنتجته. لذا لا يعود غريبا أن نجد أقساما واسعة من المثقفين العرب يفتشون عن الأجوبة على الأسئلة الصعبة في ثنايا مؤلفات الغزالي أو ابن تيمية وغيرهم من مفكري الماضي.
في بعض تجليات العيش في الماضي
تشكل النظرة إلى العولمة وفهمها واحدا من تجليات البقاء في الماضي عربيا. يواجه العالم العربي تحديات العولمة فكريا وتقنيا واقتصاديا واجتماعيا وسياسيا. فالعولمة ترمز في حقيقتها إلى مرحلة من التقدم والتطور البشري تحتل فيه الثورة التكنولوجية وثورة الاتصالات وسيطرة الشركات عابرة القوميات على أسواق العالم وتخترق المجتمعات جميعها. تطرح العولمة تحديات على جميع الشعوب في مدى مواكبة النتائج الايجابية والسلبية لهذه المرحلة من التطور البشري. أثارت هذه العولمة نقاشات حادة بين النخب العربية وتفاوتت النظرة إليها سلبا وإيجابا، لكن الماضي ظل ملقيا بأثقاله في قراءة هذه الظاهرة.
يتسم النقاش السابق والحالي حول العولمة بخلفية سياسية وفكرية تتصل بعلاقة العالم العربي بالغرب. ينظر البعض إليها بوصفها مقولة وفعلا غربيين يقتحمان العالم العربي، فالغرب سبق له أن غزا المنطقة أيام الحروب الصليبية، وطرد العرب من الأندلس، واستعمر المنطقة العربية وقهر شعوبها ونهب مواردها، وزرع فيها المشروع الصهيوني، وهو اليوم يحتل الأرض مجددا. تسببت هذه الوقائع في سيادة تشكيك عربي بالعولمة بوصفها نتاج هذا الغرب وأداة سيطرته الجديدة.
في النقاش العربي لهذه الظاهرة غلبت قضيتان أساسيتان، الأولى ترى في العولمة مؤامرة أميركية ينفذها النظام الرأسمالي الأميركي، والثانية تدمج بين العولمة والنظام العالمي الجديد المكرس منذ انتهاء الحرب الباردة بقيادة الولايات المتحدة الأميركية من أجل السيطرة على العالم العربي ونهب موارده وفرض ثقافته وقيمه عليه. كما ربط البعض بين العولمة والشرق أوسطية التي هي مشروع إسرائيلي يمهد الطريق لدخول إسرائيل إلى العالم العربي للسيطرة على موارده وشعوبه.
ما زال المثقفون العرب يتخبطون في قراءة العولمة ويعجزون عن تقديم الفهم الموضوعي لها. يذهب محمد عابد الجابري إلى وصفها “أيديولوجيا تعكس إرادة الهيمنة.. وهي نفي للآخر وإحلال للاختراق الثقافي محل الصراع الأيديولوجي”. فيما يرى عبد الاله بلقزيز أنها “فعل اغتصاب ثقافي وعدوان رمزي على سائر الثقافات، وهي رديف الاختراق الذي يجري بالعنف المسلح بالثقافة”. ويذهب حسن حنفي بعيدا في اعتبارها عودة للاستعمار الجديد حيث أنّه ” بعد انكسار حركات التحرر الوطني عاد الاستعمار الاقتصادي والسياسي والثقافي والاجتماعي من جديد في صورة العولمة بالاقتصاد الحر   واتفاقية الجات والمنافسة والربح، والعالم قرية واحدة، والتبعية السياسية والقومية، ونشر القيم الاستهلاكية والعنف والجريمة المنظمة. كما أنها في مظهرها الأساسي تكتل اقتصادي للقوى العظمى للاستئثار بثروات العالم على حساب الشعوب الفقيرة واحتواء المركز للأطراف”. ويكمل حسن حنفي وصفه للعولمة فيرى فيها ” تعبيرا عن مركزية دقيقة في الوعي الأوروبي تقوم على عنصرية عرقية وعلى الرغبة في الهيمنة والسيطرة”.
تكشف ظاهرة العولمة والوجهة الغالبة في قراءتها وردود الفعل العربية عليها المأزق الحضاري للمجتمعات العربية. لم تأت مشكلة الهوية الثقافية العربية من اكتساح العولمة للعالم، بل هي في حقيقتها عجز العرب عن إعادة ابتكار هذه الهوية وإعادة تشكيلها بما يتناسب والتحولات التاريخية التي يشهدها العصر الحديث والتي لم توفر ميدانا واحدا من ميادين الحياة. إن مجتمعا مهموما ومستلبا بماضيه لن يقدر على رؤية هذه التحولات ومواكبتها، في وقت تخترق هذه التغيرات وتكتسح حياته الخاصة والعامة بدون أي استئذان منه.
يشكل العيش في التراث العربي والإسلامي مظهرا ذا أهمية خاصة بالنسبة للمجتمعات العربية. هذه المجتمعات تبدو في القرن الحادي والعشرين أسيرة النص الديني والنص التراثي في الآن نفسه. فقد تجمدت الأسئلة والاجتهادات منذ القرن التاسع وجرى الحجز على أي مراجعة لما أفتى به الفقهاء في ذلك الزمن وجرى تتويجه بصفته نهاية العلم في الفقه. يستمر الفقهاء المحدثون في استحضار تلك الفتاوى وإضفاء القدسية على ما جاء فيها بصرف النظر عن مرور أكثر من ألف عام على صدورها. في عصر الثورة المعرفية والعلمية وسيادة الانترنت وتحويله العالم إلى بقعة صغيرة، يبدو من المستغرب أن تسود قواعد فقهية تعود لألف عام من الزمن دون الأخذ في الاعتبار ما تغير في المكان والزمان.
نجم عن تقديس أحكام الفقهاء القدامى وتشريعاتهم منعا لإخضاع التراث إلى القراءة العقلية والنقدية قديما وحديثا، والإصرار على إسقاطه على الواقع الراهن امتدادا لتلك المعتقدات المعششة في العقل العربي حول الحقيقة المطلقة التي يقدمها التراث المستند إلى النص الديني والشروح التي قامت حوله. ترتبت على هذه العقلية سوء استخدام للنص في وقت يمكن الإفادة مما هو راهن منه ووضع ما تقادم مع الزمن جانبا. والأسوأ في الأمر أن إبعاد العقل عن قراءة التراث سمح للخرافات والأساطير بالتربع داخله بحيث بات من الصعب التمييز بين ما هو حقيقي وما هو خرافي من معتقدات وأحكام، وهو أمر يثقل اليوم على العقل العربي من خلال الفتاوى غير المتناهية حول أمور دنيوية لا علاقة لها بالدين أو بالنص الديني وإسباغ القدسية عليها بما يعطيها سلطة تفوق بكثير سلطة القانون والتشريعات المدنية.
والظاهرة الأشد خطورة في هذا الزمن تلك النظريات التي تنسب للنص الديني ولأحاديث النبي والأئمة أقوالا تجزم أن القرآن يحوي جميع العلوم الحديثة وانه قال بها مبكرا قبل أن يجري اكتشافها. يضاف إلى ذلك تنسيب كل أمور الدنيا إلى الدين، بحيث تحفل اليوم المكتبات بكتب عن الطب النبوي والاقتصاد الإسلامي والإعجاز العلمي للقرآن وغيرها من هذه المنوعات. إن نزع الصفة الدينية والروحية والأخلاقية والإنسانية عن النص الديني تفقده جوهره وأهميته وتجعله سلعة في الاستخدام الدنيوي والاجتهادات العشوائية من أي فئة تريد توظيفه في خدمة مصالحها، وهو شان حفل به التاريخ العربي الإسلامي القديم في الصراعات السياسية التي دارت بين فرقه ومذاهبه، وكان أبرزها الصراع السني الشيعي الذي عاد فاندلع بحرارة وقوة.
يمثل صعود الحركات الأصولية اكبر ارتداد إلى الماضي فكرا وممارسة وبرنامجا مستقبليا. تتجلى الماضوية في أكثر من ميدان من ميادين الأصوليات، وهو شأن يطال ليس فقط الأصوليات الإسلامية بل الأصوليات المنتمية إلى سائر الأديان وحتى إلى الأيديولوجيات ذات الصفة العلمية أو العلمانية. تكاد الأصوليات الإسلامية، وهي الغالبة في المنطقة العربية، تتقاطع على مقولة أساسية تتصل بدعوة المسلمين والعرب إلى تمثل نموذج عهد الخلفاء الراشدين قبل 1400 سنة باعتباره العهد الذي تحققت فيه العدالة والمساواة بين البشر وانتشرت فيه قيم الأخلاق التي عاد ت فتشوهت في مراحل لاحقة. لا تثبت وقائع التاريخ صحة ما يقول به الفكر الأصولي حول ذلك الزمن، بل إن التاريخ يظهر كم كانت هذه الفترة مدار صراع بين القبائل والعشائر السائدة على المغانم والسلطة، وعلى العنف الذي ساد تلك المرحلة والذي ذهب نتيجته ثلاثة من الخلفاء الراشدين اغتيالا. لكن الأصولية تقحم تاريخا لا أساس له مستخدمة الخرافات والأساطير والأحاديث والروايات غير الصحيحة لإضفاء صورة وردية عن عصر لم يعرف مثل هذه الصورة. إن أي محاكمة لعهد الخلفاء الراشدين يجب أن تستند إلى قراءة تاريخية لسمات ذلك العصر وللبنى السائدة وما فرضته من مسار على الجزيرة العربية مقرونا بنتائج التوسع خارج هذه المنطقة.
يطرح الأصوليون برنامجا سياسيا واقتصاديا واجتماعيا قوامه “الإسلام هو الحل”، وتخوض الحركات الأصولية الانتخابات النيابية على أساس هذا البرنامج. لا تعير هذه الحركات أي اهتمام لقراءة معاصرة للنص الديني وللأحاديث النبوية والفرز بين ما هو راهني وبين ما تجاوزه الزمن، بل تستعيد الماضي بمجمله وتعمل على إسقاطه على الحاضر وتقترحه برنامجا للمستقبل. يصبح هدف إعادة الخلافة الإسلامية مركزيا في التوجه السياسي للنظام الذي يجب أن يقوم. تستعاد آيات من القرآن تدعو إلى استعمال العنف ضد غير المسلمين نزلت في ظروف محددة من الصراعات والفتوحات، فيجري استحضارها وتقديمها غطاء أيديولوجيا لممارسات الحركات الإرهابية، بل توظف هذه الآيات والأحاديث في الدفاع عن العنف المستخدم في وصفه تنفيذا للجهاد في سبيل الله الذي دعا الله المسلمين إلى القيام به.

في موازاة ذلك يستعاد الماضي في وجه محاولات لإصلاح الدين وجعله مواكبا للعصر، فيرمى أصحاب هذه الدعوة بالهرطقة والمروق عن الدين بما يحلل إهدار دمهم بعدما جرى وصمهم بالكفر والارتداد. تستخدم وسائل الإعلام والتكنولوجيا الحديثة عبر الفتاوى والبرامج الدينية التي يغيب عنها الحاضر فتتركز برامجها وفتاواها على “العصور الذهبية” للعرب والمسلمين عندما كانوا يطبقون الشريعة الإسلامية، لتصل هذه البرامج إلى القول إن سبب النكبات العربية تعود إلى تخلي المسلمين عن دينهم وان خلاصهم لن يكون إلا باستعادة التمثل بماضيهم. يساعد على هذا التوجه أن نخبا غير قليلة من التي حملت برامج سياسية قومية أو ليبرالية أو اشتراكية لفترة من الزمن، فدفعت بها الهزائم إلى الإحباط وبالتالي الارتداد إلى الفكر الديني وغيبياته، وانضمت إلى جوقة المنتجين للخرافة والأساطير والترويج لها.
لا يقتصر الانشداد إلى الماضي على الأحزاب والتيارات الإسلامية بل يطال الأحزاب السياسية ذات الاتجاه العلماني أيضا. شهدت المنطقة العربية على امتداد القرن العشرين ولادة أحزاب اتخذت القومية العربية أيديولوجية لها، كما شهدت أيضا قيام أحزاب اعتنقت الماركسية اللينينية هوية فكرية وسياسية. حكمت الأحزاب القومية في أكثر من بلد عربي ووضعت أفكارها على محك الممارسة السياسية. خلال حكمها قدمت برنامجا للنهوض الوطني والقومي وللتنمية الاقتصادية والاجتماعية، وحققت بعض بنوده وفشلت في انجاز الرئيسي منه، وخاضت حروبا مع العدو القومي وخسرت الأرض والشعب. على رغم كل هذه “الانجازات السلبية” لم تقم هذه الأحزاب القومية بمراجعة لهذه التجربة، سواء منها ما كان في الحكم أم خارجه، وهي مراجعة لا بد أن تطال الفكر القومي العربي إياه الذي شكل الخلفية المفهومية لممارستها. لا تزال هذه الأحزاب تمارس فعل اجترار لفكرها السابق، بل تبدو مصرة على التموضع داخله، وكأن تجربة خمسين عاما لم تبدل شيئا من الأحكام والمفاهيم التي قامت عليها.
لا تختلف الأحزاب التي اعتنقت الاشتراكية، سواء أكانت مسماة شيوعية أم لا، عن مثيلتها القومية العربية. اهتزت هذه الأحزاب مع انهيار المعسكر الاشتراكي في تسعينات القرن الماضي، وسعى بعضها إلى مراجعة للتجربة الاشتراكية والإفادة من دروس انهيارها. ليس مبالغة أن معظم الأحزاب الشيوعية في العالم العربي لم يفلح في هذه المراجعة، بل رأى أن ما حصل من انهيار إنما كان نتيجة أخطاء تكتيكية، أو حصيلة مؤامرة امبريالية ضد الاتحاد السوفيتي. سمح هذا التصور لهذه الأحزاب بتكرار المقولة إياها حول صحة النظرية الماركسية بكل الحقائق التي تتضمنها. لم يدر في بال معظمها أن الفشل الذي منيت به التجربة يفترض مراجعة للأسس النظرية التي قامت عليها والتي شكلت قاعدة الممارسة السياسية على امتداد قرن من الزمان.
هكذا، بدلا عن ممارسة النقد من جانب التيارات السياسية التي احتلت المساحة الأوسع من العمل السياسي في العالم العربي على امتداد قرن من الزمان، انكفأت هذه التيارات على ذاتها، وظل خطابها قائما على تمجيد الماضي والأفكار التي انتشرت والقادة الذين حملوها. لكن أقساما من هذه الأحزاب والتيارات، وتحت وطأة الهزائم وفشل التجربة، عمدت إلى تغيير في مواقعها السياسية والفكرية، فاختارت انغماسا في ماض أسوأ بكثير من حاضرها، حيث ولت وجهها إلى الأحزاب الإسلامية دون أي مراجعة أو تفسير سياسي- فكري لهذا الانتقال. تشهد التيارات الأصولية والإسلامية عامة أفواجا غير قليلة من أعضاء سابقين لعبوا أدوارا في أحزابهم القومية أو الاشتراكية، وهو شأن يدل على مدى الانهيار البنيوي للقوى الاجتماعية التي شكلت سابقا منار التغيير الاجتماعي.
تعتبر المناهج التعليمية بصيغتها السائدة في معظم البلدان العربية أرضا خصبة للعودة إلى الماضي وتكريس فكره وممارسته وإسنادها إلى النص الديني والتقليد النافذ على امتداد قرون. لا يزال معظم التعليم يعتمد أساليب التلقين كما ساد في الماضي، والابتعاد عن منطق البحث التي تقول بها المناهج الحديثة. يتخرج من المعاهد والجامعات طلاب حفظوا المواد من دون قدرة على استخدامها، ، فتسبب ذلك بخلق جيل من “أمّيي الجامعات”. لكن الأخطر في هذا المجال أن التعليم الديني يخترق كل مناهج التعليم في العالم العربي، ويستند إلى فتاوى ونصوص قديمة يجري تلقينها للطلبة على أنها تحمل الحقائق والصواب المطلق وبالتالي غير قابلة للنقد. تكمن الخطورة في هذه المناهج كونها تستند إلى المرجعية الدينية التي تعطيها قدسيتها قوة مادية ومعنوية. لا تولي هذه البرامج منتجات الحداثة في الديمقراطية والتقدم وحقوق الإنسان والمواطن أي اهتمام، بمقدار ما تشحن عقول طلابها بالتحريض الطائفي والمذهبي وزرع الكره والحقد في النفوس ورفض الاعتراف بالآخر  وتكريس الانعزال، مما يشكل أرضا خصبة لازدهار التيارات الأصولية وانفلات التطرف والإرهاب.
لا تزال النظرة إلى المرأة والى موقعها في المجتمع أسيرة الماضي ومفاهيمه بامتياز. يحمل التراث العربي والبنى التقليدية نظرة دونية إلى موقع المرأة، ويمارس بحقها تمييزا مجحفا. رغم أن المرأة قد حققت عبر نضالها حقوقا في أكثر من بلد عربي، إلا أن موروثات الماضي لا تزال تقف حائلا دون مساواتها بالرجل. تعاني المرأة من هيمنة ماض مزدوج الاتجاهات، ففي مجتمع عربي يعاني هذا الحجم من الانهيارات البنيوية وسيادة المفاهيم الدينية والتقاليد القديمة ومناهج التعليم التمييزية تجاهها، تواجه المرأة نظرية “قوامة الرجل” عليها، وهو مفهوم يضرب كثيرا من حقوقها، ويكرس للرجل السلطة في إخضاعها وحرمانها من كثير من الحقوق خصوصا في الحكم والإرث والحق في اختيار الزوج أو الطلاق. تتسبب هذه الأعراف والتقاليد في تهميش دورها وتضعها في مرتبة اجتماعية دونية قياسا بموقع الرجل.
يزداد وضع المرأة صعوبة في هذه المرحلة من تطور المجتمعات العربية مع صعود الأصوليات والتيارات الإسلامية التي تضع في أولوية برامجها إخضاع المرأة والعودة بها إلى قرون سابقة والاستيلاء على الحقوق التي استطاعت انتزاعها، عبر إعادتها إلى المنزل والحجر عليها وصولا إلى تصنيفها في خانة الشر المطلق والمسؤولة عن فساد المجتمع. إن نظرة إلى الفتاوى والبرامج التي تبثها القنوات الدينية تظهر مدى الانشداد إلى الماضي الذي كان مفروضا على المرأة، والتي “أفسدها” هذا التقدم الحضاري ودخولها ميدان العمل وسعيها لأيّ ممارسة لدورها الاجتماعي. لا ينقص الأفكار التي تبثها الأصوليات في شأن المرأة إلا الدعوة إلى “وأدها” مجددا على غرار ما كان سائدا في الجاهلية. تقدم النصوص الدينية مادة “فكرية” يستند إليها أصحاب الفتاوى والمعممون في خطاباتهم الداعية إلى إبقاء المرأة أسيرة الماضي بكل معنى الكلمة.
في بعض أسباب هذه الإقامة في الماضي
إن ما جرى الإشارة إليه من نماذج لعيش العرب في الماضي لا يشكل سوى عينات من واقع اشمل بكثير يكاد لا يوفر جانبا من الحياة بكل مفاصلها. وعند قراءة الأسباب الكامنة وراء هذه الإقامة، تتسع كثيرا وتخترق أيضا كل جانب من جوانب الحياة العربية. يبدو العجز عن تجاوز الماضي والقطيعة مع موروثاته واحدا من الأسباب التي تمنع العرب من دق أبواب الحداثة واستيعاب الماضي بكل مضامينه الايجابية وتوظيفه في خدمة تقدمهم. كانت حال أوروبا في القرون الوسطى مشابهة لما تعيشه حاليا المجتمعات العربية، فشكل الإصلاح الديني واعتماد العقل مقياسا في النظر إلى الأمور جميعا مدخلا أساسيا لخروج أوروبا من تخلفها. يحتاج العرب إلى هذا الإصلاح الديني والى اعتماد العقلانية لمجابهة واقع تتسلط عليه الخرافات والأساطير والغيبيات. بديلا عن ذلك، ينغمس العرب في سجال حول تخلفهم وإقامتهم خارج الزمن بتحميل المسؤولية إلى الغرب الذي يعمل ليل نهار لمنع تقدمهم عبر نهب ثرواتهم وإلحاقهم بسياساته القائمة على نشر الفساد والماديات في ربوعهم. شكلت نظرية المؤامرة قديما وحديثا مشجبا علق العرب عليه عوامل تخلفهم، وعينوا الغرب عدوا دائما لهم ورفضوا الإفادة من علومه وتقدمه تحت حجة الحفاظ على الهوية والقيم العربية. يفضح هذا اللجوء إلى التفسير المؤامراتي عجزا بنيويا لدى العرب يمنعهم من ممارسة قراءة موضوعية لماضيهم ويكبلهم حاضرا.
لم يتمكن المشروع النهضوي الذي قام أواخر القرن التاسع عشر والربع الأول من القرن العشرين من كسر الحلقة المهيمنة والموروثة من مراحل تاريخية سابقة. رغم أن رواد النهضة سعوا إلى الإفادة مما حققه الغرب من تقدم وعلى رأسها مسألة الإصلاح الديني وقراءة النص بما يتجاوز التحجر المفروض عليه، إلا أن النتائج ظلت محدودة بسبب عدم توفر الظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية اللازمة لاحتضان الأفكار الجديدة على غرار ما توفر لرواد النهضة الأوروبية. هكذا عاد منطق الانغلاق على النص لصالح الفقه التقليدي والمذاهب المكرسة في وصفها قدمت كل الحقائق وبالتالي لا داعي لأي جديد. تبع هذا الانغلاق حملة سياسية ومادية لم توفر بعض الرواد من أمثال الأفغاني ومحمد عبده من الاتهامات بالهرطقة والانحراف عن النص القويم، ووصلت ذروتها إلى الشيخ علي عبد الرازق وطه حسين وغيرهم من رواد العقلانية. وهي سياسة هجومية تستمر بها التيارات الدينية والأصولية راهنا في محاربة الاجتهاد بالنص، والتصدي للتيارات العقلانية الداعية إلى منع استخدام الدين في السياسة وصراعات القوى .
يلعب الاستبداد دورا مركزيا في إدامة التخلف والانشداد إلى الماضي. عاش العالم العربي منذ أكثر من ألف عام تحت وطأة استبداد متعدد الوجوه كان أفدحه الاستبداد العثماني على امتداد عدة قرون. تكرس هذا الاستبداد على يد الاستعمار الغربي في النصف الأول من القرن العشرين، وعرف تجلياته الحديثة على يد أنظمة الاستقلال. اتسمت مظاهر الاستبداد جميعها بإلغاء الحريات وقمع الرأي ومنع قيام معارضة سياسية، ترافق ذلك مع الحجر على أفكار التقدم. استعانت أنظمة الاستبداد على مدار التاريخ العربي القديم منه والحديث بالمؤسسة الدينية ووظفتها في خدمة تبرير قراراتها وإسباغ المشروعية الدينية والسياسية على أنظمتها. كما استعانت هذه المؤسسة بالسلطة السياسية لإبقاء هيمنتها على العقول ومنع ثقافة العقلانية من اختراق المجتمع، وهو شأن كفيل باستمرارية ثقافة الماضي وتسييدها على المجتمع.
أدت الهزائم التي مني بها مشروع التحديث العربي عسكريا وسياسيا واقتصاديا إلى ولادة إحباط ويأس في أوساط واسعة من الشعوب العربية. في كل مكان تولّد الهزائم انعطافا نحو الصوفية وغلبة الغيبيات والرجوع إلى الماضي وإضفاء الأسطرة عليه لما مثله من مجد وعزة وكرامة. شهدت المجتمعات العربية بعد كل هزيمة نوعا من الثقافة القائمة على استحضار العجائب والمعجزات وعودة الأنبياء والقديسين التي ستعمل على هزيمة العدو. بديلا عن النقد الذاتي وقراءة أسباب الهزائم التي ألحقت بالعرب، يجري الهروب إلى عالم الغيبيات والخرافات ونشرها بما يمنع الشعوب العربية من محاسبة السلطة القائمة عما أصاب المجتمع من جراء سياستها. تشجع الأنظمة السياسية القائمة هذه العودة إلى الماضي وثقافته بما تقدمه من تفسير غيبي لهزائمها وتمنع السؤال عن سياساتها. لم يمكن للهزائم أن تولد توجها نهضويا جديدا لان قوى هكذا مشروع قد ضمرت وأبيدت أقسام واسعة منها تحت وطأة سياسة القهر السلطوي، مضافا إليه عجز هذه القوى عن مراجعة برامجها التي أظهرت الوقائع أن الزمن قد تجاوزها وباتت من الماضي ولا تصلح إلا لرفوف المكتبات.
لا يعود غريبا بعد هذا المسار الذي سلكته المجتمعات العربية والنكوص الذي أصابها أن تظهر أكثر الحركات والاتجاهات ارتدادا إلى الماضي، ألا وهي التيارات الأصولية والإسلامية، مقدمة نفسها بفكرها الماضوي وسيلة للخلاص. سيقوم هذا الخلاص بالعودة الكاملة إلى الماضي وإسقاطه على الحاضر. ترافق صعود هذه التيارات مع انهيار لبنى الدولة وانبعاث العصبيات القبلية والعشائرية والطائفية بموروثها وعصبيتها القبلية. يقدم اقتران صعود البنى التقليدية مع صعود الأصولية اليوم صورة لعالم عربي يصعب التفتيش فيه عن مساحات للتنوير ومكان للقوى العقلانية إلا بقدر زهيد. فالتراث الفقهي والديني القديم –  المتجدد يلقي بكل أثقاله على العقول رافعا سيف النصوص الصالحة لكل زمان ومكان في وجه أي محاولة للتجديد.
لا يفيد العالم العربي هذا التحنيط المستمر للتاريخ وتحويله مجموعة من الأصنام . يحتاج العرب نقد حاضرهم الذي هو في حقيقته ماضيهم بكل معنى الكلمة، وكسح هذه الموروثات كشرط ضروري للتقدم.  إن تفكيك المفاهيم السائدة والتصورات والعادات المتحجرة والمستمرة من قرون بعيدة والتي ترخي بثقلها على العقول هي أكثر المهمات أهمية ليتمكن العرب من  الانخراط في العصر الحديث. ستظل هذه المهمة مشروطة بولادة القوى الاجتماعية والسياسية والثقافية التي تتنكب عمليا لهذا المشروع النهضوي. في مواجهة كل هذه الظلامية يشهد العالم العربي إرهاصات نهضوية تسير بعسر شديد وتتعرض لمواجهة حادة من قوى التقليد والاستبداد.

موقع الآوان

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى