صبحي حديدي: مشروع أدونيس الشعري توقف منذ زمن
حاوره – عاصم الشيدي:– كانت المسافة بين صحم ومسقط طويلة جدا إلى حد جعل الأسئلة تتناثر من ذهني، خاصة وأن وقت الرحلة كان ظهيرة عُمانية قائظة، رغم أننا في الثلث الأول من أكتوبر. كان صبحي حديدي حاضرا في الوقت المتفق عليه لإجراء هذا الحوار، حضر المحَاور والمحاور، وتناثرت الأسئلة بين جبال مسقط الشاهقة، فلم يكن لنا بد من بدء الحديث عبر جائزة نوبل، ولما بدأ الحوار حسبت أن الناقد المعروف حديدي يحفزك على الدخول في الكثير من المداخل الثقافية رغم أنه يتحفظ أحيانا حد الصمت. لا أستطيع أن اكتب هنا مقدمة أعرف بها صبحي حديدي، فحضوره المتواصل في المشهد النقدي والثقافي والسياسي هو خير من يعرفه،وإن كان ثمة ما يقال فسيقوله الحوار الآتي:
• كما تابعت أعلن مؤخرا عن فوز الروائي البيروفي ماريو بارجاس يوسا بجائزة نوبل للآداب. وبين الحديث عن أن الجائزة تعطى لمن يستحقها حينا ولمن لا يستحقها أحيانا أخرى نسأل إن كانت الجائزة تحتفظ بمهنيتها أم أن التيار السياسي جرفها كثيرا؟
أعتقد أنه من الإجحاف البت في الأمر من زاوية واحدة، كأن نقول ما تزال مهنية أو فقدت مهنيتها، الأمر في ظني يتبع الاسم الذي يعلن كل عام، أحيانا يخطئون ويرتكبون أخطاء شنيعة ويمنحونها لأدباء إنتاجهم ضحل كما ونوعا، وأحيانا يصيبون بل يفاجئونا في مقدار الإصابة. وإذا قمت بجرد إحصائية في السنوات حول الإصابة من عدمها فسيكون ذلك إيجابيا لصالح الجائزة.
• خاصة هذا العام؟
إذا كنت تقصد يوسا فهو مطروح على القائمة القصيرة منذ سنوات. ومع احترامي له لا أعتقد أنه أحد العظماء، إذا كانوا قصدوا أن يمنحوا الجائزة لأمريكا اللاتينية فهو ليس أعظم من يكتبون الآن. أقصد مفاجآت الجائزة حيث تمنح مرة لكاتب مثل كيرتيش (2002) وهو أديب ردئ في الواقع، ولا أتورع عن قول ذلك، ثم تمنح لهارولد بنتر(2005) وهي مفاجأة سارة، الأولى كانت مزعجة ومثيرة للسخط والثانية تدل على شجاعة اللجنة القائمة على الجائزة.
• لم يحظ العرب بالجائزة إلا مرة واحدة، وهناك أسماء مطروحة على القائمة لكن مازالت الجائزة تذهب بعيدا عنهم. ألا توجد أسماء عربية تستحق الجائزة من وجهة نظرك؟
أستطيع أن أعد أسماء في الماضي وفي الحاضر. كما تعلم أدونيس موجود على القائمة وأعتقد أنه يستحقها، رغم أنني أختلف معه في الكثير من القضايا الفكرية والنقدية لكن هو شاعر كبير. ولو كانت السياسة أتاحت وجود دولة فلسطينية آمنة ربما كان محمود درويش رحمه الله سيأخذها قبل أدونيس حتى. والآن، إذا كانت الجائزة ستكون عادلة تجاه العرب، يجب أن تذهب إلى سعدي يوسف في حقل الشعر. وفي حقل الرواية، بين بهاء طاهر المصري وبين الياس خوري اللبناني.
• لكن ألا تعتقد معي أن مشروع أدونيس الشعري توقف منذ سنوات طويلة ؟
أعتقد ذلك بثقة عالية أيضا وهذا أمر مؤسف، وحين أثبت هذه الحقيقة من وجهة نظري ربما هي من وجهة نظر الكثيرين أيضا، وهو تثبيت يدعو للحزن. وأدونيس مشروع شعري كبير كان يفترض أن يتطور كما تطور شعراء آخرون. لكن أنا أقصد المنجز. ربما منجز أدونيس توقف قبل 10 سنوات وربما 15 سنة لست قادرا على الجزم. لكن أعتقد أن منجزه رغم ذلك يستحق نوبل.
• مرة سألتُ أدونيس أن يسمي لي اسم شاعرين عربيين كبيرين فاعتذر بحجة أنه لا يستطيع ذلك في حين قال إنه يستطيع وبسهولة أن يسمي عشرة فنانين تشكيليين .. إلى هذا الحد لا يوجد في الأمة شعراء كبار؟
لا، لا . هذه حركات أدونيسية مع احترامنا له. هو عودنا دائما على إجحاف الناس تارة أو الإغداق عليهم دون وجه حق تارة أخرى. هو في برنامج تلفزيوني « خليك في البيت» سمى ستة شعراء عرب على الأقل. سمّى أنسي الحاج والماغوط وتوفيق صالح. وعندما طلب منه أسماء شعراء جدد، سمى عباس بيضون وعبد المنعم رمضان وقاسم حداد، لم يقل بعدم وجود شعراء، لكنه تعثر حينما طلب منه أن يسمي ثلاث شاعرات، وأعتقد أنه تعثر حتى تذكر، فلم يسم إلا سنية صالح وتعثر حتى تذكر فوزية أبو خالد. هذه حركات، وأتمنى أن يعلن هذا الكلام ويكتبه حتى يتحمل مسؤوليته لكن ليس معقولا أنه لا يستطيع أن يسمي عشرة شعراء عرب.
• بعد هذه السنوات من العمل في ميدان النقد هل تشكل لديك ما يمكن أن نسميه منهجا لقراءة قصيدة النثر؟
يخطر لي، حتى أكون منصفا معك ومع نفسي، أن قصيدة النثر العربية لا يكفيها منهج واحد في الدراسة، لأنها تتسم بتعقيد كبير في الأصوات وبتماثل شديد في الشكل وهذا يوجد عقبات كثيرة أمام الدراسة. ليست هناك ضوابط تتيح منهجة الدراسة وفي الآن ذاته هناك العديد من الخصائص المفتوحة التي تجعل الدراسة إما منسرحة أو مختنقة، وتحاول البحث عن منهج، وبالتالي أظن أنني أحاول أو دربت نفسي طويلا ولا أعرف إن كنت قد نجحت جزئيا أن أجعل الشاعر نفسه، أو المجموعة الشعرية؛ أو القصيدة تلهمني المنهج.
أعود فأتساءل: لماذا القصيدة العربية حائرة بين النثر وبين تقليد الوزن دون إيقاع وزني؟ هناك مشكلة هوية في قصيدة النثر العربية. ولم تكن هذه الحال وليست هي كذلك الآن في الآداب الغربية. هذه المشكلة حلت وليست هناك عقدة نثر، هم يكتبون نثرا ويحاولون إعطاءه صفات شعرية. نحن نكتب النثر ونصر على أنه وزن ضمنا، حتى إذا كان يخلو من الإيقاع. ولذلك تصبح المنهجية في دراسة قصيدة النثر الغربية أسهل بكثير من دراسة قصيدة النثر العربية. ولسنا وحدنا في هذا المجال: قصيدة النثر اليابانية تفرض صعوبة ولكن ليس مثلنا، والقصيدة الصينية أيضا، هناك في اللغات الشرقية مشاكل تخص بني اللغة وهياكلها الصوتية.
• في خضم كل ذلك هل تعتقد أن المستقبل سيكشف عن شكل شعري جديد يخرج من عباءة قصيدة النثر؟
قصيدة النثر قصيدة مسقوفة، لأن شكلها لا يعتد بضوابط خارجية كالتفعيلة على سبيل المثال، قصيدة التفعيلة تعتد بالتفعيلة ويتسامى الشعراء أو يتفوق بعضهم على البعض الآخر فيمن يحسن تصميم تشكيل إيقاع لامع وباهر وجذاب أمام القارئ. قصيدة النثر في الواقع مسقوفة. والصراع الآن ليس حول الشكل. الآن صراع الأصوات في قصيدة النثر أشبه بالتباري على اللغة والمجاز، ومن يحسن الإتيان بعدد كبير جدا من الصور المميزة. الآن لا أظن موضوعيا أن قصيدة النثر ستستولد من داخلها شكلا آخر، لكن هي مضطرة أن تستولد تقنيات جديدة. وعلى سبيل المثال أمجد ناصر بعد أن شعر كما أظن أن الشكل المعتمد عليه أخذ يضيق بشعريته العالية والمتدفقة، مال إلى السرد. هو أولا مال إلى السطر أو ما يسمونه السطر المدور، الفقرة التامة وليست المقطعة، ثم مال إلى تضمين فقرة حكاية قصيرة أو خط سردي داخل القصيدة كما في مجموعة «حياة كسرد متقطع». وبالتالي هناك قلق شكل لدى شعراء قصيدة النثر، عند الشعراء الناضجين أقصد . عباس بيضون أيضا يبحث عن مخرج إذا صح التعبير لكي يكسر رتابة الشكل الذي صار في تقديري وهذا كلام كررته مرارا شكلا محافظا. في حين ينبغي لشكل قصيدة النثر أن يكون ثوريا وطليعيا. المفارقة أنه صار محافظا، بسبب أن هناك سقفا يحد تطورها. وبالتالي فإن الشعراء الذين يشعرون بالغيرة على الشكل وتحتل قصيدة النثر مكانة أثيرة لديهم؛ سيحاولون العثور على تقنيات مختلفة من داخل الشكل نفسه.
• سيف الرحبي في « نشيد الأعمى» نحى إلى ما يشبه الحوار المسرحي «مع الفارق»؟
صحيح، إلى حد كبير. إلى ماذا سيلجأون؟ سيحاولون المصالحة بين الأجناس، وسيحاولون إيجاد توليفة ذكية وبارعة بين أشكال التعبير الأدبي المختلفة، وربما يكون السرد الخفيف، وليس السرد الحكائي الواضح هو الأقرب إلى تمثيل روحية قصيدة النثر . الخط السردي ملائم أكثر لكن الخط الحواري موجود أيضا. محاولة العثور على مخرج تلاحظها مع الشاعر القلق على أدواته، والمخلص. الشعراء الذين لا يعنيهم الشكل يكتبون لا على التعيين ولم يعد يهمهم الوصول إلى قارئ، لكن الشاعر القلق على نفسه وعلى قرائه وعلى الشكل نفسه، أعتقد انه سوف يحاول الوصول إلى مخارج.
• قلت مرة أن العمل النقدي عمل معرفي، ألا يمكن أن يكون النص النقدي نصا إبداعيا؟
على كل حال أنا أميل دائما إلى تكرار موقفي من النقد. أظن أن النقد يقوم بوظيفة واحدة، وإذا قام بوظيفتين فخير وأبقى. الأولى اقتراح قراءة مختلفة على القارئ مثلها مثل عشرات القراءات أو ربما بعدد نسخ الكتاب المطبوع، لكن ما يميز هذه القراءة هو أنها يجب أن تكون مسلحة بأدوات منهجية وبوعي معرفي وتدريب قرائي يمكن أن يقدم للقراء اقتراحا جديرا بالتبصر. هذا الدور ليس بالقليل، وإذا نجح الناقد، فله يد بيضاء فيه. الجزء الثاني قد يفلح الناقد من خلال تلك القراءة عن عمد أو عن مصادفة في استنباط نظرية نقدية أو مبدأ نقدي ما، يصبح فيما بعد جديرا بالتطبيق على نصوص أخرى. أعطيك مثالا دائما ما أقتبسه: حين قرأ إليوت مسرحية هاملت تحدث عن المعادل الموضوعي دون أن يتقصد مسبقا الإتيان بنظرية نقدية متكاملة لكن تفصيلا ما داخل شخصية هاملت أوحى له بنظرية المعادل الموضوعي، فكتبها في ذلك المقال ثم فيما بعد تطورت وصارت تصلح للاستخدام كأداة في قراءة نصوص أخرى.
متى نعتقد أن النقد صار إبداعا؟ حين يكتب الناقد بلغة أدبية عالية، وبالتالي يصبح النقد تأملا إبداعيا وتأملا وجدانيا وتأملا انطباعيا أكثر مما هو تحليل نقدي. حينما تقرأ المغربي الراحل عبد الكبير الخطيبي، تجد رجلا يكتب نقدا ولكن لغته عالية ومشحونة وجدانيا، بحيث يمكن أن تكون هي في حد ذاتها نصا إبداعيا. والفرنسي رولان بارت لديه نصوص تحليلية جافة، لكن لديه نصوص ذهبية، لأنها وجدانية.
• من واقع نظرتك على المشهد النقدي في الوطن العربي، هل استطاع النقد أن يواكب الحراك الإبداع؟
في الحقيقة لدي رأي هنا. في زمن مضى في تاريخ الأدب العربي الحديث والمعاصر كان هناك نقاد نجوم، ناقد تركن إليه وتقرأه لأنك تعرف مصداقيته المنهجية والأكاديمية والذوقية على سبيل المثال شوقي ضيف حتى لا أضرب أمثلة أخرى، ذلك الزمن انحسر. الآن أفضل ما يمكن للنقد العربي أن ينجزه هو من خلال أعمال عدد من النقاد تتلاقح وتتلاقى دون أن تتحالف مباشرة، لتشكل إذا شئت مجموعة عمل غير متفق عليها وغير مباشرة لطرح دراسات نقدية جادة أمام القارئ العربي. أنا أميل إلى القول أنه إذا كان النقد العربي سيحقق الكثير، فهذا من خلال عمل جماعي وليس من خلال نقاد أفراد، هذا من ناحية ومن ناحية أخرى، لا نستطيع أن نتحدث عن نقد عربي بالمطلق. نقد الرواية أنشط من نقد الشعر، ونقد قصيدة التفعيلة أنشط من قصيدة النثر، ونقد الرواية المعاصرة التجريبية أقل وضوحا وجرأة وجسارة من نقد نجيب محفوظ على سبيل المثال. والدراسات النظرية ذات الطابع الأكاديمي أنشط من الدراسات ذات الطابع السجالي.. إلخ . لا نستطيع أن نتحدث عن مشهد متجانس، وبالتالي يجب أن ننظر لكل حالة على حدة، ونحاسب كل حالة على حدة.
• ما ردك على الخطاب الذي يرى أن النقد العربي يستخدم مناهج نقدية غربية، لا علاقة لها بروح النص الإبداعي العربي؟ هي واردة من الغرب وطبقت على النصوص العربية الإبداعية ولم تخرج منها؟
بصراحة هذا نقاش سامحني أقرب إلى الجدل البيزنطي، جرى افتعاله و تمريره لأسباب أيدلوجية لا تخص العمل الأدبي أو النشاط الإبداعي، وذلك كما حظر علينا استحضار الماركسية على اعتبار أنها فلسفة هجينة وكذلك الوجودية وبقية نظريات الغرب. نستورد الكمبيوتر بسهولة ونستورد المعلوماتية بسهولة ونستورد تكنولوجيا الإنتاج التلفزيوني، أما المعنى الفكري فممنوع أن نستورده. المسألة في نظري ليست قرارا ذاتيا. المسألة أنك لا تستطيع أن تقرر استيراد نظرية أدبية أو عدم استيرادها، هناك في التاريخ الإنساني، فترات يتصاعد فيها تيار معين ويهيمن لأسباب عديدة إما لسطوته، وجاذبيته، وصحته، أو لمجموعة عوامل مشتركة، وهذا التيار سيهيمن شئنا أم أبينا. الذين يقولون لا نستورده لأنه غربي يرتكبون حماقة، لكن أيضا الذين يستوردونه ويطبقونه حرفيا يرتكبون ربما حماقة أكبر. وهذا ما حدث مع البنيوية. نحن لم نقرأ البنيوية كما يجب، نحن تلقفناها تلقفا في الوقت الذي كانت هي مع أصحابها في حالة اضمحلال واندثار، وصلتنا شائهة ومُشوَِّهة ومشوِّهة. لكن هذا لا يعني أن البنيوية لم تكن مفيدة وليست مفيدة الآن إذا استطعنا أن نوظف بعض التفاصيل الصغيرة خاصة في الجوانب التحليلية التطبيقية التي تخص اللغة تحديدا. وإذا كان المشهد الآن يوحي أن الغرب مسيطر في النظرية الأدبية والفلسفية، فذلك لم يكن الحال دائما، فالغرب في فترة كما تعلم استورد منا، والحقيقة أنهم في الغرب لم يشعروا بالعار لأنهم قرأوا ابن رشد أو الفلسفة اليونانية بترجمتنا، بل ولم يشعروا بالعار لأنهم سرقوا كتبنا، وهم سرقوا كتبنا. أعتقد أن النقاش نقاش بيزنطي. ما يهمني في المنهج سواء هو قادم من الصين أو من البرازيل، هو هل يستطيع أن يعينني على قراءة النص وانصافه، وإذا كان يستطيع ذلك فهل استخدامه يعيق النص، هل يلحق الإجحاف بالنص، لأنه قادم من مدرسة غربية أو برازيلية. إذا كانت هذه الأسئلة تخدم النص فلن أتورع في استخدامه.
• قلت مرة أن محمود درويش هو الذي أعادك للنص بعد أن جذبتك الرواية عبر الماركسية. هل يستطيع الشعر بهذا المعنى أن يتبنى مواقف فكرية ويدعو إليها كما تفعل الرواية؟
الحقيقة كان سبب العرقلة لدي هو أنني كنت أعتقد مخطئا بطبيعة الحال أن الشعر هو ميدان الذات والتأمل والعزلة والفرد وأن الرواية هي فن الجموع وفن الملحمة وبالتالي فن التاريخ. والذي يريد أن يشتغل من خلال التاريخ وتغيير الواقع يجب أن يميل إلى الرواية أكثر. ولذلك انحزت إلى الرواية. كان ذلك في مرحلة مبكرة ربما كان تأثير جورج لوكاتش وكتابه « الرواية التاريخية» يعني هو الذي أرسى فكرة ليست خاطئة، ولكن الرجل لم يشأ أن يحولها إلى عقيدة جامدة، أرسى فكرة بسيطة مفادها أن الرواية ملحمة البرجوازية فلو أن البطل في الملحمة جزء من تكوين الآلهة، فهو الآن إنسان عادي. وفيما بعد، ردني شعر محمود درويش إلى فن الشعر وليس إلى الشعر السياسي، لعلي كنت أتذوق الشعر كثيرا، ولعل سبب الجفاء لم يكن غياب الشعراء الكبار، بل كان نوعا من العرقلة بين ذائقتي الشخصية وبين الشعر، وهذه المشكلة انحلت مع شعر درويش. ومن حسن حظي أن قصيدة درويش لم تقربني من السياسي في الشعر، بل قربتني إلى الفني في الشعر. البعض من الأصدقاء يعرف أنني لأول مرة تعرفت على درويش اصطدمت معه لأنني قلت له عبارة قاسية ولكن أشهد أنه تقبلها، واعترف بها، قلت له إنك ستكون شاعرا كبيرا عندما تنسى أنك شاعر مقاومة، أنت لست شاعر مقاومة أنت أكبر من شاعر المقاومة، وبالتالي إلى حد كبير لم يكن هناك تناقض بين انتقالي من الرواية باعتبارها فن التاريخ والجموع إلى الشعر باعتباره ليس فن الجموع والشعارات والخطابات بل هو فن الفنون، وأنا أعتقد أن الشعر هو أبو الفنون جمعاء.
بالعودة إلى محمود درويش هل تعتقد أن من أصدروا ديوانه الأخير قد ظلموه وربما تجنوا عليه ؟
ظلموه جدا. ألحقوا به ظلما، وليس ظلما بل ما حدث هو جريمة بحق محمود درويش. لكن يجب التفتيش عن دوافع الجريمة. أنا أقول إن الذين نشروا الديوان كان لكل منهم أهداف لكنها تصب في حب محمود درويش، على طريقة ومن الحب ما قتل، لكن سامحني لا أريد الخوض كثيرا في هذه المسألة لأن لها ذيولا وجدانية لدي. أنا في الواقع ألوم إلياس خوري لأنه هو الوحيد الذي كان ينبغي أن يتخذ موقفا نقديا صارما وأن لا يعطي تغطية لهؤلاء الأصدقاء الذين اندفعوا خلف حب محمود درويش، ونشروا قصائد غير كاملة. كان ينبغي على إلياس خوري أن يكون أوعى. وبصراحة عرض علي أن أحقق القصائد وأكتب مقدمة. وأنا لم أعتذر فقط بل حذرت شقيق الشاعر، أحمد درويش من مغبة نشر قصائد غير كاملة وهي مسودات، وليس من حق أحد أن ينشر مسودات، إلا حين تنشر وتوضع في متحفه وتنشر كما هي «فوتو كوبي». لا يحق لأحد أن يشتغل عليها، ما دامت هي مسودات، ولا دليل أن محمود درويش أخبر أحدا أن لديه ديوانا كاملا. كان ينبغي نشر القصائد التي ألقاها أو التي نشرها، أما القصائد التي عثر عليها في أدراجه فهي مسودات وكان ينبغي أن تبقى مسودات. لقد ارتكبوا في الواقع جريمة دون قصد، بل بالعكس، هم أرادوا تكريم درويش فارتكبوا هذه الجريمة وكانت محزنة للغاية.
• ألم تكن، وأنت من المقربين لدى درويش، بمثل هذا الديوان أو تلك القصائد؟
في الواقع لم يكن هناك ديوان، درويش حينما ذهب إلى أمريكا مر بباريس وتناولنا العشاء سوية وسافر في الصباح. كان ذلك آخر لقاء. وأنا أعرف تفاصيل كثيرة وأعتز بذلك، وأشعر بمسؤولية ثقيلة، لأنني كنت أقرأ مسودات درويش حينما تخرج من يده وليس قبل ذلك. ومحمود كان يخبرني بما يكتب. والحقيقة هم خُدعوا بوجود صفحات مبيضة ليس فيها شطب، وتناسوا أو هم لا يعرفون عادات محمود في الكتابة، كان إذا شطب فاصلة، لا يشطبها، بل يعيد كتابة الصفحة من جديد، الرجل يريد أن ينام والصفحة مبيضة وليس فيها شخبطة، وبالتالي لم يكن هناك ديوان، ولم يكن هناك مشروع ديوان كانت هناك قصائد، كان يكتب قصائد ولكن القصائد التي أفرج عنها وبالتالي رخصها ؛ هي القصائد التي قرأها في رام الله وفي مهرجان بجنوب فرنسا والقصائد التي نشرها في القدس العربي وفي جريدة الأيام فقط، وهذه لا تشكل ديوانا. وبالتالي كنت أعرف، وهم كذلك لم يكن أحد منهم يعرف أو سمع من درويش أن هناك ديوانا، هم افترضوا ان هناك ديوانا. أنا أنزه الجميع عن ارتكاب جرم مقصود، بالعكس هو نوع من المحبة ولكن هي جريمة في حق محمود درويش.
• هل هناك مفاجآت قادمة؟
من يجرؤ على نشرها وهي مسودات ؟
• كما نشر الديوان الأول
الذين ارتكبوا الجريمة شاهدوا بأم أعينهم النتائج الكارثية التي وقعت. فلن يجرؤ أحد على إعادة ذلك، وهم حصلوا على القصائد التي عثروا عليها. ذات يوم حينما يفتتح متحف لمحمود درويش قد تظهر مسودات أخرى. لكن قصائد أنا أقول لك كان محمود درويش يسابق الزمن وهو يكتب، لو كانت لديه نصوص كاملة لألقاها أو نشرها في تلك الفترة وبالتالي التفكير أو مجرد التفكير في إصدار ديوان آخر جريمة فوق الجريمة .ولكن هل ستظهر مسودات أخرى؟ ربما.
ما المآخذ التي وقفت عليها في الديوان؟
أنا لم أتدخل حتى بعد إصدار الديوان. ولم اقرأ الديوان وأنا أعرف قصائد محمود درويش والديوان كما صدر عن رياض الريس لم اقرأه على الإطلاق، وأنا لا أريد أن أقول أكثر من ذلك، سامحني، ولكن مرة أخرى الذين نشروا الديوان لم يكن في وسعهم أن يحققوا الديوان . هل تصحح لمحمود درويش؟ إذا وجدت زحافا أو كسرا عروضيا هل تصححه كما اقترح شعراء لبنانيون من باب العنترة؟ الحقيقة هذه مسودة لا بد أن تبقى كما هي. ومن المضحك المبكي ومن المحزن ان يصحح أحد لمحمود درويش. وليس محمود وحده بل أي شاعر يرحل كيف تصحح مسودته. هل يستطيع أحد أن يكمل لوحة لفنان تشكيلي رحل؟ شيء مضحك فعلا.
مشروع لم يكتمل
• هل تعتقد أن محمود درويش كمشروع شعري اكتمل؟
لا، للأسف الشديد لا، هو كان مشروعا مفتوحا وخاصة في السنوات العشر الأخيرة حين صار همه جسر الهوة بين قصيدة التفعيلة وشكل قصيدة النثر. هذا كان هاجسا كبيرا وهذا الهاجس لم يطور نزوعاته الإيقاعية فقط، ومهارته العالية، لكن طور لغته وطور علاقته بالمجاز. ومحمود كان يُسحر بالمجاز، المجاز الفاتن الذي يخلب لبّنا كقراء، وهو يطرب له كشاعر. في الفترات الأخيرة حاول الانعتاق قليلا من هذا الميل، بحيث أنه يجسر الهوة بين الشكلين بالتالي كان يحاول تخفيف حدة المعركة الزائفة التي تثار بين قصيدة النثر والتفعيلة وبالتالي كان في حالة ازدهار متتابع ومفتوح. وأنا أشعر بمرارة خاصة لأنه كان بصدد كتابة قصيدة طويلة جدا وملحمية وتاريخية والزمن لم يمهله فرصة.
• هل تحدث معك حول مشروع هذه القصيدة ؟
دع ذلك للتاريخ
ليس قلقا .. تلك طبخة بائتة
• يصاحبك قلق فيما يبدو حول إصدار مشروعاتك الكتابية. هل ثمة سر؟
أقول لك الحق، هو ليس قلقا، هو أقرب إلى إلحاح وإصرار من جانبي على بلوغ درجة أعلى من التكامل والاكتمال والتكميل إذا صح التعبير. يعني المسألة لدي فيها فلسفة متواضعة جدا، أنا مؤمن أن الكتاب يجب أن يولد ككتاب منذ الفكرة، يعني تجميع المقالات كما قلت هو اقتراح طبخة بائتة على القراء، لذلك لن ألجا إلى إعادة تجميع مقالات في كتاب قبل أن أنشر الكتب التي أشتغل عليها بصفة كتاب وأنا اِشتغل منذ سنوات. أنا لست غائبا، أنا أتناول المشهد العربي والأدبي، وأنا أكتب في النقد والسياسة، وأترجم ولأنني لست غائبا فأنا لا أعتبر أنني متخل عن مسؤوليتي، أنا أتولى مسؤوليتي، ولكن تلك مسؤولية أخرى، ولأني لست غائبا وأتولى مسؤولياتي فلا أشعر بأي ضغط لإصدار أي كتاب قبل أن أقتنع به تماما. وبصراحة هي مسألة فيها نوع من المعاندة الذاتية بيني وبين نفسي. والحمد لله علاقتي مع القارئ العربي حيوية ويختلف معي وأختلف معه، ولا بد أن تصدر الكتب ذات يوم.
منفي .. لكن لم ينفني نظام
• منذ سنوات وأنت تعيش في باريس .. هل أنت منفي أم مغترب، أم مهاجر؟
إذا شئت بالمعنى العملي أنا منفي. ولكن لم ينفني نظام. عملت في الحياة السرية أربع سنوات ثم اضطررت للخروج عام 1986 لأنني صرت عبئا على أهلي ووالدتي وأشقائي وصرت عبئا على رفاقي أيضا، وكان الحل المنطقي أن أخرج من الوطن. فإن شئت فهذا نفي ذاتي ولكن لم يكن من باب التمتع بالغرب أو الضيق بالمكان الوطني، والحقيقة أقول لك التأشيرة الوحيدة التي توفرت لي في ذلك الوقت هي التأشيرة الفرنسية. هو بهذا المعنى منفى ذاتي وليس ذلك لأسباب ذاتية. مغترب؟ لست مغتربا فأنا على صلة بالوطن العربي وبوطني وأسعى أن أبقى متواصلا تماما، وربما إذا كنت أصبحت ديمقراطيا بشكل متقدم فالفضل لفرنسا، فقد كنت ستالينيا. لكن أنا أسير في باريس كالغريب ولا أشعر بالضيق ولا أشعر بالعذابات، ولا أشعر أنني أتعذب في المنفى، ما عدا الحنين إلى الوطن. الوالدة توفيت وأنا في باريس ولم أودعها، وكنت أذهب للقائها في عمّان وتركيا وأماكن أخرى.
• هل هناك أفق للعودة ؟
أنا سأعود، بمعنى الأمل والإصرار على العودة، فسأعود لا شك. العوائق التي تمنع عودتي ليست مخلدة. الأمل لدي قائم، وأكثر من ذلك، لدي العزيمة.
أشد وطأة
• بعد أحداث 11 سبتمبر هل بات المنفى قاسيا أكثر من ذي قبل؟
في الحقيقة صار المنفى أكثر وطأة لأسباب تقنية، ونفسية، وثقافية؛ لأن الإجراءات الأمنية معقدة ونظرة المضيفين لك في المنافي صارت أكثر ريبة. صار هناك إرهاب ضد الإسلام، وهذا من جهة الآخرين، ومن جهة الذات صار هناك نوع من التوجس الداخلي، صار المنفي يشعر أنه غريب أكثر من ذي قبل، ومتربص به وصار ربما يشعر بعقدة ذنب، وصار يعمل على تأثيم ذاتي. بعد 11 سبتمبر تولدت سلسلة من التشوهات صنعها البلد المضيف، مثل ما صنعها المهاجر. لكن في العموم لا شك أنه إلى جانب حكاية ازدياد وطأة المنفى هناك إجراءات عنصرية، وهنالك في الغرب يقظة صليبية، ولست مضطرا لأن تكون إسلاميا أو علمانيا أو ملحدا أو مؤمنا لكي تشعر أن الرهاب من الإسلام مسألة ثقافية أكثر منها دينية، هناك احساس بالخطر الإسلامي لدى المجتمعات المسيحية.
• قرأت مقالا لكاتب سوري يتهمك فيه انك تكتب تقارير ضد الشاعر أدونيس وترفعها إلى لجنة نوبل. هل أنت على خلاف كبير مع أدونيس؟
(يضحك) والله لم اقرأ من قال هذا الكلام، وهو مضحك كثيرا، أولا نوبل لا تسمع مني أو سواي حينما تمنح أو تحجب. وأنا يشهد الله لم اكتب تقريرا في أحد، ولدي حساسية مفرطة من كتاب التقارير، أيا كانوا. ليس بيني وبينه أي خلاف إلا الخلاف السياسي. أنا اعتبر أنه كمواطن سوري تخلى ولا يزال يتخلى عن واجباته حينما يقتضي منه الأمر، حينما يتعلق الأمر بقضايا الحرية والديمقراطية. وأختلف معه فكريا في مسائل تخص تأويلاته في حال الثقافة العربية، وحول بعض تنظيراته في الشعر. ولكن نحن صديقان ونلتقي دائما وإذا شاهد أحدنا الآخر لا يشيح بوجه، ولا أظنه يصدق إن قيل له أنني أكتب عنه تقارير. وأنا قلت وأقول إنني سأفرح إذا فاز بنوبل، وهو يستحقها. لكن لو تسألني مخيرا بين أدونيس وسعدي يوسف سأقول أن شعرية سعدي يوسف أفضل، وإن موقفه إنساني تجاه قضايا الإنسان والحرية والوجود أعمق بكثير وفيه مسؤولية أكبر، وهو يستحقها أكثر بكثير من عدد كبير ممن حصلوا عليها.
لا يستحق نوبل
• ألا يستحقها حنا مينة؟
لا. لا يستحقها. هو روائي ضمن حساب معين، هو كاريكاتور الواقعية الاشتراكية أو الواقعية الطبيعية ومع احترامي له أقول بكل صدق أنه لا يستحقها، وهو ابن بلدي ومع احترامي لتاريخه، حتى عندما سألتني قبل قليل رشحت بهاء طاهر.
• أسألك هذا السؤال وقد دار بيني وبينه حديثا قال فيه إنه يستحق نوبل أكثر من نجيب محفوظ؟
هذه وجهة نظره. ولا أظن انه يستحقها قبل نجيب محفوظ ولا عبد الرحمن منيف وروائيين عرب آخرين. المسألة ليست تاريخا في الكتابة أو أسلوبا معينا، الحقيقة حنا مينة من وجهة نظري لن يكون يوما على لائحة نوبل. وهذه ليست شتيمة في حقه.
هل تتابع المشهد الشعري في عمان؟
والله بما وسعني أبذل وأسعى لمتابعة المشهد العربي في كل مكان وأتابع عُمان، لكن المشكلة في عمان إذا لم تُنشر المجموعة في بيروت أو القاهرة أو يرسلها لي الصديق، يتعذر علي قراءتها وبالتالي يتعذر علي استكمال المشهد. أقول بصراحة إنني أعرف المشهد الشعري العماني بنسبة 60% فيما يخص الشعراء. أما فيما يخص الشاعرات فأنا حائر جدا لأن المشهد أمامي غائم ولا أعرف الكثير. طلب مني منذ فترة أن أرشح شاعرة عمانية حيث هناك مشروع أنطولوجي عن الشعر النسائي العربي سوف يترجم إلى الانجليزية في دار نشر عريقة جدا طلب مني اقتراح ورشحت ولكني تعثرت في ترشيح شاعرة من عمان واحترت بين ثلاث شاعرات.
من هن؟
لا، بدون ذكر أسماء. وأنا لا أعتبر سيف الرحبي شاعرا عمانيا ولا قاسم حداد شاعرا بحرينيا، هؤلاء ينتمون إلى حركة الشعر العربي. هم جزء إن شئت من الحركة العامة للشعر العربي. سيف شاعر عماني وأساسي كما تعلم، لكن أنا لا أحتسبه في الواقع على انفرادات الشعر العماني ولكن على انفرادات الشعر العربي المعاصر، وكذلك أمجد ناصر أنا لا اعتبره ضمن انفرادات المشهد الأردني.
http://main.omandaily.om/node/32188
تعليق واحد