الحرص على إعلان دمشق
محمد بركة
إذا كان إعلان دمشق نقطة تحوّل نوعي في التاريخ السياسي السوري ، فذلك لأنه أعلن عن استعداد كل القوى السياسية والفكرية والاقتصادية والثقافية والأدبية المنضوية تحت لوائه , للعمل على الانتقال من لغة الضمير المستتر إلى لغة الضمير المتكلم . ومن مجرد حالة النوايا الطيبة نحو الإصلاح والتغيير إلى حالة التصريح الواضح والصريح , بالصوت والصورة والاسم والكنية , عن بداية مسيرة هذا الإصلاح والتغيير
, ومن لغة البيانات الانقلابية لمجموعة سياسية ما على مجموعةٍ سياسية ٍ أخرى (لا علاقة بينهما في عملية الإصلاح والتغيير، وكل واحدة ٍ منها تخوّن الأخرى وتكفرها) إلى لغة الإصلاح والتغيير المدني السلمي الهادئ غير التكفيري وغير ألتخويني . ومن لغة النيابة عن المجتمع والدولة، لغة السلطة المستأثرة بكل مقدرات الوطن والمواطن التي ألغت المجتمع والدولة وحولتهما إلى مشاريع استثمارية خاصة بمراكز القوى السلطوية، إلى لغة المشاركة الوطنية لكل مكونات المجتمع السوري حتى من يقبل بذلك من أهل النظام , ومن لغة الشعارات الكبيرة الخيالية إلى لغة الواقع وحاجاته الموضوعية السياسية والاقتصادية والثقافية، من خلال العمل على امتلاك الوعي المناسب لحاجات الواقع المعاش على طريقة الامتلاك والتجاوز التاريخي وليس التجاوز البهلواني وحرق المراحل , ومن لغة المشروعية الثورية التي استخدمت مناهج غير مطابقة لأهدافها السياسية والاجتماعية واستندت إلى مفاهيم ” الاستبداد الثوري ” الذي أوصتلنا إلى ما نحن عليه من موتٍ سريري على كل المستويات، إلى المشروعية الواقعية التي تضع الاستراتيجيات والأولويات، والتي حددت الأولوية الكبرى كمدخل رئيسي لكل استراتيجيات المستقبل ” أولوية التغيير الوطني الديمقراطي ” على قاعدة الحريات الخاصة والعامة للانتقال من سلطة الاستبداد إلى الدولة الوطنية الديمقراطية لكل مواطنيها وذلك من خلال مسيرة الإصلاح التدريجي التاريخي المستمر كصيرورة تاريخية واقعية لمجتمعنا . تتناول كل مفاصله الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.
وإذا كان إعلان دمشق كذلك، فلأنه يَعتبر نفسه الخطوة الأولى على طريق الألف ميل , ونقطة البداية في هذا الخط الصاعد والطويل , ولأنه يعتقد أن عملية الإصلاح هي في صلب عملية التغيير , وعملية التغيير هي أساس مشروع إعلان دمشق , كما إنه ليس أكثر من إعلان البداية لهذه العملية الإصلاحية التغييرية , وبداية محاولة القطع مع كل أشكال الاستبداد الاجتماعي والسياسي والاقتصادي , لذلك فإن مسألة الخوف الشائعة عند البعض على إعلان دمشق أو على أي إعلان ٍ آخر مواز أو متجاوز له , إذا ما كانت من خلال الخوف على مسيرة الإصلاح والتغيير الوطني الديمقراطي بكليتها . فإنه يكف عن كونه ضمن مفهوم الخوف الإيجابي ” الحرص ” وينتقل بذلك إما إلى مفهوم الخوف الوسواسي من كل شيء وعلى كل شيء , وإما إلى مفهوم الذاتية المفرطة التي تندرج في ـ وتعبّر عن المصالح الفئوية والشخصية التي تقتل عملية التغيير بالمآل الأخير . ومن هنا نقول : إن تجربة إعلان دمشق ومجلسه الوطني وما حصل بعده من اعتقالات، طاولت المفاصل الرئيسة لقيادة الإعلان من الأمانة العامة والرئاسة، كانت تجربة قاسية ومؤلمة كادت أن تؤدي بالإعلان إلى نهايته لولا الرد الموضوعي والهادئ وغير الانفعالي من قبل من تبقى من الأمانة العامة وهيئات الإعلان المؤقتة التي كانت مكلفة تكليفا ً بالمحافظات , فكان الرد بالمأسسة الديمقراطية التي انتهت بعقد مجالس محلية وانتخاب لجان في كل المحافظات . ومتابعة العمل على كل الأصعدة , إن هذا الرد الهادئ والموضوعي هو الذي أعطى الإعلان أهميته السياسية والفكرية, وكان بذلك عاملا ً من عوامل صمود المعتقلين في معتقلاتهم من جهة , وعاملا ً من عوامل مصداقية الإعلان وموضوعيته في الداخل والخارج من جهة ثانية .
لذلك، وبالطريقة نفسها، نستطيع أن نرد على ما حدث بعد الإفراج عن المعتقلين, وعلى الدعاية التي تبثها الأجهزة الأمنية عن ضعف الإعلان وتفككه من جهة , وعن خروج البعض من السجن إلى خارج الإعلان مباشرة ومن غير رجعة من جهة ثانية , وانقلاب البعض الآخر على الإعلان من جهة ثالثة , فنقول : إن كل ذلك ممكن وطبيعي أن يحصل في تجربة إعلان دمشق وفي بلد ٍ كسورية ومجتمع ٍ كالمجتمع السوري، وذلك نتيجة مجموعة عوامل منها موضوعية ومنها ذاتية .
الموضوعية فتقع تحت مجموعة تأثيرات خارجية دولية وإقليمية واسعة النطاق، تتداخل وتنجدل مع التأثيرات الداخلية التي يتمترس عندها النظام الأمني وكل المستفيدين من حالة الطوارئ والأحكام العرفية وما تفرخ من فساد وإفساد تحت شعار الهجمة الإمبريالية والمؤامرات الخارجية وقومية المعركة !! , فأمر طبيعي أن يدافع هؤلاء المتنفذين في هذه الأنظمة والمستفيدين منها عن مصالحهم الخاصة التي لا علاقة لها البتة بمصالح الوطن والمواطن , وذلك أصبح معروفا ً لدى القاصي والداني .
أما الذاتية, فهي تندرج تحت مجموعة مؤثرات فردية واجتماعية يسيطر عليها العمل السياسي التقليدي عند معظم الأفراد، نتيجة عدم تمكنهم من تجاوز مدارسهم السياسية التقليدية من جهة , ونتيجة التخلف الاجتماعي بكل إسقاطاته التاريخية في محاولاته المعاصرة والحديثة من جهة ثانية , وكان ذلك بسب غياب الحريات العامة والخاصة الذي أدى إلى غياب الحياة الديمقراطية ليس في المجتمع فحسب بل حتى في أحسن تلك المدارس السياسية .
والرد الطبيعي والنوعي الذي يتلاءم مع مسيرة لإعلان التوعية , أن لا تعفينا كل هذه الأسباب والنتائج من متابعة المسيرة الإصلاحية التغييرية , من خلال المراجعة النقدية للتجربة، وأن لا نقف عند الوثيقة الأولى أو الثانية والثالثة , بل علينا أن نبتكر مالا نهاية له من الوثائق المتجددة والمتقدمة عن سابقاتها، والتي لا تقبل أن تكون اقل من : العلنية والشفافية والثقة بالنفس وبالناس وبالحاضر والمستقبل , من خلال المزيد من الحوار والمزيد من الديمقراطية والمزيد من احترام الناس داخل الإعلان وخارجه واحترام رأيهم ورغباتهم , حتى من يريد أن يترجّل فذلك حقه الطبيعي . ولا يجوز لأحد الوقوف في وجه هذه الرغبة , وحتى يكون الإعلان منسجما ً مع انطلاقته النوعية , عليه أن لا يقسر أحدا ً على العمل داخله أو خارجه وأن يتعامل مع الجميع على قاعدة له ما لي وعليه ما علي , وليس لأحد الحق في هذا الوطن أكثر من الآخر , فقط ” على قدر أهل العزم تأتي العزائم ” , وذلك يخضع لدرجة الوعي الوطني الديمقراطي الذي نمتلك .
وانطلاقا ً من هذه العلنية والشفافية والثقة بالحوار واحترام الآراء والرغبات، علينا أن نقر ونعترف أننا لا زلنا في هذا المخاض باذلين ما بوسعنا من العمل المدني السلمي والمتدرج , والمفتوح على كل الاتجاهات الوطنية والديمقراطية , وإننا لا نزال مشروع مواطنين أحرارا لوطن حر . وإن هذا الأمر الواقع لا يستدعي الخوف الذي يتعدى الحرص إلى درجة عدم الثقة بالإعلان وإمكانيته. فهذا الخوف غير مبرر وغير مقنع لأنه يؤدي إلى درجة الوهن والضعف القاتل . والطبيعي أن يكون عندنا الخوف الناتج عن المزيد من الإحساس بالمسؤولية , فإنه الحرص الذي ننشد، والذي يقوم على إعادة النظر في التجربة برمتها، وتثمين ما هو إيجابي ونقد ما هو سلبي، والبحث عن طرق جديدة في التعامل السياسي، والانتقال من التقية السياسية إلى الغائية السياسية التي تحقق القبول والانتشار عند الجميع، والتي تتجاوز كل التابوات التي فرضها المجتمع الأخلاقي، والتي تضع قيودا ً على الفكر والسلوك والحريات الشخصية وتمنع انطلاقة الفكر المبدع الخلاق , ولعلنا نعترف أنه من الصعوبة أن يتحدد مسار واحد تسير عليه كل أفراد وهيئات الإعلان دون اختلاف ودون تغاير , والطبيعي أن تكون لدينا مجموعة مسارات تجاه التغيير الوطني الديمقراطي . وتلك إحدى ميزات التمرد الخلاق على الرتابة الساكنة المملة وبالتالي المميتة التي لا تفكر إلا باتجاه واحد , ولا ترى إلا لونا ً واحدا ً فقط . إن هذا التمرد الخلاق علينا أن نسعى لأن يكون منهجا ً رئيسا ً للمعارضة الوطنية الديمقراطية على أرض الواقع في إطار المراجعة الدائمة لكل الأفكار والخطوات ونقدها نقدا ً موضوعيا ً يجدد الثقة بالحاضر والمستقبل ,هذا التمرد الخلاق هو الذي يحقق التعدد والاختلاف وبالتالي الوحدة التي تحتمل التعدد والاختلاف وتتجدد بهما .
أما مسألة الحوار مع النظام , فكلنا يعرف أن هذا النظام لا يأبه لأحد ولا يحسب حساب أحد في هذا الوطن إلا لمصالحه الشخصية , لا يحترم الشخصيات التاريخية الوطنية، ولا يحترم تاريخها الوطني وتضحياتها من أجل المصالحة الوطنية في سبيل كرامة الوطن والمواطن , وإنه لا يعترف بشيء اسمه خلاف أو اختلاف أو معارضة وطنية ديمقراطية لها الحق أن تكون حرة برأيها ومواقفها تحت سقف الدستور , وقد صرح مرارا ً وتكرارا ً برفض أي علاقة ندية أو حوارية أو مصالحة وطنية , لذلك إن عدم القناعة بالحوار مع النظام ليست من خلال رفض الحوار أو عدم الثقة بفكرة الحوار , فالحوار هو الأساس لحل كل مشاكل العالم فكيف به أن لا يحل مشاكلنا الوطنية ؟ لكن علمتنا التجربة مع هذا النظام أنه لا يؤمن بالحوار , فكيف نطلب الحوار معه وهو لا يخشى شيء أكثر مما يخشى الحوار؟ , لذلك هو لا يطلب الحوار مع أحد بل يرفضه رفضا ً قاطعا ً , ويصر أن ليس لديه خلاف مع أحد , وأن ليس عندنا انتهاكات بحق الحريات العامة والخاصة ويصر على عدم وجود معتقلي رأي في سوريا بل أفراد خالفوا القانون ( قانون الطوارئ ) ونالوا جزاءهم , ولا يزال يصر أكثر على استعداده لاتهام كل من يحاول رفع صوته من أجل تقدم هذا الوطن , فإذا لم نتعلم من دروس الماضي لأننا طيبو القلب فتلك مصيبة، أما إذا لم نتعلم لأننا أغبياء في السياسة فالمصيبة أكبر .
وإذا كان إعلان دمشق كما جاء في وثيقته الأولى والثانية والأخيرة لا يختصر المعارضة في سوريا , بل هو جزء مهم من هذه المعارضة الوطنية الديمقراطية . فحتى يستحق اسمها عليه وعليها أن لا يأبها لتهديدات النظام وممانعته من جهة , وأن يؤكدا للجميع أن إسقاط النظام وتغييره ليس هدفا ً , ولكن المطلوب تغيير ما بأنفسنا وفي عقولنا جميعا ً معارضة وموالاة من جهة ثانية , وأن نترك اسطوانة توصيف النظام واستبداده جانبا ً لأنها أشبعت توصيفا ً ونقدا ً ومعارضة ً من جهة ثالثة , ولم يعد هناك من حاجة للتدليل على بشاعة الاستبداد الذي يتحكم في ماضي وحاضر ومستقبل البلاد والعباد , فقد أصبحت هذه الاسطوانة مفهومة وواضحة بل ومملة عند الأكثرية من أفراد المجتمع .
المطلوب اليوم أن نثق بأنفسنا وبمستقبلنا على مسار الإصلاح والتغيير الوطني الديمقراطي , وأن يتحول جل اهتمامنا في العمل المباشر للإسهام مع كل مكونات المجتمع في البحث عن الحلول العملية للمشكلات التي يعاني منها مجتمعنا السوري بكل قطاعاته وشرائحه الواسعة , من البطالة والسكن والتعليم والصحة إلى حقوق الإنسان والمجتمع المدني ومشكلة الأقليات وكل ما يتعلق بحقوق الفرد وواجباته السياسية والفكرية والأدبية والاجتماعية والاقتصادية , وذلك يقتضي وجود ورشات عمل فكرية تعتمد التخصص والخبرة من خلال دراسات فكرية عصرية وعملية تتعامل مع الواقع ومشكلاته وممكناته من أجل مستقبل أفضل، سيكون أكثر أمانا ً وسلاما ً للجميع وأكثر مصداقية وقبولا ً عند الجميع, وأخيرا ً أن ننتقل من نقد السلطة فقط إلى نقد السلطة والمجتمع، وإصلاح ما يمكن إصلاحه على طريق التغيير الوطني الديمقراطي .
*السويداء 8/10/2010