صفحات مختارة

الفوضويون الجدد يقرعون أبواب الألفية الثالثة: من الاحتجاج في الشارع الى احتلال ذاكرة المدينة

جهاد الترك
الفوضوية تقرع أبواب الألفية الثالثة. والأرجح أنها راحت تلملم شتاتها وتستجمع قواها المبعثرة منذ مطلع التسعينات الماضية. كانت تترقب الذريعة المناسبة لتنتقل من الظلّ الى العلن. من الصمت الى الصخب. كما دأبت على ذلك منذ منتصف القرن التاسع عشر. ولعلها لم تهدأ منذ ذلك التاريخ. ولم تستكن حتى في أحلك الظروف التي داهمت العالم خلال القرن العشرين. وقد تحوّلت أثناء ولادة ما يسمّى العولمة التي نهضت من تحت غبار الحرب الباردة، شريكاً حقيقياً في صنع السياسة. يشهد على ذلك مجتمعات الغرب الصناعية، وبنسبة أقل مجتمعات أخرى متفرقة تستيقظ على وقع الصدمة والهزيمة ثم تغفو ثم تفيق من جديد. ومع ذلك، يشتدّ عودها رغم المعوقات التي تلقى في طريقها على نحو يشبه الألغام الموقوتة. ولا يستثنى الوطن العربي من هذه الظاهرة التي باتت تدغدغ من قريب أو بعيد أحلام الأجيال الفتية من خارج المؤسسات السياسية المتكلسة. في الغرب الصناعي، ثمة هامش أوسع متاح لهذه الفوضوية الجديدة. وكأن أصحابها على موعد مع أقدار أخرى باتت تباشيرها تلوح في الأفق السياسي والفكري والإنساني الضيق. ولم يعد مستغرباً أن تتصدّر واجهات المكتبات في الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وألمانيا وروسيا وسائر أوروبا واليابان وبعض أميركا الجنوبية وسواها، مؤلفات هامة ترى في هذه الظاهرة خلاصاً محدوداً لإنسانية مختنقة. لم يجد كتاب هذه الإصدارات تعبيراً أفضل من الفوضوية دلالة على التلقائية التي تخيّم على هذا التيار العريض. وقد أخذ ينتشر كالنار في الهشيم على مرأى من السلطات التي باتت تسلّم بصدقيته وجدواه وإن بدت مصرّة على الإمساك بحركته ومراقبته على مدار الساعة. مفكرون كثر انبروا الى دراسة هذه الظاهرة التي راحت تكبر ككرة الثلج في صقيع تلك المجتمعات الآيلة الى الخوف من كل شيء تقريباً. من الإرهاب ولها اليد الطولى في تصنيع مكوّناته ومن ثم زرعه وحشاً من حقيقة أو من وهم في الذاكرة الحديثة للبشرية. من الاختلالات المالية العنيفة المفاجئة أو المفبركة التي تضرب الأسواق العالمية فتحيلها حطاماً في ساعات قليلة. من التقلّبات المناخية العائدة الى مزاج كوني بات توقعه أمراً متعذراً. والأخطر من هذه جميعاً أن الفردية الطاغية على النسيج الاجتماعي هناك، لم تعد سلوكاً مرده الى الإحساس العميق بخيار الاستقلالية والحرية. والأرجح أنها أصبحت تعبيراً عن نزوع الفرد الى الاستسلام القسري لضرب من القلق المغلق على ذاته.
ولعلّ هؤلاء الكتّاب، وجلّهم من ذوي السمعة الفكرية والفلسفية الراجحة، قد توافقوا، على نحو غير مقصود، على أن يصنّفوا هذا التيار في خانة الفوضوية. وفي أذهانهم ذلك الإرث التاريخي من الحركات الفوضوية التي عمّت المجتمعات الغربية منذ الأزمات الاجتماعية الأولى للرأسمالية الصناعية في القرن التاسع عشر. كان فوضويو تلك السنوات يخترقون الواقع الاجتماعي السياسي السائد لدى اصطدام هذا الأخير بأي محاولة لتغيير المعادلة لمصلحة الطبقات المتوسطة والفقيرة. هكذا حصل مع الماركسيين الأوائل في روسيا القيصرية وفي بلدان أوروبية أخرى. ثم تكرر المشهد في الولايات المتحدة أثناء الإضراب الشهير الذي نفّذه العمال مطلع العقد الثاني من القرن العشرين وانتهى بمجزرة مروعة ارتكبتها بحماقة أجهزة الشرطة البلهاء. مشهدان فاقعان من أمثلة لا تحصى كان للفوضويين فيها الأثر الأكبر في إلقاء أحجار ثقيلة في مياه المستنقعات الاجتماعية الراكدة. وقد تعاظمت هذه الحركات في خضم الحربين العالميتين وقبلهما وبعدهما. ثم اتخذت مساراً سياسياً أكثر اقتراباً من المنحى الإنساني العام أثناء الحرب الباردة والتلويح المتعاقب باستخدام الأسلحة الذرية. وبلغت ذروتها مع تحوّل العولمة، بمؤسساتها الرقابية الصارمة، نظاماً كونياً يعيد إنتاج مصير البشرية على إيقاع الهيمنة الآتية من الشركات العملاقة متعددة الجنسية.
شكّلت حركات الاحتجاج الشعبية العارمة في الولايات المتحدة وأوروبا وبعض العواصم الآسيوية الصناعية الأخرى، عودة مظفّرة، إذا جاز التعبير، لشرائح مختلفة، متفرقة ومتباعدة للفوضويين الجدد. ومع إسدال الستارة على الفصل الأخير من الحرب الباردة وخروج مارد العولمة من قمقمه الرأسمالي في نسخته الأحدث، خرج على نحو متزامن الفوضويون من قمقم لم يعد يتلاءم مع أحلام وطموحات وهواجس هي صنيعة هذا الزمن الغامض. الى هؤلاء بالتحديد تشير هذه المؤلفات باعتبارهم أنماطاً من الجماعات المشتتة في الأساس. وجدت في “استتباب” مشروع العولمة أرضية صلبة يمكن الانطلاق منها من أجل إزالة القناع عما يعتبرونه وجهاً قبيحاً. والأغلب أن استشرافهم الأخطار الناجمة عن هذا النظام الكوني المحكم، حملهم على إدراجه في خانة “الإرهاب” المنظم الأكثر خطورة على الإنسانية في الألفية الثالثة. تناقش الإصدارات الواردة أدناه الفضاءات الفكرية والفلسفية والسياسية التي تنطوي عليها الفوضوية الجديدة. وتتطرق كذلك، الى الأسباب الموضوعية التي أطلقت أسراب هذه الجماعات من “أوكارها” وهي تسعى الى البحث عن منافذ محتملة لأزمات الإنسان المعاصر. من بينها: أن الأنظمة الرأسمالية المتطورة في الغرب باتت تفرض على مجتمعاتها نمطاً من الحصار الذي يتوارى، في العادة، خلف القوانين. ثم يتخذ من النموذج الديموقراطي ذريعة تزعم السلطة السياسية أنها منزهة من الشبهات لأنها توفر للمواطنين فرصة تاريخية من الحريات الفردية والفكرية والثقافية. والأرجح أن هذه الذريعة، وإن بدت من الحقائق المسلّم بها في الغرب، غير أنها لم تعد تنطلي على جماعات الفوضوية الجديدة. يرى هؤلاء أن المعادلة الديموقراطية لم تعد قادرة وحدها على التصدي لمشكلات معقّدة تتجاوز، بطبيعتها، ما يسمّى دولة الرفاه الاجتماعي. ثمة حاجة أعمق، في نظر هؤلاء، الى مناقشة مستفيضة، والأغلب جذرية، لقضايا تتعلق مباشرة بالأدوار التي تحتكرها الدولة لنفسها. تفترض هذه الجماعات، على سبيل المثال، أن منظومة الحريات المكتسبة أصبحت استجابة أحدية لاستقرار النظام السياسي اكثر منه تلبية للإطمئنان الداخلي الذي يزعم هؤلاء أنهم يفتقرون إليه. تستدلّ المؤلفات المشار إليها على ذلك بالقول إن شهر العسل الديموقراطي بين السلطة والشارع سرعان ما ينقلب جحيماً مستعراً عندما تتهافت الأجهزة الأمنية على قمع المتظاهرين. في هذه اللحظة بالتحديد تنكفئ الدولة الى غريزة القسوة دفاعاً عن وجودها “المقدس” وحماية لمصالحها الاستراتيجية. بالمثل، ينكفئ المتظاهرون الى غريزة التشبّث بحرياتهم الفردية. غريزتان تصطدمان بشراسة. كل منهما يقاتل “ببسالة” حتى الرمق الأخير من أجل أن يحقق انتصاراً آنياً أو طويل الأمد. في ذروة الاحتدام هذه بين الفريقين، يميل مؤلفو هذه الإصدارات الى الاعتقاد بأن الطرفين يخسران. أو أن أحدهما يعجز عن تسجيل نقاط حاسمة في مرمى الآخر. ومع ذلك، ثمة أرجحية في ميزان الفوز والهزيمة. يتقدم الفوضويون قليلاً رغم تراجعهم القسري أمام “خصم” مدجّج بالسلاح والسلطة. يتقهقر الفريق الثاني قليلاً رغم قيامه بإشباع غريزته المتعطشة الى الاحتكام للقوة.
يرى أصحاب هذه المؤلفات أن الأسباب المباشرة التي يُظن أنها أشعلت فتيل “الفوضوية الجديدة”، لا تعلل وحدها، على الأرجح، تعاظم هذه الظاهرة. صحيح أن الانتهاكات الخطيرة التي تنسب الى العولمة والإمعان في تدمير الطبيعة وتشويه المناخ العالمي وسواها، تستقطب الشرائح الكبرى من هؤلاء. غير أن ثمة حوافز أخرى تضاف الى هذه الأسباب أو تتخفى وراءها أو تتقدمها على الأغلب. ولعلّ هذه الحوافز هي عينها التي تضفي على النزعة الاحتجاجية والانتقادية المتشددة لدى هؤلاء مضموناً إنسانياً ذا قيمة حقيقية. تتطرق الإصدارات الى عدد من هذه الحوافز وتصنّفها في دائرة المثل والمبادئ الفلسفية والأخلاقية والسياسية. ولا تدرجها إطلاقها في خانة الإيديولوجيات المتزمتة أو المنغلقة على ذاتها. من بينها: الرغبة العارمة في إعادة قراءة موقع الإنسان في مرحلة ما بعد الرأسمالية التقليدية. الحاجة الملحّة الى استشراف متجدّد لطبيعة الفكر الإنساني في زمن ما بعد الحداثة. الدعوة الى إعادة الاعتبار الى القيم الديموقراطية وحرية التعبير بعيداً عن المؤسسات الإعلامية الضخمة التي أصبحت قادرة على تصنيع الرأي العام وفقاً لشروط الاستهلاك. الترويج لثقافة سياسية اجتماعية منفتحة على طموحات الفرد في عالم يسوده الخوف الدائم على المصير. ولعلّ أكثر هذه الحوافز دلالة لدى هؤلاء طمأنة الفرد الى أنه لن يتحوّل رقماً سهلاً في المعادلة التي تجمع بالضرورة بين الدولة والنسيج الاجتماعي. الدولة كيان منفتح على ذاته بالدرجة الأولى. الفرد كيان منفتح على تجلياته الإنسانية في عالم بات مهدداً على الدوام. الكيانان ينفتح أحدهما على الآخر. وينغلق أحدهما على الآخر. في هذه الحالة الأخيرة ينفتح الطرفان على اشتباك محتوم على الأغلب. يبدو فيه الفوضويون الجدد الأكثر جرأة على خوض هذا الصراع الذي يستنزف كليهما معاً.

ليست كثيرة ومتشعّبة هي المؤلفات التي تقترب من هذه الظاهرة. ومع ذلك، فهي تنطوي على عمق ملحوظ في محاولتها تحليل الأسباب التي أدت، في رأي أصحابها، الى تفاقم هذه الحركة منذ مطلع التسعينات الماضية. ولعلّ هذا التيار الشعبي العريض الذي غزا القارتين الأوروبية والأميركية وسائر أنحاء العالم، قد تسلّل الى واجهة الحدث في لحظة تاريخية بامتياز. جاء ذلك في أعقاب تفكك الاتحاد السوفياتي وانتقال الولايات المتحدة الى عصر الإمبراطورية. هكذا خيّل إليها بعد أن خلت الساحة الدولية من منافس يستحوذ على الجبروت المالي والعسكري. وقد شكّل هذا الاختلال في موازين القوى إيعازاً قوياً، على الأرجح، لجماعات الفوضويين، بفئاتهم المختلفة، من أجل أن يتقدموا بسرعة لملء فراغ ذي طبيعة شعبية، على الأقل. من بين الإصدارات الأكثر أهمية، على هذا الصعيد كتاب للمفكرة الأميركية البارزة، سيندي ميشتاين، بعنوان “الفوضوية وتطلعاتها” الصادر عن منشورات “اي.كاي”، 2010. تكمن الميزة الأساسية لهذه الدراسة الرصينة، في سعي الكاتبة الى التوغل الموضوعي في البنية الفكرية والفلسفية لهذه الجماعات. وقد أخذت تكوّن مرتكزاتها على وقع ما تعتبره تدهوراً مريعاً في أحوال الإنسان أثناء السنوات القليلة الأولى من الألفية الثالثة. تميل المؤلفة الى الاعتقاد بغلبة النزعة الديموقراطية لدى الفوضويين الجدد، ولكن على نحو غير تقليدي. إذ يربط هؤلاء ربطاً محكماً بين الحرية، في شكلها الديموقراطي المتداول، وبين القدرة على التوصل الى التغيير المنشود. لا تغير من دون مناخ منفتح للديموقراطية على الاحتمالات المختلفة للارتقاء الإنساني في العصر الحديث. وفي الوقت عينه، لا ديموقراطية حقيقية وفاعلة إذا افتقرت الى التغيير في احتمالاته التي ينبغي كشفها وتوظيفها واستثمارها. لا تبرئ المؤلفة هذه الجماعات والشرائح والشراذم، إذا جاز التعبير، مما كانوا اتهموا به منذ القرن التاسع عشر، والمقصود بذلك، إحجامهم عن تقبّل السلطة في هيئاتها المختلفة. من بينها على وجه التحديد، مؤسسة الدولة التي تمكنت في الزمن الحالي من تحقيق كيان فولاذي تتعذّر خلخلته. حالمون هؤلاء الذين يذهبون بتفكيرهم الى المناطق المحرّمة في العقل البشري. يتوقون، بطبيعة تكوينهم الفلسفي الى مجتمع يوتوبي، على الأغلب، تزول فيه الهرمية المبتذلة. وتنسحب فيه الرأسمالية الى مثواها الأخير. الى حيث لا تعود خياراً إنسانياً إلزامياً في الحياة المعاصرة. وتلتقط هذه المفكرة بشفافية مثيرة للجدل والدهشة، أحد أكثر تجليات الفوضوية الجديدة أهمية. ويعني ذلك، أنه في الوقت الذي بدا فوضويو القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين أكثر نهماً لمصادرة الشارع والسيطرة عليه، يتطلع فوضويو اليوم الى غزو المدن للاستيلاء عليها بالتدريج. هذا ما يحصل، بشكل أو بآخر، من خلال تجمعاتهم الحاشدة في عدد من العواصم العالمية الكبرى. يلاحظ أن هؤلاء لم يعودوا يستهدفون، في تحركاتهم الاحتجاجية الصاخبة، فكفكة الإطار السلطوي للشارع تمهيداً لفصله عن الدولة وصولاً الى القبض عليه بالكامل. يقدمون، بدلاً من ذلك، على مخاطبة روح المدينة لبث أفكارهم ومعتقداتهم في مخيلة الناس. لتصبح هذه الأخيرة ملاذهم “المقدس”. ينسحبون من الشارع بأقل ممانعة تذكر، ثم يعودون الى المدينة من بواباتها العريضة.

نظرية للفوضوية السياسية
دراسة أخرى تتناول هذه الظاهرة من زاوية مختلفة هي أقرب الى المفاهيم الفلسفية التي استندت إليها مرتكزات الدولة في نهاية القرن التاسع عشر. يستخدمها الكاتب، بمهارة تحليلية، ليضع تيار الفوضوية الجديدة في موضعه المتآلف مع بنيته الفكرية السياسية. الدراسة بعنوان “ضد الدولة: مقدمة لنظرية الفوضوية السياسية”، للمفكر كريسبن سارتول، عن منشورات جامعة نيويورك، 2008. ينطلق المؤلف في مناقشة هذه المسألة من تلك البنية الفلسفية الصارمة لمفهوم الدولة التي أرسى دعائمها عدد من أبرز المفكرين في هذا المجال. من أمثال: هوبز، روسو، هيغل، هيوم، هابرماس وسواهم. في تلك الأثناء، بدت السلطة السياسية بأمسّ الحاجة الى توطيد مرتكزاتها بالاستعانة بالعقل الفلسفي السائد وقتئذ. لم يكن هذا الأمر خياراً بالنسبة إليها. كان معبراً إلزامياً، على الأغلب من أجل أن تبرر لنفسها أولاً وللناس ثانياً أن وسائلها في ممارسة القهر والإجبار وإدارة المجتمع أمر لا مناص منه من أجل خلاص البشرية. بدا الفوضويون في ذلك الزمن في موقع النقيض. كانوا على الضفة الأخرى المقابلة. يتذرعون بفلسفة هي أقرب الى الفطرة الإنسانية خالية من تعقيدات النخب الفكرية والسياسية. يتوسع الكاتب في تحليل هذا التباعد بين الطرفين، وكأن ثمة سباقاً بينهما على أيّهما أكثر انسجاماً مع الفرد: مؤسسة الدولة بجبروتها، أم غياب الدولة بمؤسساتها المفروضة بقوة القانون؟ يخلص الكاتب الى الاستنتاج بأن الإثنين على طرفي نقيض. الدولة في واد والفوضويون في واد آخر. وما بينهما لا يتعدى كونه حواراً بين الطرشان. الدولة نموذج يستجمع في نفسه إرثاً مديداً من القناعات التي تفيد بأن السلطة هي همزة الوصل الضرورية بين الفرد والمجتمع. بين الفرد والآخرين. من دونها تتحول الحياة ضرباً عقيماً وسقيماً بين الإنسان والتاريخ. الدولة هي ذاكرة البشرية في سجل التاريخ. من ناحية أخرى، يرى الكاتب ان الفوضويين قد استحقوا هذا اللقب في نظر الدولة فقط. لأن النموذج الإنساني الذي يسعون اليه يتعذر وجوده أو تكوينه في مؤسسة تمارس السلطة بأفكار مسبقة ضعيفة الصلة بالطبيعة الإنسانية نفسها. على هذا الأساس من المقارنة بين فلسفتين متعارضتين، يعتبر المؤلف ان الدولة هي ماضي الإنسان الحديث. وأن المجتمع الذي يبشر به الفوضويون هو مستقبل الإنسانية. ثمة رؤيتان، في هذا السياق، كل منهما تسير القهقرى بالنسبة الى الأخرى. الدولة تريد ان تمتلك نمطاً من الوسائل لتفسر التاريخ وتفهمه على نحو هو أقرب الى الوضوح. الفوضويون ينفون وجوداً مسبقاً أو صنمياً للتاريخ.
التاريخ يصنعه الإنسان على الدوام الى الحد الذي تزول فيه فكرة التاريخ من أساسها. يتناول المؤلف هذه المسائل المعقدة في خلفياتها الفلسفية والفكرية والتاريخية وهو ينأى بنفسه، قدر المستطاع، عن مفاهيم وأحكام مسبقة. لا يبدو أنه يتعاطف مع الفوضويين الجدد الا بالقدر الذي يعتبر انهم أحد نتاجات مرحلة ما بعد الرأسمالية. ويرى، في هذا الاطار، ان حركتهم لم تكن لتتوسع بهذا الشكل منقطع النظير لو لم تقترب الرأسمالية الأحدث من الطريق المقفل او تكاد.
شخصيات موضوعية
في الوقت الذي يسعى الكتاب السابق الى محاولة تقنين حركة الفوضويين الجدد وافكارهم ومعتقداتهم في نظرية فلسفية اذا جاز التعبير، يدخل مفكر آخر من الوزن الثقيل الى هذا المعترك هو” بيتر مارشال. الدراسة بعنوان “طلب المستحيل: تاريخ الفوضوية”. الصادر عن منشورات “بي.ام” في الولايات المتحدة 2010. يلجأ الكاتب هذه المرة الى ادوات تاريخية ليحلل هذه الظاهرة باعتبارها من الارهاصات الدائمة التي كانت تنذر بفساد القيم الاجتماعية وتحللها وتعفن الأنظمة السياسية واسقاط الفرد من حساباتها الاستراتيجية. يقرأ المفكر التيار الفوضوي الجديد، في الألفية الثالثة، على خلفية مثيلاته في التاريخين القديم والمعاصر. ويدرج في هذا السياق شخصيات فكرية وفلسفية وأدبية ذاع صيتها نتيجة لمساهماتها الكبرى في الكشف عن قيم الإنسان المعاصر ومعاناته وقدرته أيضا على اعادة تشكيل العالم لفهمه من الداخل.
من بين هؤلاء الذين يسلط الضوء عليهم: تولستوي، نيتشه، روسو، كروبوتكين، بورك وسواهم. وهو يعزو هؤلاء الى نمط من الفوضوية الصامتة أو المتحررة من التقاليد أو الثائرة على الركود الفكري والإنساني الذي داهم الفرد فأحاله كائناً خائفاً متردداً يسبقه العصر فيتخلف عنه. يربط المؤلف بين روح الفوضوية الجديدة من جهة، وبين هذه الشخصيات التي لم تتبن الفوضوية كنظرية في الفكر الفلسفي بقدر ما كانت تتمثلها في حرية الكتابة. في الدعوة الى ازالة كابوس القهر وإرهاب الدولة وسطوة الايديولوجيات المترهلة من على كاهل الناس العاديين. يعالج المؤلف، في اطار هذه المقارنة الحية، قضية الحرية الإنسانية باعتبارها النبض الحقيقي الذي يحتاج اليه الفرد من أجل ان يرتقي بطبيعة الحياة. لا ان يكتفي بالعيش على التخوم الهامشية البعيدة للوجود الإنساني. يستشهد ايضاً، في هذا المجال بكل من: جان بول سارتر، ألبير كامو، ميشال فوكو، جاك دريدا وسواهم.

من الممارسة الى النظرية
مفكر آخر يتقدم خطوة اضافية على طريق فهم الفوضوية الجديدة في ضوء حقائق العصر، هو يوري غوردون. الدراسة بعنوان: “الفوضوية حية: سياسات مناهضة للسلطوية من الممارسة الى النظرية”، الصادر عن منشورات “بلوتو”، 2007. لا يربط الكاتب كنظرائه السابقين بين نشوء الفوضويين الجدد وحركة الاحتجاج العالمية ضد السياسات المالية والاقتصادية والاجتماعية المجحفة للعولمة. وان بدت هذه الأخيرة واحدة من الذرائع المباشرة التي أضفت على هذه الظاهرة بعداً عالمياً غير متوقع. يرى المؤلف ان هذا التيار يندرج بالضرورة في صلب حركة التذمر الإنساني الواسعة التي تكاد تطاول في الوقت الحاضر كل مظاهر التصدع في العلاقة المأزومة بين الدولة والفرد. بين السلطة السياسية بمؤسساتها القهرية والمجتمعات المتكدسة على هامش الحقائق الإنسانية في البلدان المتقدمة والمتخلفة على حد سواء. وهو يذهب ابعد من ذلك الى القول بأن الفوضويين الجدد باتوا الرقم الأصعب في كل الحركات الراديكالية، وتحديداً منها اليسارية بأشكالها المتجددة. والمقصود بذلك، على الأرجح، تلك الانتفاضات التي تهب في الشرق والغرب آتية مع رياح التغيير المحتملة في مواجهة سياسات اقتلاع العقل من الذاكرة الإنسانية. يترصد هؤلاء ما يعتبرونه معوقات تقلص مسافة الحرية التي لا يكون الفرد من دونها. وهم ينشطون، في نظر الكاتب، في كل المجالات التي لا يتجرأ أحد غيرهم، بشكل أو بآخر، على مداهمتها. يتقاطرون من مشارب سياسية وايديولوجية وفكرية مختلفة. تجمعهم تلك الروح المتفلتة من اسر الاستسلام لمفاهيم ومعتقدات المؤسسات الراسخة. يؤكد المؤلف أنه اصبح متعذراً دراسة حركات الاحتجاج والرفض والمقاومة السلمية في الشارع أو في المنتديات أو لدى المقار الحكومية أو مراكز الأمم المتحدة أو أمكنة التجمع والاحتشاد من دون مشاركة الفوضويين فيها. وبالمثل، لم يعد ممكناً قراءات المسارات السياسية لليسار الجديد أو حتى اليسار الراديكالي بعيداً عن حضور الفوضويين فيها.
يخرج المفكر المعروف، روبرت كابلان، عن الرؤية الفكرية الفلسفية السائدة في “المؤلفات آنفة الذكر حيال موقع الفوضوية الجديدة في المعادلة الاجتماعية. الدراسة بعنوان “الفوضوية القادمة: بعثرة أحلام ما بعد الحرب الباردة”، الصادرة عن “دار فنتج”، 2001. يخصص الكاتب اصداره الهام هذا لتلك الفئة من الفوضويين الجدد ذوي التوجه العدمي. وهؤلاء، وفقاً للدراسة، شرائح مختلفة تتحين الفرص من أي نوع كانت ومن اي جهة أتت، من أجل أن تمارس نوعاً عشوائياً من الحرية لا يستهدف غرضاً بعينه أو حالة محددة لمعالجة أزمات الإنسان المعاصر. انهم فوضويون فقط، تقودهم الغريزة للانتقام من الإنسان والمجتمع والعالم. هامشيون للغاية. مهمشون محبطون لا يرجون خيراً في الحياة. ولا يتوقعون ذلك. ولا يراهنون على احتمال ان تتمكن روح الحرية من ان تحقق شروطها في عالم تزعم الدولة أنها وحدها كفيلة بتدبير اموره. الكتاب، على هذا الأساس، ذو أفق مقفل. يرى صاحبه ان الآمال التي كانت معقودة على الاستقرار النسبي الذي أرسته الحرب الباردة، قد تبخرت اليوم. وأصبح العالم، مطلع الألفية الثالثة مكشوفاً بالكامل على صراع طبقي وتكنولوجي بين البلدان الغنية والفقيرة. الأولى متهمة بافقار الثانية. والثانية متهمة بمحاولة خلخلة استقرار الأولى. ويتوقع المؤلف، في هذا الاطار، ان تتحول اشكال الحروب المرتقبة بين هذه وتلك من سيء إلى أسوأ. من نزاعات عنيفة إلى مواجهات أكثر عنفاً. يتخلل هذا المشهد المخيف ضعف مروع في سيادة الدولة القومية. وتقهقر أكثر ترويعاً في مرتكزات النظام الديموقراطي.
والنتيجة المرتقبة، وفقاً لهذا المفكر، ان تننشر الفوضى في العالم على نحو غير مسبوق. وأن يتصدر الفوضويون الجدد، في سائر أنحاء الكرة الأرضية، أعمال الشغب والعبث بالإرث الإنساني المتراكم، وإتلاف مظاهر الحضارة الإنسانية. ومع ذلك، لا يبدو ان هذا النمط الغرائزي المغرق في العدمية الساعي الى قتل الحضارة أو حملها على الانتحار، هو من جنس الفوضوية الجديدة الساعية، بدورها، الى استعادة الحرية الإنسانية من كنف المؤسسات القهرية والأنظمة التوتالتيارية.
يستعيد المفكر الأميركي، دانيال غورين، تجارب حية شارك فيها الفوضويون بكثافة واستخدموها ذريعة موضوعية تعبيراً عن رغبتهم في التحرر من أسر التقاليد والهيمنة السياسية والظلم الاجتماعي.
الدراسة بعنوان “لا آلهة لا اسياد: انثولوجيا للفوضوية”، صادرة عن منشورات “أي كاي 2005” يحلل المؤلف بنية الفوضوية الجديدة على خلفية أحداث ومشاهدات حصلت في الماضي القريب نسبياً، وهو يتقصد هذا المنهج، على الأرجح، من أجل ان يعيد الاعتبار لهذه الظاهرة وان ينفض عنها غباراً واتهامات ليست من نسيجها. يسلط الضوء على مساهمة الفوضويين في الثورة البلشفية التي اطاحت بالقيصرية في روسيا. وايضاً في الثورة الاسبانية لمواجهة الرعب والاستبداد. اضافة الى دورهم الحيوي في اقامة كومونة باريس منتصف القرن التاسع عشر، ولا يستثني المؤلف ادواراً حقيقية لهم في معظم الانتفاضات العمالية في القرن العشرين. يعول الكاتب على هذا الزخم الإنساني الدائم لدى الفوضوية الجديدة واستعدادها للمشاركة في اي تحول سياسي لتغيير الأمر الواقع.

الهامشيّون
يبدو الفوضويون الجدد، كما تتناولهم هذه الدراسات، امتداداً موضوعياً لمن سبقهم، قديماً وحديثاً، على الأقل في توجهاتهم الفلسفية والإنسانية. ومع ذلك، فإن انتشارهم المكثف على خارطة الأحداث الاجتماعية والسياسية على الرقعة الدولية، أحالهم ظاهرة في الشارع، في المدن، حتى في الأمكنة المنسيّة أو المغيّبة. والأرجح أنه أصبح بمقدورهم اليوم أن يحتلّوا حيّزاً متقدماً في المخيلة الشعبية في عدد من المجتمعات الأوروبية والأميركية والآسيوية. ولعلهم أصبح بإمكانهم أيضاً أن يجعلوا من هذه الذاكرة المتكوّنة، على إيقاع الانتهاكات، مطلع الألفية الثالثة، مصدراً حقيقياً للمقاومة السلمية. وقد تتحوّل عنيفة أو أكثر عنفاً أو راديكالية في ضوء الخسائر التي يتعرض لها الرصيد الإنساني في البلدان المتقدمة والمتخلفة. من الملاحظ أن الدراسات المشار إليها آنفاً، تحجم إحجاماً قاطعاً عن الخلط الاعتباطي بين الهامشيين والمهمّشين الذين ركبوا موجة الفوضوية في القرن التاسع عشر، وبين الفوضويين الجدد. بدا الهامشيون في تلك الأثناء المتأرجحة جماعات متفرقة، مشتتة ومتناثرة الى حد كبير. كانوا يفتقرون، في الأساس، الى قضية فلسفية أو إنسانية صلبة يتبنونها لينتقلوا من حالة الفراغ الفكري الى اقتطاع حصّتهم من الرؤية الكونية الى المجتمع والعالم. صحيح أنهم كانوا يشكلون أحياناً طليعة الحركات الفوضوية في الغرب الصناعي إبان الاهتزازات الفكرية والسياسية الكبرى. غير أنهم كانوا يترددون كثيراً، أو يمتنعون على الدوام عن الإقرار بأن الحياة تنطوي على أهداف محددة أو محتملة. كانوا سباقين الى اغتنام فرص ثمينة يترقبها الفوضويون ليدخلوا الى دائرة الحدث السياسي والاجتماعي والإيديولوجي من خلال التمرد والاحتجاج. ومع ذلك لم يتمكنوا من استبعاد نزعتهم الانتهازية للتعبير عن ميولهم العدمية. لم تكن لديهم مطالب محددة سوى الانجراف وراء نمط من الحرية التي لا تعترف بشروط من خارجها. ولكنهم، من ناحية أخرى، كانوا تعبيراً حقيقياً، في ذلك الزمن القريب، عن الخوف على المصير في مجتمع يبدل معتقداته بسرعة قياسية. وفدوا الى المدن من الأمكنة النائية والقريبة. ومن المدن نفسها أحياناً كثيرة. لم ترقهم المدينة بتعقيداتها وسلوكها المنضبط. نأوا بأنفسهم عنها، ثم ارتدوا عليها وفي ظنهم أنها المكان الأمثل لممارسة حريتهم المنفلتة من القيود. ثم استسلموا للمدينة على مضض. ثم استوعبتهم على غير إرادة منهم.
لا ينتمي الفوضويون الجدد الى هذه الفئة من الهامشيين الذين تستولدهم من جديد ظروف القهر السياسي والفقر والإحساس بالغربة والاكتئاب ونوبات الإحباط المتتالية. لا ينفي الفوضويون الجدد، وفقاً للكتب المشار إليها، إعجابهم بالكيفية التي يمارس من خلالها الهامشيون مفهوم الحرية. غير أنهم يفترقون عنهم، الى حد كبير، بابتعادهم عن النظرة العدمية الى الإنسان والحياة والكون. ولعلّ انهماكهم بمعضلات العصر وانحيازهم الى الإنسان المأزوم وتمرّدهم على أشكال الانتهاكات، لم تبق لديهم هامشاً واسعاً للعودة الى عدمية لا تزال تراودهم على الأرجح. ومع ذلك، هل ينقلب الفوضويون الجدد على أنفسهم؟ هل تدفعهم ظروفهم الصعبة الى الانكفاء عن تحقيق أحلامهم. هل يعودون القهقرى الى عدميتهم التاريخية التي تشكل لديهم “احتياطياً” فكرياً جاهزاً في ذاكرتهم المشرعة على المجهول؟ لا جواب!
المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى