بين الإسلام او الظلم: الشارع الفرنسي يختار ‘عدوه’؟
مطاع صفدي
لا شك أن الغرب قد انتهى إلى تعيين عدوه الإستراتيجي للمرحلة الآنية والمستمرة إلى مستقبل مجهول، هذا العدو ليس القوة الاقتصادية الهائلة الصاعدة من أعماق الشرق، بل هو أخطر منها بكثير في الاعتبارات الفلسفية الغربية، هي انبعاث الحضارة العربية الإسلامية مجددًا. وهو التهديد المُوغل إلى أقدم عصور التاريخ، وكانت بدايته منذ سقوط روما الإمبراطورية، وقيام دولة الكنيسة الشرقية في القسطنطينية. فالشرق الأدنى بالنسبة للغرب، هو التوأم المضاد الذي يتوجس منه اللاوعي الغربي، بكلّ ما يحتويه أو يصدّره من الأديان، من المسيحية نفسها والفتوحات، والثورات والحضارات المزدهرة والآفلة.
يتخذ الإسلام اليوم صورة المهاجر الجنوبي المنتشر في شوارع العواصم الأوروبية المزدهرة، كأنه الإستثناء المرفوض في اللوحة الجميلة المتجانسة.لا تريد العين في هذه البلاد أن تألف الوجوه الملونة، ولا الهيئات البشرية التي تحملها.
هناك رفض غريزي ضد المختلف، يعاني منه الوجدانُ الغربي تناقض ثقافته (المتنورة) مع وقائع الحياة اليومية. فأية دعوات تستثمر هذا الرفض العفوي، يمكنها بسهولة أن تحوّله إلى رفض نمطي مؤدلج، ومن ثم مسيَّس وتعبوي.
وهكذا وتحت وطأة المخاوف المتزايدة لدى أصحاب النظام العام، المحاصرين في طبقاته العُليا، من تململ مجتمعاتهم تحت وطأة العسر الاقتصادي الذي عليهم وحدهم أن يدفعوا أثمانه الفادحة، تجري العملية النفسية الأدهى، المُصطلح عليها بلفظة (الترانسفير)، وذلك بنقل الإستهداف الإنفعالي من موضوعه الأصلي إلى موضوع آخر لا علاقة له البتة بالأول؛ إذ يشعر أرباب النظام الرأسمالي أن المواجهة مع مجتمعاتهم تقترب أكثر كلّما تفاقمت عقابيل سياسية التقشف المفروضة؛ بدلاً من إشراك الطبقات الغنية في تحمّل أعباء الأزمة، وذلك بتقبل زيادة محسوسة من الضرائب، فقد فضلت إصلاحات (النظام) أن تسوّق سياسة التقشف التي تعتدي عملياً، وتدريجياً على معظم مكتسبات الحقوق الاجتماعية لغالبية المواطنين العاملين.
سوف يصبح المهاجرون المسلمون هم سبب كلّ علّة، تشكو منها مجتمعات الأزمة الرأسمالية المتفاقمة. كأنما لم يكونوا هم الأوائل من ضحايا البطالة. والحرمان من أبسط شروط الحماية الغذائية والمالية، هناك أجيال عديدة من المهاجرين ولدوا وعاشوا في بلاد الغُربة، دون أن يعترف بهم أيّ مجتمعٍ شماليٍ كمواطنين، حتى من الدرجة الثالثة أو الرابعة. لقد تم عزلهم عن مؤسسات المدينة والدولة. لم يُتحْ لأبنائهم حقّ التعليم. وإذا ما تم للبعض ذلك، فإن الخريجين القليلين من الشبان السُمر لا مكان لهم في أية وظيفة عامة أو خاصة، إلا في حالات نادرة. فحين يفرض على الفتيان ألا يكون لهم من مأوى سوى حياة الشوارع، كيف لا تنتشر الانحرافات الأخلاقية والقانونية بين بعضهم.لكن الأغرب في وضع هؤلاء هي مواقف اللوم التي يجترّها الإعلام، والإتهام دائماً برفض الاندماج. كأنما المسجون المعزول يُتاح له أن يقبض على مفتاح زنزانته، لكنه يرفض أن يفتح بابها برضا سجانه.
كان اللوم يقع على (إختلاف) المهاجر. كان مُداناً سلفاً بهيئته ومن ثم بسلوكه، بعنصره (المتخلف)..وأخيرا أصبح مذنباً بدِينه، بإسلامه.فالغضبةُ العارمة التي تتبناها قيادات سياسية وأيديولوجية في القارة الهرمة، تريد اعتبار تواجد ملايين المسلمين في ديارهم، نوعاً من الغزو المزدوج، العقائدي والاقتصادي معاً، ذلك أن الأَسْلَمَة لم تعدْ مقتصرة على أبناء الجنوب الوافدين، بل تعدَّت حاجز العنصر واللغة، وصار لها انتشارها المتزايد بين المتعاطفين مع (إنسانية) الإسلام و(أخلاقيته)، من بين الشبيبة الأوروبية الباحثة عمّا يملأ فراغ حياتها من القيم والُمثل الجديدة. لكن في الواقع فإن ظاهرة (غزو) الأسلمة هذه ليست من الاتساع أو الذيوع بحيث تخيف المراقب الموضوعي.فالأَسْلَمة الأوربية لن تتجاوز كونها ظاهرة فرعية شبيهة مثلاً بالبوذية الغربية، أو بعقائد فئوية كثيرة خارجة عن الأديان التقليدية، وتستهوي قطاعات هامشية من الباحثين عن هوايات أو هويات غرائبية بالنسبة إلى ما هو سائد ومستهلك من الانتماءات الكبيرة والمستهلكة في بلادهم.
أما حديث الغزو الإسلامي لقارة المسيحية والعلمانية الغربية المتقدمة، فقد أصبح مقترناً في الوقت عينه بضخ متواتر لأخبار الغزو الإرهابي، فيما تذيعه من وقت إلى آخر مصادر أمنية حكومية، عن مؤمرات إسلاموية يعدّها إرهابيون باكستانيون أو سواهم ضد مراكز مدنية مأهولة في عواصم أوروبا الغربية، وخلال توقيت واحد أو متقارب.كأنما الأنظمة الحاكمة هناك اتفقت على تنظيم حملة تخويف نفسي ضد مجتمعاتهم عينها، لعلّها تنسيهم خوفهم الأصلي من ضياع مكتسباتهم الاجتماعية، بدءاً من تأخير مستقبلهم التقاعدي.
صناعة ‘عدو الغرب الأول’ جارية على قدمٍ وساقٍ منذ كارثة الحادي عشر من أيلول (2001)، وهو الإسلام كدين وبشر ودول وتاريخ معاصر لأكثر من مليار ونصف المليار من سكان العالم.
ومؤرخو هذا العقد الأول من القرن الواحد والعشرين، يمكن لبعضهم، غير المعروف بعد، أن يُغلق قصة هذا العقد ما بين بدايته في كارثة نيويورك، ونهايته المرحلية مع إنفجار أزمة الصيرفة العالمية وتداعياتها المتواصلة بعدها، منذ أواخر العقد وحتى اليوم وغداً؛ فقد انخرط هذا العقد، بإرادته أو بدونها غالباً، في وعثاء حقبة أمريكية خالصة، ولا يزال يعيش ذيولها دون أمل بالفكاك عنها قريباً.إنها أمريكية خالصة من حيث أن القابض على موقع الآمرية الإستراتيجية في أحداثها هو العقل الأمريكي، وهو نفسه كذلك المتلقي الأول لعقابيل هذه الآمرية المطلقة، وإن كان يجر معه ووراءه عقول التابعين له، الأقربين والأبعدين.
هناك من يَرى أن الفهم المتأخر لأحداث نيويورك ينبغي استمداده من حصيلة الأزمة المالية العالمية التي هي في جوهرها وفي أبعادها أمريكية.هذا لا يعني أن الهجوم النيويوركي ذا العنوان الإسلاموي، قد أرسى الأسباب غير المباشرة لانطلاق الأزمة المالية. بل هو الأمر على العكس، إذ لم يجر (اصطناع) الأولى، إلا أملا في إعاقة الكارثة الاقتصادية أو تأخيرها ما أمكن. يعتقد أصحاب هذا الرأي أن ثمّة يقيناً مترسخاً لدى نخبة الخبراء العارفين بحقائق الرأسمالية المالية، أن الفقاعة الكبرى لهذه الظاهرة لا بد أن تتمزق، وتتكشف عن لعبة الخداع الأعظم الذي بنى أساطيرَها وأمجادها؛ وحين ستتبدد ذرات هذه الفقاعة فسوف يتعرَّى تحتها ما هو أشدّ إرعاباً وفظاعةً منها بمراحل هائلة، إذ سوف يتعرى جوهر الرأسمالية الأمريكية عينها، الفاقدة أصلا لأية جوهرية صدفية في مبناها المالي والاقتصادي معاً.
كيف يمكن أن تقوم وتستمر أكبر إمبراطورية في التاريخ على رأسمال لا تمتلكه أصلا، نحو تراكم مديونية هائلة بالأرقام الفلكية.والأعجب من هذا أن تتمتع هذه المديونية بأقوى عملة (سابقاً) هي الدولار الذي لا رصيد له إلا مطبعة وزارة المال الأمريكية التي تصدّر أوراقه الخضراء المتحكّمة بالاقتصاد العالمي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، هذه الحقيقة يعرفها القاصي والداني، حتى أن الخبراء الأمريكيين أعلنوا مراراً، وبالفم الملآن، أن أمريكا دولة مفلسة واقعياً، وهي ذاتها تعيش على فوارق الفوائد بين المديونيات العاجلة والآجلة. وان إشهار إفلاسها متوقف على إرادة واحدة من كبار الدول الدائنة لها، وهي الصين اليوم، لكن المانع الفعلي هو الخوف من تهاوي النظام العالمي ككلّ.
إلا أنه مع حلول الأزمة المالية، واستعصاء الحلول الخجولة المتبعة، لم يعد الحديث عن تهاوي النظام العالمي، واقتراب مقدماته، مجرد تعبير عن نزعة تشاؤمية أو عدمية؛ حتى يمكن القول أنه أصبح حديثَ الساعة في منتديات النقاش المتخصص أو الثقافي العام، وليس في دوائر السياسة العُليا في الغرب وحده.
تحت هالة الذعر الوجودي إزاء هواجس هذه النهاية شبه المحتومة ينبغي أن يُعادَ فهم وتفكيك مغامرات الإمبراطورية التي ألزمت بوعثائها وأهوالها، تحولات المصير العالمي خلال العقد الأول من الألفية الثالثة، في خطوطها الثلاثة العسكرية والسياسية، ومن ثم الاقتصادية. فكان لا بد من الحدث المركزي الإنفجاري في كلّ خارطة تابعة لأحد هذه الخطوط، من أجل إعادة التحكم في ردود الفعل المختلفة الناجمة عن ذلك الحدث، وفق الهدف الإستراتيجي الذي يعبّر عن سيناريو مطبوع معيّن في مخيلة صُنَّاعه الأوائل. فالأمريكي يفتخر، منذ أيام المعلّم هنري كيسنجر أنه هو اللاعب الرئيسي في الخرائط العالمية، والمهندس البارع في رسم طوبوغرافيتها؛ ومخترع لعبة البيادق في شطرنجها، وهو المتحكّم والحكم في إدارة أشواط اللعبة، وصولاً إلى نتائجها المرسومة لها سابقاً.فهل من مفكر، بل من مجرد مراقب حيادي، لا يصدق مثلاً أن العولمة لم تكن سوى إختراع أمريكي. ومن ثم يقع تحويلها بعد عقدين من إطلاقها، من عولمة إقتصادية إلى عولمة عسكرية بوليسية مع تفجير الحدث الأيلولي النيويوركي؛ ومن ثم ثالثاً تقع في أواخر العقد الأول الحالي من الألفية الثالثة عولمة الكارثة المالية المستديمة بفعل تداعياتهاالموضوعية، والمستدامة بأفعال سَحَرَة المال الكبار أنفسهم، المعروفين والمجهولين، أو المتجاهَلين (بفتح الهاء).لكن من طبيعة التطورات السياسية/الكلّيانية آن يفلت أحياناً أمام قيادتها في اللحظات الحاسمة، مهما امتلكت هذه القيادة من مقدرات السيطرة الفائقة بوسائل العنْفين العقلي والمادي معاً.
وهذا ما تواجهه الإمبراطورية إزاء معضلاتِها البنيوية في ذاتها، والعقبات الكأداء في ساحاتها المفتوحة في محيطها، الزاخرة بشتى الإحتمالات المتناقضة، لكنها المتكالِبة جميعها على محددات المصير الإمبراطوري. وقد أمسى (الإسلام) اليوم يحتل بؤرة الاستهداف؛ كما لو أنه هو القطب الآخر، الأعظم والأخطر، الذي يترصّد الرهانات الأخيرة للإمبراطورية، غير أنه كلّما نجح بعض الإسلام في إحباط أحد هذه الرهانات في عقر ديار العرب والإسلام، كلّما ارتدّت كرة اللهب إلى اليد التي قذفتها.فإختراع (الإسلام) كالعدو المطلق للغرب، لم يستطع التحشيد الإعلامي ضد تمثاله، أن يحول مثلاً غضب الجماهير الفرنسية عن تمثال الحقيقة الأخرى المخفية أو المتوارية بفعل ألاعيب التزوير الدعاوى المنبث من أوكار سوداء لا تخطئها النظرة الثقافية الواعية، التي يتميز بها المجتمع الفرنسي. فهو يعرف مكمن الخطأ، والخطيئة الأصلية.عدوه ليس غازياً من خارج وطنه.ليس هو الوجه الأسمر ولا البُرقُع النسائي، ولا المساجد والمآذن.إنه بكلمة واحدة (النظام) الذي يجره غباؤه التقليدي إلى تلفيق إصلاحات زائفة يرفضها الحس الجماهيري، لكنها تفجر غضبه، تذكره بالاصلاحات الحقيقية الممنوعة من التداول بأسمائها وعناوينها الأصلية.
يتسلم الشارع الفرنسي قيادة المرحلة الراهنة والقادمة، وتلك هي أهم واقعة فاتحة على مستقبل الإصلاح الشامل وليس فقط على مستقبل (التقاعد) لأجيال اليوم، وللغد القريب.
‘ مفكر عربي مقيم في باريس
القدس العربي