فى طبائع الاستبداد
أسامة الغزالى حرب
من أكثر الموضوعات إثارة فى أدبيات الفكر السياسى، وأيضا فى الكثير من الأعمال الأدبية الكبرى فى العالم، موضوع أثر الاستبداد فى الأخلاق، أو – بتعبير أكثر تفصيلا – أثر ممارسات النظم اللاديمقراطية (سواء سميناها نظماً مستبدة، أو سلطوية، أو شمولية… إلخ) على قيم وسلوكيات البشر الخاضعين لتلك النظم.
وربما يمكن الإشارة هنا إلى أعمال فكرية متباينة بشدة ولكن يجمع بينها أنها حاولت رفض ذلك التأثير، كل من زاويتها الخاصة، وأقصد على وجه الخصوص كتاب عبدالرحمن الكواكبى الشهير والرائع «طبائع الاستبداد، ومصارع الاستعباد» الذى ظهر أول مرة عام ١٩٠١، ورواية الأديب الإنجليزى الشهير جورج أورويل «مزرعة الحيوانات» الذى ظهر عام ١٩٤٨، وأخيرا أعمال نجيب محفوظ، خاصة «القاهرة الجديدة» و«بداية ونهاية»… إلخ.
إن ما يجمع بين تلك الأعمال المتباينة – وغيرها كثير بالطبع – أنها ليس فقط تلقى الضوء على التأثيرات السلبية للحكم اللاديمقراطى المستبد على مفاهيم وسلوكيات الأفراد العاديين واتجاههم للعزلة أو اللامبالاة، وتجنب الصدام مع السلطة والابتعاد عنها بل وتجاهلها! ولكنها أيضا تلقى الضوء الكاشف على عناصر «النخبة» التى تقدم نماذج للنفاق والمداهنة والانتهازية، وهى كلها ظواهر تلتصق بشدة بالنظم المستبدة اللاديمقراطية أو الديكتاتورية بصورها المتعددة الشمولية أو السلطوية… إلخ، وهو ما أسعى لإلقاء الضوء عليه فى ذلك المقال.
الكواكبى العظيم يقول بالنص – فى تحليله لتأثير الاستبداد على الأخلاق، وكيف أنه يؤدى إلى قلب الحقائق فى الأذهان-: «إن الناس وضعوا الحكومات لخدمتهم.. والاستبداد قلب الموضوع فجعل الرعية خادمة للرعاة، فقبلوا وقنعوا.. وقبل الناس من الاستبداد ما ساقهم إليه من اعتقاد أن طالب الحق فاجر، وتارك الحق مطيع، والمشتكى المتظلم مفسد، والنبيه المدقق ملحد، والخامل المسكين صالح أمين.. واتبع الناس الاستبداد فى تسمية النصح فضولاً، والغيرة عداوة، والشهامة عتوا، والحمية حماقة، والرحمة مرضا، والنفاق سياسة، والتحايل كياسة، والدناءة لطفاً، والنذالة دماثة».
غير أن ما يلفت نظرنا هنا – فى حديث الكواكبى – هو تفرقته بين ما يسميه «المجد» و«التمجد». فالمجد عنده هو كلمة واسعة تتسع لكل القيم والأخلاقيات وأنماط السلوك الراقية اجتماعيا وثقافيا ودينيا، والمثقف المجيد هو ذلك الإنسان الذى يحترم ذاته، ويحترم مواطنيه، وتكون لديه من الشجاعة ما يمكنه من أن يعبر بصدق عن آمالهم وآلامهم، وأن ينتقد بشجاعة بلا خوف ممارسات الحكام المستبدين وفسادهم. أما ما يسميه الكواكبى «المتمجد» أى مدعى المجد، فهو ذلك البوق الأيديولوجى عن المستبد، الذى يزيف الحقائق والوقائع، ويقلب الأمور رأسا على عقب لأنه يخفى أهداف المستبد الذاتية الضيقة، ويحولها إلى أهداف باسم الأمة.. (انظر دراسة د. أحمد البرقاوى فى كتاب: الإصلاح الدينى ومصائره فى المجتمعات العربية).
إن المتمجد لدى الكواكبى هو ذلك المثقف الذى لا يكف عن الهتاف – سواء كان شيخا أم أفنديا أم تقنيا – للمستبد فيتحول هو بالتدريج إلى مستبد صغير، فيتوالد الاستبداد ويعيد إنتاج نفسه بأشكال جديدة.
والمتمجد – فى نظر الكواكبى – مسؤول عن فساد العقل لأنه يحوله عن وظيفته النقدية إلى مجرد تبرير للوضع الراهن وتبرير لقبحه! ورحم الله د. نصر حامد أبوزيد فى حديثه – تعليقا على أفكار الكواكبى: «المشكلة فى الاستبداد، وقرينه الفساد، أنه يجد من يروج له من بين ضحاياه أولئك الذين فسد عقلهم وفسد دينهم، واستبدلوا بالمجد التمجد. لا بديل إلا فتح الأبواب والنوافذ ليخترق الهواء النقى بؤر الفساد ويتحلل الاستبداد. هذا هو واجب المثقفين الذين كفوا عن الهتاف».
فإذا انتقلنا نقلة كبيرة إلى عمل فكرى آخر مهم ظهر فى ظروف سياسية مختلفة كثيرا، وهو رواية «مزرعة الحيوان» للأديب الإنجليزى الشهير جورج أورويل، التى نشرها بعد بحث الكواكبى بـ ٤٥ عاما، فإننا نجد معالجة لنفس الظاهرة – ظاهرة المنافقين والمتسلقين من خدم السلطة – ليس مثل النقد الضمنى من الكواكبى للممارسات الديكتاتورية للسلطان العثمانى فى بداية القرن العشرين، ولكنه موجه مباشرة للمناخ السياسى الفاسد الذى عشش فى ظل الديكتاتورية الشيوعية التى تجلت بأوضح صورها فى ظل حكم استالين فى أربعينيات القرن الماضى. والرواية بشكل عام لا تعرض فقط فساد الثورات على أيدى قادتها، وإنما أيضا كيف يدمر الانحراف واللامبالاة وقصر النظر أى أمل فى إقامة مجتمع فاضل متوازن.
فى «مزرعة الحيوان» نجد أكثر من شخصية ذات مغزى! ففى حين نجد الخنزير «نابليون» الشخصية الرئيسية فى الرواية، والتى بنيت على مشابه مثيرة مع شخصية ستالين، نجد بجانبه الخنزير «سكويلر» الذى يعمل وزيرا لدعايته – مستوحى من شخصية مولوتوف ومحرر صحيفة البرفدا! إنه يطوع اللغة والأفكار والمفاهيم لتأصيل وتعظيم كل أفعال نابليون، وهو يمثل الغطاء الإعلامى الذى استخدمه ستالين لتبرير أفعاله! وحرص أورويل على بيان الكيفية التى يطوع بها ذلك النوع من «المثقفين» السياسيين اللغة لملاءمة أغراضهم، فـ«سكويلر» يعقب ويقعر المجادلات ويربك المتحاورين ويدعى أن الخنازير فى حاجة إلى الرفاهية التى ينالونها قسرا دون غيرهم ليعملوا لصالح الجميع! وهو لا يكف عن استخدام الإحصائيات والأرقام ليقنع الحيوانات بأن نوعية حياتهم تتحسن باطراد! وهنا أيضا شخصية مينيامس «الخنزير الشاعر الذى يكتب النشيد الوطنى الثانى ثم الثالث لمزرعة الحيوان»، وأيضا هناك «بنيامين» الحمار العجوز الحكيم، ويمثل بشكل تهكمى نوعية المثقفين الذين لديهم من «الحكمة»! ما يساعدهم على البقاء، فلا يتخذون أى موقف، إيثارا للسلامة وتجنبا للمشاكل! وأخيرا هنا القطة التى تمثل المنافقين الذين يتظاهرون بالولاء لفكر القائد لمجرد تحقيق أغراض ذاتية ومنافع شخصية.
فإذا ما قفزنا قفزة كبرى ثالثة إلى أعمال أديب مصر العظيم نجيب محفوظ وجدنا أكثر من تجسيد عبقرى لشخصية الانتهازى المنافق ربما كان أشهرها «محجوب عبدالدايم» فى «القاهرة الجديدة». فهو وغد يعلم أنه وغد، ويفخر أنه وغد، وصنع من سفالته فلسفة كاملة! بشعاره الدائم فى الحياة (طظ) لكل ما يقف فى طريقه أو يحول بينه وبين تحقيق أهدافه، أى اللذة والقوة من أقصر طريق، إلى حائل من أى قيم أو فضائل أو دين! ولقد استمات للثبات على فلسفته كما يفعل أصحاب الرسالات السامية! وعندما كان ثمن وظيفته أن يتزوج عشيقة البك الكبير الذى أتاح له تلك الوظيفة، لم يتردد أن يتغاضى عن علاقة البك بزوجته!
غير أنه إذا كانت شخصية المنافق الانتهازى كما جسدها الكواكبى فى نموذج الإنسان «المتمجد» فى «طبائع الاستبداد»، وكما رسم بعض نماذجها جورج أورويل فى «مزرعة الحيوان» ارتبطت بشكل صريح بالمناخ السياسى الاستبدادى، فإن شخصية محجوب عبدالدايم لدى نجيب محفوظ وُجدت فى مناخ افتقد إلى الديمقراطية الاجتماعية أو العدالة الاجتماعية التى جعلت شخصا ريفيا مثقفا يتخلى عن كرامته مقابل مجرد الحصول على وظيفة! ولكنها بالتأكيد ترمز بشكل عام الى طراز معين من المثقفين «أو المتعلمين» الذين هم على استعداد للتخلى عن كثير من القيم والمبادئ والشعارات!! فى مناخ لاديمقراطى، استبدادى، باعتبار أن ذلك التخلى هو الثمن اللازم دفعه سواء للحصول على المنصب أو المغنم أو لاستمراره!
والواقع أنه قدر لى شخصيا من خلال تجربتى الخاصة جدا أن أصادف نوعيات تلك الشخصيات التى أفرزها – ولايزال- مناخ الاستبداد اللاديمقراطى أو قل أيضا المناخ البوليسى – الأمنى- الخانق الذى يسود الأجواء العامة فى مصر. ففى وقت من الأوقات قبل عام ٢٠٠٥ كنت موجودا فى المجلس الأعلى للسياسات بالحزب الوطنى لمدة ثلاث سنوات فقط! غير بعيد عن قيادته وعن نخبة الحكم بشكل عام، ثم حدث عام ٢٠٠٥ أن ابتعدت عن هذا كله، بمحض إرادتى من مجلس السياسات من الحزب الوطنى، اعتراضا أو احتجاجا على «التعديلات» المشينة التى جرى تمريرها على المادة ٧٦ الشهيرة فى الدستور المصرى.
إن هذا الانتقال من موقع قريب من السلطة، إلى موقع آخر ضمن المعارضة، صاحبه مشهد شديد الإثارة، وعميق الدلالة حول نوعيات معينة من الشخصيات ونماذج من السلوكيات التى كان يمكن أن تلهب خيالات وإبداعات الكتاب العباقرة من نوعية الكواكبى، وأورويل، ومحفوظ! وتلهمهم نماذج أكثر غرابة وإثارة مما تناولوه وأبدعوه ولا عجب، فالمناخ السياسى – الأمنى- فى مصر، الذى طال كثيرا، أفرخ ولايزال يفرخ العديد من تلك الشخصيات والنماذج الجديرة بالبحث والتأمل والرثاء معا. وتلك قصص أخرى كثيرة!
المصري اليوم