صفحات مختارة

لماذا تتوافق الحكومة والأحزاب والجماهير ضد التنوير؟

إبراهيم غرايبة *
تبدي الحكومة – «الطبقة» حرصاً كبيرا، بل مبالغاً فيه، على ألا يكون للمجتمعات حركات اجتماعية وسياسية تعبر عن أفكارها ومصالحها، وتفضل أن تتعامل معها كأفراد، وتفضل أن تحصل المجتمعات والجماعات الاجتماعية والمهنية على هبات وتبرعات كبيرة، وكبيرة جداً، ولكن لا تحب أبداً أن تدير البلديات أو الأحياء أو الجماعات والمجتمعات والتشكيلات العمالية والمهنية موارد أو مؤسسات حقيقية تنعكس على حياة الناس واحتياجاتهم، ولا تريد لأي منجز من هذا القبيل إلا من خلالها (الحكومة) أو القطاع الخاص. ولذلك لم نسمع في الأردن عن حصص وأسهم حقيقية وذات شأن يعتد به في الشركات الكبرى التي خصخصت على رغم قدرة ورغبة واستعداد الأفراد والمجتمعات والنقابات على المشاركة فيها، ولم نسمع عن مدارس (غير ربحية) أو مصانع أو حدائق عامة أو أندية فاعلة وناجحة أو مؤسسات إعلامية أو تعاونيات إنتاجية، أو تموينية، أو مشروعات سكنية تعاونية تنشئها الأحياء والبلديات والنقابات والجمعيات التعاونية، ولا نلاحظ تجمعات ومنظمات قائمة على نحو راسخ ومنتشر ومتجذر لحماية البيئة والحياة اليومية وتنظيم المدن والأحياء والرقابة على القطاع الخاص وحماية وتوعية المستهلك، وتطوير وتفعيل الخدمات الأساسية والرفاه، وما سيرد به على هذه المقولة لا يعدو كونه جمعيات محدودة أو نخبوية وليس عملاً مجتمعياً شاملاً.
والغريب أن الحكومة (الطبقة) لا تسهم بشيء في تشكيل اجتماعي وسياسي وتوعوي في هذا الاتجاه، على رغم أنه يفترض أن يكون من مصلحتها، ويصعب تفسير الفشل في قيام تجمعات مهنية وعمالية لفئات كبيرة في المجتمع كالمعلمين والمزارعين وسائقي النقل العام تؤمن لهم الحد الأدنى والمعقول من الضمان الاجتماعي والتأمين الصحي وتساعدهم في السكن والتدريب والتعليم المستمر، وإذا كانت المخاوف السياسية مفهومة، فليس مفهوماً محاربة ومنع المكاسب الاجتماعية والاقتصادية، وليس مفهوماً أن تتدخل الشرطة على سبيل المثال وبقسوة مبالغ فيها ضد عمال إحدى الشركات المضربين والذين يطالبون بما يعتقدونه حقوقاً لهم في العمل والأجور والتعويضات.
والحكومة (الطبقة) تبدو في حالة عداء مستحكم مع التنوير، وغير متحمسة لحراك وإبداع ثقافي وتنويري حقيقي ومتجذر ومتمكن في المجتمعات والأجيال والمدارس والجامعات. وبالنظر إلى حالة الانتخابات القائمة اليوم في وجهة وطبيعة الترشح والمشاركة والإقبال والمعارضة والعـزوف والسلبيـة فإنـها تبدو تعبر بوضوح عن هذه المقولة.
البديل بطبيعة الحال قاس وممل وإن كان مجدياً، وهذه مشكلة الحياة والطبيعة التي جعلت كل الإنجازات والنجاحات والتقدم عمليات شاقة، وهو ببساطة أن يعيد الناس تجميع أنفسهم حول مصالحهم وأفكارهم العملية، لماذا لا يتحرك العمال على سبيل المثال لجعل نقاباتهم تعمل لأجلهم وليست جزءاً من الشركات أو تابعة لأصحاب العمل؟ وهكذا هناك آلاف القضايا والأفكار المحركة للانتخابات، ولكن ما هي الأزمة الحقيقية للأحزاب والحركات السياسية والجماهيرية في تعاملها مع الانتخابات النيابية؟ أعني الأزمة التي تحول بين الأحزاب والتحرك بالبرامج والإصلاحات وبين النجاح والتأثير في الانتخابات والقدرة على تحصيل نتائج معقولة، أو ليكن السؤال كيف تستقطب الحركات جمهورها ومؤيديها وتحركهم إلى الانتخابات أو ضدها؟ ما هي حقيقة الصراع على الموارد الانتخابية والجماهيرية؟
يبدو لي أن الانتخابات النيابية كشفت عن أزمة الحكومات والحركات والجماعات والأحزاب، والجماهير والطبقات أيضاً. فهي سواء بوعي أو بغير وعي لا تستخدم الانتخابات لأهدافها المفترضة، أو تريد منها غير ما يمكن أن تحققه، وربما تجمع الأطراف الفاعلة في الانتخابات أو تقترب من الإجماع على أنها لا تريد الشروط الموضوعية والمنجزات والأهداف الحقيقية والممكنة للانتخابات، هل الديموقراطية والحريات التي تعبر (يفترض) عنها الانتخابات تمثل المطلب الحقيقي والنهائي للحكومات والأحزاب والمجتمعات؟
لا نتحدث عن فئة قليلة تؤمن بالحريات إيماناً مطلقا، لأنها قيمة أساسية تفسر الوجود الإنساني وتميزه، فهذه الفئة على جمال مقصدها وتفكيرها، لا يمكن أن تكون في جميع دول العالم سوى أقلية، تمنح للحياة نكهة جميلة ورائعة، ولكني أقصد الغالبية المفترضة والتي تؤمن بالحريات والديموقراطية على أساس الأخلاق والمصالح، بمعنى أنها (الانتخابات) تمثل أفضل سلوك أخلاقي لتنظيم التنافس والإدارة والقيادة، وأنها أيضا تحمي المصالح وتنظمها، وأنها العقد المتفق عليه لتنظيم الأعمال والموارد والفرص والعطاءات والتشريعات والمحظورات والمسموحات، … بمعنى هل نذهب إلى صناديق الانتخابات وفي أذهاننا علاقة منطقية بين نتائجها وبين المشروعات والأعمال والتشريعات المؤثرة في حياتنا ومواقفنا ومصالحنا؟
وهنا يجب القول وتكرار القول إن الانتخابات في حالتها الراهنة والقواعد التي تجرى عليها في بلادنا تعاني من خلل عميق وبنيوي، وفلسفي أيضاً، يكاد يبطلها من أساسها، ويحولها إلى عمليات تشبه استخراج النفط بالألعاب النارية، أو مواجهة الديون والعجز التجاري والمالي بالحجب والأدعية والرقي والمأثورات، وفي أحسن الأحوال وأفضلها، شيء من قبيل ممارسة الهوايات الجميلة وجمع الزهور البرية، لأنها (الانتخابات) وببساطة ليست عملية موجهة للمؤمنين (سواء كان إيماناً دينياً أو قومياً أو اجتماعياً أو عرقياً أو وطنياً)، ولأن السلوك الجماهيري والعقائدي والعشائري والجغرافي الجاري يتناقض أساساً مع الديموقراطية والانتخابات، وهنا يظل السؤال عالقاً كيف ومتى تكون الانتخابات النيابية عملية منطقية ومفيدة؟ وكيف تتعامل معها الأحزاب والحكومات والمجتمعات والشركات؟
ليس بالضرورة أن تؤدي الديموقراطية إلى العدالة، وليس بالضرورة أن تؤدي إلى الحريات، وليس بالضرورة أيضاً أن تؤدي الحريات إلى العدالة أو التنمية، ويبدو لي أننا بحاجة إلى العدالة أكثر من الديموقراطية والحريات، وحتى مطالبة المعارضة بالإصلاح هي في حقيقتها مطالبة بعدالة غير ديموقراطية، فلا مجال للعدالة إلا بمبادرة من الحكومة، وإذا لم تكن العدالة رغبة سامية ومثالية لدى الحكومة فلن نحصل على قانون عادل، لأن القوانين مهما كانت ستقر على الأغلب في مجلس النواب، سواء كانت عادلة أو غير ذلك.
الأمل الحقيقي ليس معلقاً على الديموقراطية مهما كانت الانتخابات نزيهة، ولكنْ على رسالة مثالية للحكومة وإيمان صاف بالعدالة: لا يمكن الرهان على الديموقراطية لأن الحكومة ستكسب ديموقراطياً. فلا أمل سوى بإصلاح يهبط علينا من الغرب، ولكن الغرب محبط ومشغول بأزمته المالية والاقتصادية. والأمر قد يستغرق عقداً.

* كاتب أردني
الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى