لا نهاية قريبة لموجات الهجرة
جميل مطر *
ظاهرتان تلازمتا منذ ثلاثة عقود على الأقل. ظاهرة الخوف من الإسلام وليس بالضرورة العداء له، وظاهرة التصدي المتصاعد من جانب معظم حكومات العالم للهجرة الوافدة. لم يحدث أن تلازمت الظاهرتان من قبل ولم يحدث، بحسب ظني، أنه تمت مواجهتهما في أي وقت مضى بمثل هذه الدرجة من التشدد.
لم يعد يصدمني الصعود المفاجئ أو المتدرج لشخصيات وحركات يمينية متطرفة في أي مكان من العالم. فاز غيرت ويلدرز في هولندا وهو الآن طرف في حلف حاكم مقابل شروط لو حصل عليها لتغير في هولندا وغرب أوروبا الكثير. اشترط قيوداً على الهجرة أقسى وأشد من المعمول بها حالياً، وكان قد سبقه إلى هذا نيكولا ساركوزي في فرنسا منذ أن كان وزيراً للداخلية في حكومة جاك شيراك، وربما أوصلته حماسته لفرض هذه القيود إلى منصب رئاسة الجمهورية. واشترط ويلدرز تحريم النقاب وهو شرط له شعبية كبيرة في معظم أنحاء أوروبا، وفرض ضريبة على ارتداء الحجاب وجوازات للمهاجرين الجدد من نوع خاص وشكل متفرد، وهما الشرطان الأقرب إلى روح العنصرية الجديدة الزاحفة، ثم اشترط الشرط المستحيل، وإن كانت هناك في فرنسا وألمانيا قلة تطالب به، وهو التهجير الجماعي للمسلمين.
وفي النمسا، وتحديداً في عاصمتها، تقدم حزب الحرية اليميني بزعامة هاينز كريستيان شتراسي، خليفة يورغ هايدر، في انتخابات العاصمة وحصل على ضعف الأصوات التي حصل عليها الحزب في انتخابات سابقة (27 في المئة من أصوات الناخبين). ولا تبتعد شروط شتراسي كثيراً عن شروط ويلدرز في هولندا. إذ يطالب بتشريع يحرم بناء المآذن، مع العلم أن فيينا لا يوجد بها سوى مئذنة واحدة. كذلك يطالب شتراسي بوضع تشريعات تضمن أن يكون الدم الذي يجري في عروق فيينا نمسوياً نقياً.
يصف سلوفاغ زيزيك الكاتب في جريدة «الغارديان» البريطانية ويلدرز وأمثاله بأنهم جزء من ميل عام في أوساط بعض النخب إلى أن يقوم الوسط السياسي في كل القارة على «فاشية جديدة شعبوية». وأظن أن زيزيك لم يبتعد كثيراً من الحقيقة بل لعله يجد ما يؤكدها في التطورات الخطيرة الجارية في الولايات المتحدة. هناك تزحف الآن جموع ما يسمى بحركة «حفل الشاي» من اليمين نحو الوسط في خطة واضحة لتغيير معالم الوسط الأميركي، مستفيدة من الانفعالات المصاحبة لحملة إصدار تشريعات جديدة ضد المهاجرين غير الشرعيين القادمين من المكسيك وأميركا الوسطى، وبعد أن ساد بين الإحصائيين وعلماء السكان الاقتناع بأن المتحدثين بالإسبانية في الولايات المتحدة يوشكون أن يصبحوا أغلبية مع اقتراب منتصف القرن.
قد لا تختلف كثيراً الأساليب العنيفة التي تتعامل بها حكومات بعض الولايات في أميركا مع المهاجرين غير الشرعيين عن الأساليب التي تتعامل بها حكومات محلية في الصين مع المهاجرين الأفارقة مثلاً. تحدثت تقارير صحافية صادرة من مدينة جوانشو في جنوب الصين عن معاناة مئات الآلاف من المهاجرين أو الزائرين القادمين من بوركينا فاسو والصومال وساحل العاج والنمسا وتانزانيا وأنغولا وجنوب إفريقيا ونيجيريا. هؤلاء تقابلهم لافتات على واجهات المحال التجارية الكبرى ترحب بهم وفي الوقت نفسه تطالبهم بأن يحملوا في أيديهم جوازات سفرهم، فالشرطة جاهزة في أي لحظة لمراجعة الجوازات واعتقال من تجاوز مدة الإقامة ومن لا يعمل بإذن. يقول مهاجرون إن الشرطة الصينية تفاجئهم في مساكنهم والمطاعم وفي دور السينما وتتعقبهم في الطرقات. وتشير نشرة وكالة «شينهوا» الصينية للأنباء إلى أن عدد الأفارقة في الصين وصل إلى المليون، منهم أكثر من 300 ألف من جنوب أفريقيا، ويعملون في كل المهن والحرف في مجتمعات حضرية تعاني من بطالة شديدة. يقابل هذا العدد من الأفارقة المهاجرين الى الصين مليون من الصينيين يعيشون في أفريقيا. كتب صحافيون أوروبيون وأفارقة منتقدين الصين ومنهم من قال: لا يكفي أن الصين أغرقت أسواق أفريقيا بمنتجات رخيصة الثمن بل بعثت بمواطنيها يشغلون الوظائف القليلة المتاحة. هكذا يردد أفارقة مناهضون لهجرة الأجانب إلى أفريقيا، بينما شعوب أفريقيا تتصدر قائمة الشعوب المهاجرة إلى دول أخرى.
لم تكن الحدود قضية بالنسبة الى القبائل والشعوب الأفريقية المتنقلة حتى وصل المستعمر الأوروبي. فقد بدأ استعماره برسم الحدود السياسية بما يخدم أغراضه وفرض مفاهيم مثل السيادة فتحولت الهجرة من عملية تساهم في تحقيق التوازن البشري والاقتصادي في مجتمعات بسيطة إلى مغامرة ومخاطرة، وفي معظم الأحيان صار ينظر إليها كعمل عدائي يخلق بين الشعوب حزازات وحساسيات. في كينيا مثلاً يقيم أكثر من 100 ألف شخص من أصول نوبية نقلهم الإنكليز خلال القرن التاسع عشر ليحاربوا عنهم في معاركهم الاستعمارية ضد قبائل معادية للاستعمار في شرق أفريقيا. ما زال هؤلاء السكان في نظر أهل كينيا مغتربين على رغم وجودهم فيها لما يزيد عن مئة عام، وترفض حكومة نيروبي منحهم الجنسية وبالتالي يعيش أغلبهم عاطلين من العمل وكثير منهم يمارسون الإجرام والعنف والرذيلة. هؤلاء الأفارقة هم نوع من المهاجرين الذين لا يحملون جنسية أي دولة، مثلهم مثل 250 الفاً من مسلمي بورما يعيشون في بنغلادش بعد أن هربوا من قمع سلطات رانغون. وفي سورية يقيم أكثر من 300 ألف كردي لا يحملون الجنسية السورية، وفي الدومينيكان يدخل سنوياً من هايتي ما يقارب 200 الف منذ أن وقع الزلزال الذي أصابها بالدمار، ويقول المهاجرون من هايتي إنهم يتعرضون لجرائم عنصرية استناداً إلى أنهم سود البشرة وبالتالي يسهل على الشرطة تمييزهم بين السكان، ويذكرون نقلاً من سير المهاجرين القدامى المذبحة التي دبرها لهم الديكتاتور الأسبق رافائيل تروخيو في عام 1937. بينما يقول مسؤولون في سانتو دومينغو إن المقيمين في شكل غير شرعي من المهاجرين يسرقون وظائف بين ما يسرقون من ممتلكات.
هؤلاء «البدون» كما يطلق عليهم في بعض الدول العربية هم سكان غير منتمين إلى جنسية دولة تحميهم أو ترعى مصالحهم، وأغلبهم يعانون من مشكلات يتسبب فيها وجودهم على هذا النحو من دون وثائق أو أوراق رسمية. هم موجودون أيضاً في أوروبا وأصبحوا في الآونة الأخيرة يتصدرون الأنباء. أكثر من 22 مليون فرد يطلق عليهم تجاوزاً الغجر، أو الروما، ينتشرون في القارة الأوروبية، من أقصى شرقها إلى إرلندا غرباً. كانوا نسياً منسياً أو في أحسن الأحوال قضية فرعية داخلية في البلدان الأوروبية. الآن وبعد تقدم حركة الاندماج في ظل الاتحاد الأوروبي وتعدد التشريعات الحقوقية يطرح هؤلاء الغجر على الأوروبيين كافة سؤالاً بالغ الأهمية: لماذا تتقدم كل الأجناس والطوائف في أوروبا ما عدا الغجر؟ يقول المتعاطفون معهم، إن الإجابة عن هذا السؤال لا يمكن أن تخرج عن أن ميولاً عنصرية ما زالت تتحكم في سلوكيات حكومات أوروبا ونخبها السياسية، هذه الميول هي التي سمحت بداية بتهميش الغجر في المجتمعات التي يعيشون فيها. يقولون أيضاً إن الانحياز ضد الغجر هو الدليل الحي على أن الفكر الذي صاغ الحركة النازية وأخرجها إلى الوجود ما زال يعيش متجدداً في الثقافة السياسية الأوروبية. غير معقول أن أقلية أخرى، وهم اليهود، بأعداد أقل كثيراً من أعداد الغجر، تنجح في الانتقام وبقسوة مروعة أحياناً لما وقع عليها من ظلم خلال الحكم النازي وتتجاوزه لتصبح قوة سياسية واقتصادية لها شأنها في العالم، بينما يبقى الغجر مهمشين ومضطهدين لا تدافع عن حقوقهم المنظمات الدولية وجمعيات حقوق الإنسان ووزارات الخارجية التي تنتفض دفاعاً عن أي فرد من أبناء اليهود تخدش أسماعه إساءة لفظية، حتى إن كان هو نفسه مستعمراً لأرض لا يملكها ولا يستحقها أو قاتلاً بدم بارد لمواطنين من فلسطين أو غيرها أو عنصرياً فاشياً في بلده إسرائيل.
عالم جديد يتشكل وفي صدارة اهتماماته ومشكلاته قضية الهجرة. ولا شك في أن للعولمة دوراً كبيراً. جاءت العولمة لتزيد المشكلة حدة وحساسية حين ألقت ضوءاً قوياً على مسألة «النظرة إلى الآخر»، وأبرزت مخاطر اتساع الفجوة بين الأغنياء والفقراء داخل البلد الواحد وبين بلد وبلد آخر، وحذفت من الخريطة الأيديولوجية العقيدة الشيوعية باعتبارها العدو الذي تهون في وجوده عداوات أخرى يتأكد الآن أنها ليست أقل خطراً من الشيوعية، منها صراعات الأديان والطوائف وصحوة نزعات الانفصال وانحسار التسامح لمصلحة التشدد والتطرف والكراهية بين الشعوب. وفي كل مكان وبخاصة في دول الغرب خرجت مصالح وقوى تستفز المشاعر والولاءات الأولية وتزيد نيران العنف اشتعالاً بدعوى الخوف من زحف إسلامي ولاتيني وأفريقي على معاقل الرجل الأبيض.
في الماضي انتصرت الهجرات على رغم صعوبات هائلة، ولا أعتقد أن قوارب مهاجرين تغرق في البحار والمحيطات، وطلقات رصاص تقتل مهاجرين عابرين للحدود بين مصر وإسرائيل وبين المكسيك والولايات المتحدة، ومعسكرات تقام لاحتواء الغجر حفاظاً على جمال إيطاليا وفرنسا ونظافتهما والتهديد بإقامة مثيلاتها للعرب والمسلمين، وصفقات تعقد مع الدول العربية في شمال أفريقيا لمنع المهاجرين الأفارقة من النزول إلى البحر، وإغلاق الحدود في وجه مهاجرين ببشرة أو عقيدة أو لغة مختلفة، هذه وغيرها من الإجراءات والتشريعات لن تمثل عقبات كافية لوقف الهجرة أو ردع المهاجرين طالما ظلت الفجوات بين الثراء والفقر واسعة.
* كاتب مصري
الحياة