صفحات مختارةياسين الحاج صالح

أي موقع للسلطة الدينية الإسلامية في الدولة الحديثة، عندنا؟

null
ياسين الحاج صالح
في المجرد، هناك واحد من ثلاثة مواقع للدين في الدولة الحديثة.
إما أنه إحدى سلطات الدولة، ما يقضي بأن ينضبط بمبدأ فصل السلطات، فنتكلم على سلطة دينية على نحو ما نتكلم على سلطات تنفيذية وتشريعية وقضائية، لا تتدخل أي منها في شؤون الأخرى. وفي هذه الحالة تدين السيادة لمبدأ يوحد هذه السلطات جميعا ويعلوها، هو الدولة ذاتها.
أو أن السلطة الدينية خارج الدولة، ويتعين في هذه الحالة أن تنضبط علاقتها بالدولة بمبدأ العلمانية، أو الفصل بين الدين والدولة. وبينما تبقى الأخيرة مقرا للسيادة للعليا، فإن “المجتمع المدني” هو “خارج الدولة” الذي تقر فيه السلطة الدينية الفاقدة للسيادة، أي لكل من صفتي العموم والقسر.
لكن ثمة صيغة ثالثة هي صيغة “الحاكمية الإلهية” كما بلورها كل من أبي الأعلى المودودي وسيد قطب. الدولة هنا ضمن الدين أو تحته، إحدى وظائفه. مقر السيادة هو الدين وليس الدولة التي لا تعدو كونها أداة ضرورية للحكم، لا شخصية لها ولا تحوز أية شرعية ذاتية. والصحيح أن دعوى الحاكمية، إن أخذت بحرفيتها، تلغي الدولة رأسا، وتجعل الإسلام ذاته دولة.
لكن ما لا يتوفر “الحاكميون” على إجابة عليه هو أن الباري لا يحكم مباشرة، وأن “شريعة الله” لا لسان لها وتتكلم بألسنة بشرية، وأن البشر ليسوا محض وكالات أمينة وشفافة للمقصد الإلهي الأصلي والأصيل. وليس احتمالا أن يؤولوا “دين الله” بما يناسب بقاءهم في موقع السلطة العليا، بل إن هذا محتوم كما ينبئ تاريخ الديانات جميعا، وتاريخنا نحن أيضا. ما الذي يضمن، تاليا، ألا يستخدم وكلاء الحاكمية الإلهية الدين من وراء زعم أنهم يخدمونه؟ وما الذي يمنعهم من توسل “الحكم بما أنزل الله” كي يضفوا القداسة والإطلاق على سلطتهم هم، فيؤسسون حكما طغيانيا مقدسا ينزل المعارضين منزلة كفار يستحل دمهم؟ هذا إلا إذا افترضنا أن النظام الحاكمي يغير الطبيعة الإنسانية ذاتها، الأمر الذي لا دليل عليه، لا في العقل ولا في التاريخ ولا في النصوص.
وهو ما يعيد طرح المسالة السياسية من أولها: كيف نضبط السلطة؟ كيف نحد من الاستبداد؟ كيف نضمن مصالح الأمة؟ وهو ما يقودنا إلى قضايا السيادة الشعبية والتمثيل والتفويض، ويعيدنا إلى مبدأ فصل السلطات.
***
فبأي من هذه النماذج الثلاثة تنضبط العلاقة بين الدين والدولة في البلدان العربية؟ ولا بأي منها.
فلا توافق العلاقة بين السلطتين نموذج فصل السلطات الليبرالي رغم أن السيادة مقررة للدولة، وأن الدين أقرب ما يكون إلى إحدى سلطاتها: ثمة وزارة أوقاف وكليات شريعة ومفت عام ومساجد تسيطر عليها الدول، وخطباء تحدد لهم مضمون خطابهم الديني ووجهته العامة. وهم في الغالب يضمنون خطبهم ثناء على الحكام وتمجيدا لهم. لا تنضبط علاقة الدين والدولة بنموذج فصل السلطات لأن السلطات غير منفصلة، والدولة لا تعدو كونها سلطة تنفيذية توسعية محتلة لأراضي السلطات الأخرى، بما فيها الدينية.
كما لا توافق علاقة الدين والدولة نموذج العلمانية رغم أن السلطة الدينية محكومة وليست حاكمة في جميع الحالات تقريبا، ورغم أن السلطة السياسية منفصلة واقعيا عن السلطة الدينية. هذا لأن الفصل الواقعي لا يكفي لإثبات العلمانية، ويحتاج إلى ثقافة تنظمه وترسخه وتضفي عليه صفة طبيعية وإيجابية، ثقافة علمانية مهيمنة. هذا غير محقق في أي من بلداننا. وفي أكثرها ثمة مادة دستورية تقرر أن الإسلام هو دين الدولة أو دين رئيسها. مادة رمزية لا تلغي الانفصال الواقعي بين السلطتين، أو علمانية الأمر الواقع، إلا أنها تؤكد ضعف ثقافة الفصل وتبقي العلمانية الواقعية معدومة الشخصية.
كذلك لا تنتظم علاقة الدين والدولة وفقا لنموذج الحاكمية في أي من الدول العربية. ثمة أجسام تشريعية في أكثر دولنا، ومجال تطبيق “الشريعة الإسلامية” قد يكون واسعا في بعضها إلا أنه ليس شاملا في أي منها. وفي سياستها الخارجية والداخلية معا تنهج دولنا وفق منطق يطابق بين السيادة والدولة وليس بين السيادة والدين.
ليس نظام العلاقة بين الدين والدولة منضبطا بأي من النماذج الثلاث، فكيف نصفه؟ وهل يعني انفلات العلاقة بين السلطتين من النماذج المعروفة أن هذه النماذج غير مناسبة وينبغي تاليا تطوير نموذج رابع مختلف؟ أم أن هناك خللا بنيويا في كل من السلطتين يحكم بتعذر انضباط علاقتهما وفقا لأي نموذج متسق؟
نرجح الإجابة المتضمنة في السؤال الأخير. إذ تعرض السلطة الدينية نزوعا إل التناثر والتبعثر يطعن في شرعية القول بأن هناك سلطة دينية موحدة في أكثر بلداننا. لا نتكلم على التعدد الديني والمذهبي، وهو معطى لا يمكن تجاوزه في أي من بلداننا، بل على توزع السلطة الدينية في عالم الإسلام السني ذاته إلى ثلاث سلطات على الأقل: الإسلام الحكومي الذي أشرنا إلى مكوناته (مساجد وخطباء وكليات شرعية ووزارة أوقاف..)، وإسلام إخواني سياسي يصف نفسه بالوسطية وعلى خصام مع الحكومات القائمة، وإسلام سلفي جهادي على حرب مع الدول ومع العالم. والسلطات هذه متنازعة فيما بينها وقلما تتوافق. وهي فوق تنازعها تصدر عن ثقافة أو وعي ذاتي لا يتصور استقلالها الذاتي بأمر الدين وعن سلطة الدولة، ما يتسبب في عسر عقلنة التفكير والسلوك والعمل الديني. ففرص العقلنة، كما سبق لماكس فيبر أن لاحظ، تكبر حين يكون الاختصاصيون الدينيون منظمون في هيئات دينية مستقلة، وتنحدر حين يكون هؤلاء تابعون للسلطات السياسة، أو مندمجون بالكامل وسط الجمهور الذي قد يستفيد من خدماتهم الدينية. في العالم الإسلامي يتولد نقص العقلنة عن التبعية للسلطة السياسية، لكن أيضا عن تجزؤ وتناثر السلطات الدينية، وأكثر عن “ثقافة سياسية” إسلامية تنكر استقلال مجال ديني خاص. ومهما بدا ذلك غريبا فإن عسر استقلال الدين عن الدولة مسجل في عدم استقلال الدين عن “الإسلام”، أي عن التشكل المؤسسي التاريخي للإسلام في أمة ووطن ودولة متخيلة. ورغم أن الإسلام لم يكن “دولة” إلا في سنوات تأسيسه القليلة، فإنه لا يزال دولة في المخيلة. وعن هذه الدولة المتخيلة، حصيلة التمأسس الخيالي للإسلام، لا يكاد يتمايز دين أو يستقل بمقام ذاتي. وقبل أن يرفض الإسلاميون انفصال الدولة السياسية عن الدين، فإنهم يرفضون أصلا استقلال الدين ذاته أو انفراده بقوام ومقام خاص. فإذا صح ذلك، كان أوجبَ العملُ على الفصل بين الدين و”الإسلام”، كمدخل إلى انفصال السلطتين الدينية والسياسية عن بعضهما.
***
هذا عن اضطراب تشكل السلطة الدينية، فماذا عن تشكل السلطة السياسية؟ هنا أيضا نواجه اختلالا لمصلحة البعد الجهازي والقسري المتضخم على حساب البعد الفكري والقانوني الضامر للدولة. ومنذ سنوات يجري التمثيل على هذا الشرط (في سورية) بالكلام على حلول السلطة محل الدولة. أو قد يكون أصح على عدم استقلال الدولة عن السلطة. أو أفضل بعدُ على أن الدولة بالمعنى العربي القديم، أي كنوبة حكم يوكل “تداولها” إلى “الدهر” أو “الأيام”، تحتل الدولة بالمعنى الحديث للكلمة. هذا هو مغزى الكلام على “سورية الأسد” مثلا، أو أيضا على “دولة البعث”. وعليه يكون فصل “الدولة” (دولة الحزب أو الحاكم) عن الدولة مدخلا إلى العقلنة السياسية، ويكون استقلال الدولة برأسها السياسي شرطا لاستقلالها عن رؤوس أخرى، الرأس الديني بخاصة.
إصلاح أمر كل الدين والدولة قد يكون، إذاً، هو الخطوة الأولى نحو انتظام العلاقة بينهما وفق نموذج متسق.
ومن شأن استقلال الدين في الذهن أو تولد مفهوم عن الإسلام كدين، وكذلك استقلال الدولة عن السلطة، أن يدفع باتجاه انتظام العلاقة بين السلطتين الدينية والسياسية وفق النموذج العلماني. إن نموذج فصل السلطات يضيق على الدين ويسرف في تسييسه وإخضاعه للسلطات الدنيوية، أما نموذج الحاكمية فيفسد الدين أكثر بجعله دولة.
والثابت عندنا أنه لا مجال للجمع بين استقلال الدين وسيادته. فإن كان سيدا فلن يكون مستقلا عن الدولة، ولا يمكن أن يكون مستقلا دون أن يفقد السيادة لمصلحة الدولة الحديثة.
خاص – صفحات سورية –

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى