المقاومة بالحيلة
منى فياض
ما نسمعه من تصريحات وخطب وأحاديث تحمل التهديد والوعيد والتحذير من الفتنة، يجعل الكثير من اللبنانيين يفكرون جدياً في الهجرة. وعندما لا نُهدَّد مباشرة من بعض مسؤولينا، نكتفي بسماع التحذيرات من العنف؛ بعض من يقوم بذلك هو الطرف المالك أدوات العنف، ما يجعل التهديد باستخدامه أكثر من مجرد تحذير بريء من عنف آتٍ كعاصفة إلهية من السماء. بل يصبح استخدام مثل هذا التحذير نوعاً من التورية لكي لا يفصح أكثر.
في الأسبوع الماضي عُرضت حلقة في برنامج “كلام الناس” – لم أشاهدها للأسف- أثارت عاصفة من الردود وعُلّقت عليها مشكلاتنا وجُعلت سبباً للفتنة. كأننا كنا قبل الحلقة بألف خير، وفجأة جاءت هي لتزعزع الاستقرار المستتب! اللافت أن الحلقة أثارت رداً من “حزب الله” فنعتها بأنها “إثارة بشعة للأحقاد”. لماذا يا ترى؟ هل يعتقد المسؤولون الإعلاميون في الحزب أن خطابهم التهديدي ينزل برداً وسلاماً على قلوب المواطنين؟ هل الأصوات العدائية تجاه رئيس الحكومة من الجماهير التي احتشدت لتحية رئيس دولة، أقلّ ما يقال إنها “أخرى”، أثناء خطابيه الشعبويين، مما يساعد في وأد الفتنة؟ أم أن مثل تلك البرامج التلفزيزنية يكسر إحدى وظائف الخطاب الرسمي العلني الذي يريد إعطاء الانطباع بانتفاء وجود مشكلة عند الجماهير، وأنها فقط عند مثقفين يبالغون في نقل الواقع المشحون الى الناس ويعبّرون عن أوهامهم؟
يساعدنا كتاب “المقاومة بالحيلة” لجيمس سكوت في فهم أكبر للواقع الذي نعيشه، وفي تفسير العنف الذي يهددنا، وبعض السلوكيات التي قد نحتار في تفسيرها. في عمله لفهم العلاقات الطبقية في المالايو، يلفت الى ان الفقراء يقولون شيئا اذا كانوا في حضرة الاغنياء، لكنهم يقولون شيئا آخر اذا كانوا بين الفقراء. استنتج بعدما راقب نفسه، ان الشخص يزن كلامه امام من له عليه سلطة، لكنه يفضي بما تمّ كبته هناك الى شخص آخر موثوق به لأن الكلام المكبوت يتسبب بالضغط. من هنا المقولة الشائعة: الضغط يولّد الانفجار. لكن القبض على السلطة يمكّن المرء القابض من عدم ممارسة رقابة على الذات والتفلت من الضوابط. من هنا ما نسمعه من تهديدات وخطب نارية. بينما من الواضح ان الطاعة تتطلب، تعريفاً، انتباها الى كل ما يصدر عن الشخص واستجابة لمزاج القابض على السلطة ولمتطلباته. ربما كان البرنامج مزعجاً لأنه قام بدور المرآة العاكسة للواقع. مثلما فعلت جريمة كترمايا من قبل. لكن ما بين هذين الطرفين – الضغط والانفجار – هناك أنواع من المقاومة بالحيلة او التورية او غيرهما.
تجدر الإشارة إلى أننا في كل مرة نقع على تورية، يكون الموضوع في منتهى الحساسية. فرض القناع على حقائق السيطرة القبيحة، يعطيها صفة مقبولة. لكن وجود التوريات يدل على ممارسة الاكراه. في السياسة هناك الكثير من التوريات:
تُستخدم كلمة “التهدئة” للتعبير عن فرض هدنة مجحفة في حق طرف. كما أن فرض “حكومة توافقية” كان للتعبير عن مشاركة الخاسر في الانتخابات النيابية للرابح فيها، بالحكم. ويُستخدم تعبير “عفا الله عما مضى” في كل مرة يراد عدم مواجهة المشكلات والاعتذار عن الأخطاء المشتركة. مثلما تطلق الأنظمة الشمولية اسم “معسكرات إعادة التاهيل” للتعبير عن أمكنة سجن المعارضين السياسيين في ظروف غير إنسانية.
في علاقات القوة وعندما تخضع المجموعات او الشعوب او الطبقات للاستغلال واساءة المعاملة، كما في الرق والنظام الطبقي والاستعمار والعرقية وغيرها، تتولد ممارسات تعبّر عن معارضة الاستخدام غير العادل للقوة، وتتخذ شكل الشائعات والقيل والقال والفضائح والحكايات الشعبية والنكات والاغاني والحركات والكلمات المضمرة والأقوال المأثورة والطقوس والمسرح، على أيدي من لا يملكون السلطة. كما يمكن ان تتخذ اشكال الاعتراض، انتهاك المحرمات والاختلاس والنفاق والهروب. واقعنا يمتلئ بأمثلة قريبة، آخرها النكت التي تم تداولها أثناء الزيارة الشهيرة. تعبّر هذه الأشكال عن السياسة التحتية لمن لا سلطة لهم، وتشكل جزءا من الثقافة الشعبية للجماعة الخاضعة. فبعد القراءة الأولى البريئة، نجدها عند القراءة الثانية تمجد التحايل وروح الثأر وتنصر الضعيف على القوي.
ينقل سكوت عن جورج إليوت: “وما الكراهية الأشد صلابة سوى تلك التي تجد جذورها في الخوف، والتي تتكثف عبر الصمت، وتحول شعور العنف نوعاً من شعور الغربة بالانتقام، وإلغاء متخيلاً للشيء المكروه، شيئاً يشبه طقوس الثأر الخفية التي تؤجج غضب الانسان المضطهد”. وهذا ما يفسر انتفاضة 2005.
إن تعبير “قول الحقيقة أمام السلطان”، لا يزال حتى يومنا هذا يعدّ طوباويا. من المؤكد ان التمويه الذي يبديه الضعيف في حضرة القوي لا يزال واسع الانتشار ويظهر في كل المواقف التي تتضمن ممارسة لنوع من السلطة. كلما كان القوي اكثر خطراً، كان القناع المستعمل تجاهه أشدّ سماكة. الخاضع يقوم بالحركات التي يعرف انها متوقعة منه، بحيث يبدو كأنه شريك وراغب في الخضوع. وقد يكون هذا الخاضع – في الوضع اللبناني – ينتمي الى الجهة أو الفئة التي يعتقد أنها محسوبة تماماً على ممارس الهيمنة بالذات. فهناك أنواع من الأقنعة ودرجات من الخضوع.
ينقل لنا سكوت مثلاً عن المقاومة بالحيلة، على لسان الخادمة السوداء اثناء الحرب الاهلية في الجنوب الاميركي، التي تقول لمن تثق بها عندما يدير سيدها ظهره بعد أن يشبع ابنتها ضرباً: “سيأتي يوم، سيأتي يوم، انني أسمع ضجيج العربات! وأرى بريق البنادق! سوف يأتي يوم يسيل فيه دم البيض على الارض”. وقد يبرز هذا الخطاب المستتر الى العلن في حال التحدي العلني وتكون احدى اللحظات الأكثر خطورة في مجال علاقات القوة.
تكتب إليوت عما ورد في “الأوديسة”:
– بولينيس: إن ما هو أسوأ من المنفى، الاّ يتمكن المرء من الافصاح عما في باله.
– جوكاستا: لكن تلكم هي العبودية!! ¶
النهار