دروس من سجين «نوبل» للسلام
خليل العناني *
مُنحت جائزة «نوبل» للسلام لهذا العام للمعارض الصيني ليو تشياباو الذي يعتبر من أهم الداعين لتحرير الصين من قبضة النظام الشيوعي وإقامة حياة ديموقراطية تعددية. ولعلها المرة الأولى التي تُمنح فيها هذه الجائزة لسجين في بلد مهم مثل الصين. وقد كان من الطبيعي أن تنزعج بكين من منح الجائزة لواحد من أشرس معارضي الحكم الشيوعي، فكانت النتيجة أن تم وضع زوجة المنشق الصيني تحت الإقامة الجبرية فى منزلها وقطع كل وسائل الاتصال بها. كما حدث توتر فى العلاقات الصينية – النرويجية بسبب منح لجنة «نوبل» جائزتها القيّمة لتشياباو.
ومن المعروف أن ليو تشياباو قد حُكم عليه بالسجن عام 2009 لمدة 11 عاماً بتهمة «العمل على زعزعة استقرار البلاد»، وذلك من خلال التوقيع على «ميثاق 08»، وهو «أطروحة تدعو إلى الإصلاح القانوني والسياسي فى الصين من أجل إقامة نظام ديموقراطي يحترم حقوق الإنسان، وقد وقع عليها في الأصل نحو 300 من الباحثين والمحامين والموظفين الرسميين الصينيين وجرى توقيت صدوره ليتزامن مع اليوم الدولي لحقوق الإنسان في 10 كانون الأول (ديسمبر) 2008» وذلك كما جاء في البيان الذي أصدرته قبل أسبوع منظمة العفو الدولية التي طالبت الصين بضرورة الإفراج عن تشياباو وكل زملائه الذين يطالبون بالتحول الديموقراطي في الصين.
معضلة الأنظمة الشمولية، ومن بينها الصين، أنها لم تعد قادرة على إخفاء جرائمها ضد الحريات ووقف التداول السلمي للسلطة بعد أن بات هذا التداول أحد بديهيات الوقت الراهن. وهي بأفعالها القمعية ضد معارضيها إنما تحولهم، من دون أن تدري، الى أبطال ورموز ينالون اهتماماً داخلياً وخارجياً أكثر مما لو تركتهم يتصرفون بحرية. فما كان لكثيرين أن يسمعوا عن تشياباو لولا تحديه للسلطات الصينية وإصرار هذه الأخيرة على قمعه وسجنه. وما كانت «لجنة نوبل» لتمنح جائزتها له، مثلما فعلت عام 1989 حين منحتها للمعارض الصيني الآخر الدالاي لاما، لولا إصرار الحكومة الصينية على تشويه صورة معارضيها.
وهو نفس الخطأ الذي وقعت فيه، ولا تزال، بعض الأنظمة العربية التي ترفض السماح للمعارضة السياسية المشروعة بحرية العمل السياسي والتظاهر السلمي. ولعل ذلك ما قد يفسر، جزئياً، انضمام الكثير من الشباب العربي إلى التنظيمات المتطرفة باعتبارها السبيل الوحيد للمعارضة السياسية. نقول ذلك من دون التقليل من التأثير المتزايد لوسائل الإعلام والتواصل الإلكتروني التي باتت تمثل صوت وعقل «المعارضة الجديدة» في العالم العربي. فمن خلال شبكة الإنترنت بات انتقاد الكثير من السياسات العربية أمراً روتينياً، في حين أن الدعوة لتنظيم التظاهرات السياسية والاعتصامات العمالية لم تعد في حاجة إلا لنصف ساعة على شبكة الإنترنت كي تُحدث أثرها. ولم يعد بمقدور أي نظام سياسي، مهما كانت سطوته، منع أو حجب حرية تدفق المعلومات عبر شبكة الإنترنت. وإذا كانت دولة بأهمية وحجم الصين قد نجحت، موقتاً، في فرض سيطرتها على الفضاءين السياسي والإلكتروني، فإن ذلك لم يمنع لجنة «نوبل» من منح جائزتها الرفيعة لأحد المعارضين السياسيين الصينيين، ولربما كان المنع والحجب سبباً في حصول ليو تشياباو على الجائزة.
وكمْ من معارضين سياسين ظهروا خلال العقود الماضية ولم يلتفت إليهم أحد إما بسبب ضعف وسائل الاتصال وعدم القدرة على تقصي أخبارهم، أو بسبب عدم اكتراث الأنظمة الشمولية بهم أو إعطائهم أي مساحة من الاهتمام. أما الآن فالاختباء من وسائل الإعلام وتجنب وسائل الاتصال عبر الإنترنت باتا ضرباً من المستحيل. فمثلاً نجحت زوجة تشياباو في التواصل مع العالم من خلال برنامج صغير على الإنترنت اسمه «تويتر» يسمح بنقل الأخبار بشكل سريع الى كل أنحاء العالم، وقد عرف الجميع من خلال هذه الخدمة الإلكترونية أن السلطات الصينية قد وضعتها قيد الإقامة الجبرية، وهو ما أثار المنظمات الحقوقية الدولية ودفعها الى إصدار بيانات تدين الموقف الصيني.
وهو درس يجب أن تتعلم منه الأنظمة السلطوية العربية التي صنعت أبطالاً ورموزاً للمعارضة بسبب ملاحقتها وقمعها لهم. وقد تجاوز القمع مجرد تكميم الأفواه من خلال عمليات الاعتقال والمطاردة الأمنية، كي يصل إلى محاولة «خنق» المجالين الفضائي والإلكتروني. فعلى سبيل المثال قررت الحكومة المصرية قبل أيام حجب وسائل الإعلام «غير الرسمية» عن تغطية الانتخابات البرلمانية التي سوف تجرى بعد أقل من أسبوعين، فضلاً عن تقييد خدمة الرسائل النصية (SMS) التي تتيح للمرشحين التواصل مع قواعدهم الانتخابية من جهة، كما تسهل كشف الانتهاكات وعمليات شراء الأصوات من جهة أخرى. وعلى رغم ادعاءات الحكومة بأن ما يحدث يأتي فى إطار عملية إعادة «تنظيم البث الفضائي والإلكتروني» بخاصة بعد أجواء التوتر الطائفي التي عاشتها البلاد خلال الأسابيع الماضية ورصدناها في مقال سابق، إلا أن الرغبة السياسية فى تقليم أظافر المعارضة الجديدة لا يمكن إخفاؤها.
«صناعة» المعارضة ليست شيئاً جديداً على الأنظمة السلطوية، بيد أننا الآن أمام نمط جديد من المعارضة يمكن أن نطلق عليه «المعارضة البلّونية»Bubble Opposition وهي أخطر من المعارضة التقليدية لأنها متجددة باستمرار ولا يمكن الإمساك بها بسهولة. والآن لم يعد مفاجئاً أن نسمع ونقرأ يومياً عن وجوه جديدة تنضم الى قائمة المعارضات السياسية العربية، وكأننا أمام عملية توالد سياسي مستمرة. فما أن تُغلق السلطات العربية «مدونة» إلكترونية أو يتم اختطاف واعتقال أحد الناشطين السياسيين حتى يتحول إلى زعيم سياسي أو مناضل «إلكتروني» تخطفه الفضائيات ووسائل الإعلام. وأذكر أنني التقيت أحد الشباب المصريين قبل عامين ووجدته مصراَ على أن يصبح معارضاً سياسياً، على رغم عدم انتمائه الى أي تيار سياسي، ليس لشيء سوى أن يكون نجماً تلفزيونياً ما قد يوفر له وظيفة كريمة ويمنحه قدراً من الوجاهة الاجتماعية. أقول ذلك من دون الوقوع في مصيدة التعميم، فكثير من الشباب العربي بات ينظر الى فكرة المعارضة، ليس باعتبارها وسيلة لتغيير أوضاعه السياسية والاجتماعية، وإنما كمطلب ضروري يلبي لديه حاجة قوية للاعتراف بالذات وتأكيد وجودها. وهو مطلب لم تفلح قوى المعارضة التقليدية، سواء كانت أحزاباً سياسية أو حركات دينية، في الاستجابة له بعد أن فقدت قدرتها على جذب اهتمام الشارع العربي، ليس فقط بسبب برامجها المستهلكة وفشلها في تغيير الأوضاع القائمة، وإنما أيضاً بسبب تحولها إلى كيانات مستنسخة تشبه أنظمتها السياسية سواء لجهة انعدام ديموقراطيتها الداخلية، أو نتيجة عدم قدرتها على تشكيل ائتلافات سياسية في ما بينها، ما يجعل بقاء الوضع الراهن، بالنسبة الى كثيرين، أفضل من تغييره.
وإذا كان تشياباو الصيني قد مُنح جائزة «نوبل» للسلام بسبب نضاله السلمي، فلن يكون غريباً أن يحصل عليها قريباً أحد المعارضين الجدد في العالم العربي، وذلك بفضل «نضاله» الإلكتروني على شبكة الإنترنت التي يجب أن تشترك في الحصول على الجائزة مع الفائزين بها.
* أكاديمي مصري – جامعة دورهام، بريطانيا.
الحياة