صفحات من مدونات سورية

هل نجحت وسائل اﻻتصال الحديثة في بناء حوار ثقافات؟

خلال السنوات الأولى من العقد الأخير من القرن الماضي, و بعد سقوط جدار برلين و خلفه المنظومة الشيوعية و قيام عالم القطب الواحد -سياسيّاً و اقتصاديّاً و عسكرياً- و مع فورة وسائل اﻻتصال الحديثة من إذاعة و تلفزة فضائية و رقمية و ظهور شبكة اﻻنترنت و ازدياد وجودها و تأثيرها كان من المألوف لقاء آراء منفعلة بابتهاج حول التطورات السريعة تعلن نهاية العالم كما نعرفه.. حيث كانت تؤكد أن هذا العالم المقسّم في طريقه للتحوّل إلى “قرية عالمية” تختفي فيها المسافات و الحواجز المادية و النفسية بين الثقافات و الشعوب و تبشّر بعولمة “حضارية” ﻻحقة لتلك الاقتصادية التي كانت تسير بخطىً متسارعة. وما زالت المقالات و الدراسات و الأبحاث في أرشيف الصحافة شاهدة على ذلك.
اليوم, و بعد مرور أكثر من عقدين على انهيار جدار برلين, و بعد عقد و نصف على بدء انتشار اﻻنترنت على مستوى اﻻستخدام الشخصي في مختلف أرجاء العالم قد يكون من المشروع التساؤل عن ماذا حصل بهذه الوعود و هذه التنبؤات, هل كانت مبالغة؟ هل أساءت التقدير؟ هل استطاع الجيل الذي ترعرع أمام شاشات تلفزة تعرض قنوات العالم أجمع و أمام أجهزة كمبيوتر موصولة بشبكة اﻻنترنت تجاوز الحواجز المادية و النفسية بين الحضارات و الشعوب؟ لماذا تتنامى العنصرية بين أوساط هذا الجيل “اﻻلكتروني” مقارنةً بالأجيال السابقة؟ قد نستطيع أن نبرز أسباباً سياسية و اقتصادية للفورة العنصرية و لعودة النزعات اﻻنتمائية الضيقة و بشكل إقصائي, لكن أﻻ يفترض أن “ثورة اﻻتصالات” كانت كفيلة بالقضاء على كل هذه الحواجز؟ ألم تصبح هذه الثورة حليفةً لبعض العوامل اﻻقتصادية و السياسية المسببة لتنامي اﻻنتماء الإقصائي و النزعات العنصرية في حالات كثيرة؟
هناك سؤال مركزي ربما كان يجب أن يجيب عليه كل أولئك الذين اتّكلوا على “ثورة اﻻتصاﻻت” لحل مشاكل التواصل بين الحضارات و الثقافات و الشعوب: هل وجود قناة اتصال مفتوحة بين طرفين كفيلة لوحدها لإقامة حوار بنّاء و هدم الاختلافات و الخلافات؟ لماذا إذاً تقوم الحروب الأهلية و يقتل الجار جاره إن كان بينهم أهم و أبلغ قناة اتصال, أﻻ و هي الوجه للوجه؟
لقد حُمّلت ثورة اﻻتصالات أكثر من طاقتها بكثير عندما اعتُمد عليها لتأسيس فلسفة حوار, اعتقد الكثيرون أن هذه التقنية الجديدة ستؤسس بالممارسة لفلسفة جديدة قائمة على التواصل و المعرفة, و أنها ستساهم في إنهاء الجهل بالآخر و بالتالي تخفف (إن لم تقضي) على النظرات المسبقة و العدائيّة المعلّبة المسبقة الصنع, لم يفكّر أحدٌ من الذين بشّروا بنهاية العالم المجزأ كما نعرفه بأن هذه التقنيات الجديدة ليست إﻻ أدوات ﻻ تؤسس لفلسفة لوحدها بل أنها تنخرط في المنطق الموجود.. جميع المناهج التربوية في مختلف أرجاء العالم أدخلت مادة المعلوماتية و اهتمت بتعليم التلاميذ استخدام الكمبيوتر و اﻻتصال بشبكة اﻻنترنت و “الإبحار” في محيط الشبكة العالمية الشاسع.. لكن كم منهاجاً حول العالم أدخل مع المعلوماتية نهجاً تربوياً للتواصل مع الآخرين أو لبناء مفهوم جديد للمعرفة يتناسب مع قوّة أدوات اكتسابها الجديدة؟ الرقم يقترب من الصفر, إن لم يطابقه تماماً..
يمتلك الإنسان اليوم من المعلومات, أو يمتلك الوسائل السهلة و السريعة للوصول إلى المعلومات حول الآخر كما لم يمتلك و كما لم يحلم باﻻمتلاك قبلاً, و مع ذلك فإن الجهل بالآخر أكبر و أخطر من أيّ وقتٍ مضى, لم يكن وجود وسائل اﻻتصال و البحث عن المعلومة كافياً لإنهاء هذا الجهل, بل أنه كثيراً ما تعمّق عندما استُخدم للبحث الإنتقائي عن المعلومات و قراءتها بطريقة محدّدة بالنظرة و المشاعر المسبقة, فيتحوّل البحث إلى مجرد عملية تأكيد للكليشيه أو النظرة المسبقة ﻷنه يستبعد ما ﻻ ينطبق معها. نحن نجهل الآخر أكثر مما مضى رغم أننا نمتلك المعلومات عنه أو نستطيع الوصول إليها كمان قلت مسبقاً ﻷن وجود هذه المعلومات دون منطق أو فلسفة لاستخدامها كما يجب ساهم في قتل محرّك المعرفة, أﻻ و هو الفضول. نحن نعتقد أننا نعلم كلّ شيء عن حضارة أو ثقافة أو بلد أو شعب و نتحدّث عنهم بلغة التعميم و الجمع دون أن يرفّ لنا جفنٌ رغم أن ما لدينا ليس إﻻ مجموعة نظرات مسبقة مفروضة سياسياً أو اجتماعياً أو دينياً, و وسائل اﻻتصال و البحث عن المعلومة (اﻻنترنت مثلاً) لم تمسح هذه النظرة المسبقة كما اعتقد المبشّرون بها و إنما نفعت للبحث الانتقائي عمّا يؤكد هذه النظرات المسبقة ليس إﻻ, و الأمثلة كثيرة, و ربما ﻻ داعٍ للابتعاد كثيراً للعثور عليها, لننظر إلى نظرات قطاعات كبيرة من الشعوب العربية بعضها إلى بعض كيف أنها مليئة بالنظرات المسبقة التي يمكن أن تكون تحقيريّة و عنصرية, لم تكن هذه النظرات المسبقة بهذه القوّة و هذا الحضور سابقاً رغم أنه لم يكن هناك من وسائل النشر و اﻻتصال ما يوجد اليوم, و هذه النظرات هي حصيلة مناخ سياسي بشكل أو بآخر, و هذا دليلٌ على أن وسائل اﻻتصال و النشر (ثورة اﻻتصالات) لم تنجح في خرق هذه الحواجز النفسية, بل أنها كثيراً ما استخدمت لتكريس هذه النظرات.. لم تقترن بفلسفة تواصل و معرفة بل أنها دخلت كأداة بيد ما هو موجود.

ﻻ أريد أن يبدو نصّي هذا تشاؤميّاً ﻷنني ﻻ أقصد ذلك إطلاقاً.. ﻻ شكّ أن وسائل اﻻتصال الحديثة هي أداةٌ رائعة في يد من يجيد استخدامها, و قد قيل يوماً ان علاج الشوفينية و العنصرية هو السفر, و وسائل اﻻتصال الحديثة تساعدنا على أن نسافر بطرق أخرى, لكنها لوحدها ﻻ تكفي.. ﻻ نستطيع أن نعتمد على الآلات لحلّ مشاكل البشر فالعامل الإنساني ﻻ يمكن اﻻستغناء عنه.
نحن بأمسّ الحاجة لتأسيس و نشر ثقافة الحوار و التواصل و حبّ المعرفة, و هذا ﻻ يمكن أن يتم دون ترسيخ مبدأ إنسانية الآخر قبل أي شيء, كلّ النظرات المسبقة و الكليشيهات تحمل بشكل أو بآخر الكثير من عناصر الانتقاص من إنسانية الآخر الذي نمتلك عنه تصوّر مسبق مبني لأسبابٍ سياسية أو عقائدية, و ﻻ يمكن التأسيس لهذه الثقافة دون محاربة اﻻستخدام الخاطئ لوسائل التواصل بالكلمة و بالمثل و دون رفض التعميمات و الكليشيهات و المفاهيم العنصرية و التمييزية و الدعوة لنبذها و مقاومة تأثير المناخ السياسي و اﻻقتصادي على اﻻعتراف بالآخر بإنسانيته بكل ما يعني ذلك.
مصيرنا أن نتفاهم و نتعايش, و كلّما عجّلنا بالوصول النهائي لهذه القناعة كلّما وفرّنا على أنفسنا كمّاً أكبر من المتاعب و الأحزان.
http://www.syriangavroche.com/

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى