جينارو جيرفازيو: اليسار الماركسي المصري انتحر لعدم رؤيته القضايا الاجتماعية وركضه وراء الشعار الوطني
محمد فرج
إيطالــي ينقــب فــي تاريــخ الشيوعييــن المصرييــن المســكوت عنــه
مع أن فترة السبعينات كانت من أكثر فترات نشاط اليسار الماركسي في مصر، الا انها تبقى مع ذلك الفترة الأكثر غموضاً في تاريخ الحركات السياسية المصرية، فالحركة التي اندلعت بعد هزيمة 1967 وهيمنت في فترات على الحركة الطلابية في الجامعات في وقت كان العالم كله يتنفس نسائم ثورات الشباب منذ 1968 في العالم كله، وناصرت الثورة الفلسطينية، وطالبت بحرب شعبية لتحرير الأرض المحتلة كافة، وشاركت في الحركات الاحتجاجية العمالية ضد سياسات الانفتاح الاقتصادي لنظام السادات، وعارضت بقوة خطوات الرئيس المصري الراحل نحو الصلح مع إسرائيل، كانت أيضاً سريعة الاختفاء أمام القمع الذي مارسه ضدها النظام، وأيضا الحركات الاسلامية التي استولت على المشهد السياسي تماما مع نهاية السبعينيات.
وعلى الرغم من وجود العديد من أبطال هذه المرحلة على قيد الحياة، الا أن تاريخ ما حدث ومعرفة اسبابه يبقيان من قبيل التاريخ الشفاهي الذي يظهر من خلال الجلسات الخاصة لمناضلي هذه الفترة ولم يعرف طريقه للتدوين.
يجذب ذلك التاريخ «جينارو جيرفازيو» الباحث الإيطالي الشاب ويبدأ في طرح أسئلة وإجراء عشرات المقابلات مع مناضلي تلك الفترة وما سبقها، وتجميع المنشورات الدعائية والنظرية للتنظيمات الشيوعية في ذلك الوقت، ويصبح تطور الحركة الماركسية في نصر في الفترة ما بين 1967 وحتى اغتيال السادات في 1981 محور أطروحته التي نال عليها درجة الدكتوراه من كلية الدراسات الشرقية العريقة بنابولي. والتي صدرت ترجمتها العربية مؤخراً عن المركز القومي للترجمة.
جينارو الذي يعمل حالياً أستاذاً لتاريخ الشرق الأوسط المعاصر بجامعة «ماكوري» بأستراليا ينطلق في بحثه عن المنظمات الماركسية النشيطة في السبعينيات من أرضية فكرية ترى أن الدراسات عن الدول «النامية» تركز في كثير من الأحيان على «الدولة» كموضوع وحيد للتحليلات ولا تتعامل مع المجموعات «البديلة» او «الهامشية»، إلا عندما تشكل تهديداً لوجود النظام مثلما حدث مع الحركات الإسلامية.
لذا يحاول جيرفازيو تجاوز الرؤية السابقة في سبيل إعادة تفسير شاملة ومتوازنة للتاريخ ـ ليس المصري فقط، ولكن في أي بلد آخر ـ وهي أن تتم كتابة التاريخ من الهامش أكثر من المركز، والدافع الأول لهذه القراءة أنه رغم محاولات النظم العسكرية القضاء على كل أشكال المعارضة عن طريق القمع او الاستمالة الا ان ذلك لم ينجح في ذلك تماماً.
من هنا يحاول جينارو خلال دراسته عن الحركة الماركسية أن يضع «رؤية بديلة» لكتابة تاريخ فترة السبعينيات عبر تحرير التاريخ الماركسي من قدر التهميش المفروض عليه، وهي بالنسبة له محاولة أولى لإدخال «التاريخ الخاص» بالحركة الماركسية ضمن التطور التاريخي المصري، من هذه الأرضية الفكرية العامة سألنا جينارو عن أسباب اختياره لهذا التاريخ محوراً لأطروحته؟
بالنسبة لي هذا سؤال مركّب من أسئلة صغرى لماذا تاريخ اليسار؟ ولماذا اليسار المصري تحديداً؟ ولماذا هذه الفترة؟ بداية اهتمامي باليسار يتأتي من انتمائي بشكل ما أو بآخر لهذا التراث، وطوال الوقت كان لديّ فضول شخصي تجاه اليسار العربي بشكل عام وتفاصيله الداخلية، خاصة أنه ومع التحاقي بكلية الدراسات الشرقية بنابولي أوائل التسعينيات تعرّفت على عدد من الطلاب الفلسطينيين المنتمين للجبهة الشعبية، عن طريقهم عرفت أسماء مهمة في الحركة اليسارية العربية والمصرية خاصة، فشهدي عطية الشافعي ـ القيادي الذي قتل تحت وطأة التعذيب في السحون الناصرية ـ على سبيل المثال كان بمثابة رمز لهم. ورأيت أعداداً من مجلة «اليسار العربي» التي كان يصدرها يوسف درويش ومحمود أمين العالم من باريس في الثمانينيات. ومجلة «الهدف» التي أنشأها غسان كنفاني.
ومن ناحية أخرى شهدت فترة التسعينيات بشكل عام اهتماماً كبيراً من الباحثين والدراسين ـ عرباً واوروبيين ـ بالحركة الإسلامية، خصوصاً مع احداث مثل الانقلاب الذي قامت به جبهة الإنقاذ في الجزائر، ونشاط الجماعات الاسلامية المسلحة هنا في مصر. وهذا ما جعلني أطرح سؤالاً آخر هل الحركات الاسلامية هي الحركة المعارضة الوحيدة هنا؟ وتزامن ذلك مع بداية زياراتي لمصر وبداية معرفتي بعدد من المثقفين والناشطين وحديثهم او عن انتمائهم لـ«الحركة الطلابية» في السبعينيات، فلماذا اختفى اليسار؟ ولماذا لا يهتم أحد بدراسته؟ كنت أريد أن أصل إلى تحديد نقطة النكسة التي تعرض لها اليسار هذا التيار الذي وصل نشاطه إلى حد الهيمنة في ساحة النضال السياسي بين حربي 1967 و1973، خصوصاً وان اسماء بارزة في المجال الثقافي تنتمي إلى اليسار أو على الاقل تراثه سواء أكانوا صحافيين أم روائيين وشعراء ومترجمين. كل هذا أثار فضولي حول هذا التاريخ ولماذا هو مسكوت عنه بهذه الطريقة.
ومن ناحية أخرى عندما بدأت أتعرّف على تاريخ اليسار المصري وجدت أن كل المطبوعات سواء دراسات تاريخية قام بها باحثون مصريون أم عرب أم أجانب تتوقف عند العام 1965 العام الذي قام فيه التنظيمان الماركسيان «الحزب الشيوعي المصري» و«الحركة الديموقراطية للتحرر الوطني (حدتو)» – في حركة فريدة في تاريخ اليسار في العالم كله – بحل منظماتهم والدخول كأفراد في النتظيم الناصري «الاتحاد الاشتراكي» الممثل الرسمي والوحيد «للاشتراكية»
فاخترت أن أبدأ الدراسة منذ 1967 حيث الحدث الأكثر تأثيراً على المستوى السياسي والاجتماعي في مصر والعالم العربي، أكثر من 1970 عام أيلول الأسود ورحيل عبد الناصر.
الذي كانت سياساته في الثلاث سنوات الأخيرة مختلفة عن الأعوام السابقة اختلافات كبيرة، وهي السياسات التي أكملها السادات فيما بعد، وهذا ما يختلف معه الكثيرون، ربما لم يكن عبدالناصر ليقوم بمعاهدة سلام مع إسرائيل بالشكل الذي قام به السادات ولكن بداية «الحل الدبلوماسي» كانت مع ناصر عند قبوله قرار مجلس الأمن 242 ومبادرة روجرز.
وعلى المستوى الداخلي يحمل بيان 30 مارس 1968 بدايات الحديث عن انفتاح اقتصادي وأيضاً انفتاح سياسي على الولايات المتحدة.
حصار الأقدار
÷ الانقسام، التشرذم، ذيلاه الحركة السياسية، استبدال القضايا بمعنى الاتكاء على القضية الأبعد وترك القضايا الأساسية… تبدو وكأنها أقدار تلاحق الحركة الماركسية المصرية، لماذا لم تنقطع هذه الأقدار خصوصاً مع حدوث فترات انقطاع زمنية بين الحركة الثانية في الأربعينيات والحركة الثالثة في السبعينيات ولكن مع الأمراض نفسها.. لماذا تحدث هذه الملاحقة القدرية برأيك؟؟
} بداية لا بد أن نقر بأن قدر الانقسام كان يلاحق الحركات الماركسية في العالم كله، فإذا تناولنا حالة الحزب الشيوعي الإيطالي على سبيل المثال كانت هناك انشقاقات طوال الوقت وبعد سقوط الاتحاد السوفيتي أصبح هناك خمسة أو ستة كيانات تحمل اسم «الحزب الشيوعي»!
وأرى أن هذا «القدر» له ما يبرره في المنطقة العربية. التي تعرضت في رأيي لقضية مختلفة وهي القضية الفلسطينية التي ألقت بثقلها على الجميع، خصوصاً حيث حملت اللجان القيادية لأكبر ثلاث منظمات شيوعية في الاربعينيات أسماء أجانب، أو دعنا نكن أكثر دقة مناضلين بأسماء أجنبية مثل هنري كورييل، ومارسيل إسرائيل، وهليل شوارتز، أو من المنغرسين أكثر مثل يوسف درويش ورمون دويك وأحمد صادق سعد. علماً بأنهم كانوا جميعاً مناضلين منخرطين في الحركة ـ بغض النظر عن الاتفاق أو الاختلاف مع رؤاهم السياسية ـ وليسوا أجانب تماما قادمين للتثقيف او التعامل من منطقة خارجية أعلى.
وحققت هذه الحركة في الأربعينيات أعلى درجة انخراط عمالي ـ أعلى من السبعينيات ـ وأيضا مع وجود روح أممية عالية، فكان هناك اهتمام كبير بالحرب الأهلية في أسبانيا على سبيل المثال من قبل الحركة الماركسية المصرية في ذلك الوقت.
كان لا بد أن يصبح لحدث مثل حرب 1948 تأثير كبير على الحركة الماركسية المصرية خصوصاً اذا وضعناها في الظرف المصري العام وقتها الذي كان على وشك الانفجار، من أجل التحرر من الاحتلال الإنجليزي، ووضع القصر المتعاون مع الاحتلال، فكان من الطبيعي أن ترتفع النبرة الوطنية والقومية، وان تصبح لقضية فلسطين الأولوية على القضايا الاحتماعية الداخلية، خصوصا مع حالة الارتباك التي سادت التيار الماركسي الستاليني الذي وجد نفسه متورطاً بموقف الاتحاد السوفيتي المعترف باسرائيل، والتي جاء رد الفعل عليها بحركة «تمصير القيادات» بحيث تظهر المنظمات أنها وطنية أكثر من كونها أممية. وهو ما أدى الى خلق حالة من الانقسام بين المنظمات، ليظل ترتيب القضايا الوطنية الاجتماعية احد اهم عوامل تفتت الحركة الماركسية.
وأذكر هنا مقتطف للراحل محمد سيد أحمد قال فيه «لم تكن في مصر حركة ماركسية ولكن كانت هناك حركة يسارية قومية». فهو يرى أن القضية الفلسطينية أكلت القضايا الأخرى. ربما يبدو هذا مبالغا فيه ولكنه يحمل شيئا من الحقيقة. وهو الأمر الذي تحول بعد ذلك إلى ما يشبه «التراث» والتزمت به المنظمات الماركسية في عودتها في السبعينيات.
÷ بعد التصالح الذي تم بين الشيوعيين وعبد الناصر تم إنشاء مجلة «الطليعة» عام 1965 تحت مظلة جريدة «الأهرام» وضمت عدداً كبيراً من رموز اليسار المصري برئاسة تحرير لطفي الخولي. الماركسيون الذين انضموا للطليعة تصوروا إمكانية توجية النظام ناحية الاشتراكية، في حين ناصر لم يترك لهم مساحة أكبر من المساحة الدعائية للنظام، لتحاصر المجلة بعد رحيل «قائد الاشتراكية العربية» إلى أن أغلقها السادات بعد انتفاضة 1977… ما هو تقييمك لهذه التجربة التي أطلقت عليها «اليسار الرسمي»؟؟
} أزمة اليسار الرسمي ـ ممثلاً في لطفي الخولي رئيس تحرير مجلة الطليعة او خالد محيي الدين عضو الضباط الأحرار ورئيس حزب التجمّع فيما بعد ـ هي الإيمان بفكرة الإصلاح من الداخل لأنهم كانوا يرون ان هناك مجموعة تقدمية في النظام وتجب مساندتها، وقلص عبد الناصر هذا التصور إلى الحد الأدنى المتمثل في إمكانية لعبهم دوراً دعائياً لمصالح النظام، وهو ما قامت به «الطليعة بالفعل إذ ألبست الخطاب الناصري رداء متمركساً. المشكلة تظهر بشكل أكبر بعد 1967 اذ ظلوا في الموقف نفـسه تقريبا. مع تغيير مواقف النظام الذي عصف بهــم بعد مظاهرات يناير 77.
بالتأكيد هناك أشخاص غيروا مواقفهم ومواقعهم مثل ميشيل كامل الذي فضل ترك موقعه في سكرتارية تحرير «الطليعة» وهاجر إلى لبنان ولعب دوراً كبيراً في إنشاء الحزب الشيوعي المصري الجديد فيما بعد، لكن بشكل عام ظلت الفكرة الاساسية موجودة.
لذا كان قرار إنشاء حزب مثل «التجمع» منطقياً بالنسبة لهذه المجموعة اليسارية التي ترى إمكانية العمل مع النظام من أجل إصلاحه. لكنهم في النهاية قدموا خدمة للدولة التي تريد أن تظهر وكأن لديها معارضة.
بالتأكيد لا يمكن إنكار إن إصدرات حزب التجمع مثل جريدة «الأهالي» ومجلة «اليسار» ومجلة «أدب ونقد» كانت في أوقات كثيرة ـ وخصوصا في التسعينيات قبل ظهور الصحف المستقلة ـ صوت المعارضة العلماني الوحيد للنظام وكان هذا وقت نشاط الجماعات الإسلامية. لكن الممارسة السياسية كانت تتمّ في الحدود التي رسمتها السلطة. وأصبح النشاط السياسي فقط في مقر الحزب، وليس ذلك بسبب أن حزب التجمّع هو حزب تخلّى عن ثوريته لمصلحة الإصلاحية، ولكن لأن الحزب بالأساس قبل قواعد اللعب مع النظام.
الفرصة الضائعة
÷ انتفاضة الجوع في 18 و19 يناير 1977 آخر مرة تحرك فيها الشعب المصري بشكل تلقائي من اسكندرية حتى أسوان بحسب الكثير من المراقبين.. لماذا لم تدفع اليسار برأيك لتغيير وجهة نظره تجاه ترتيب القضايا الوطنية والاجتماعية؟
} كثير من النشطاء اليساريين في هذه الفترة الذين قابلتهم قالوا لي إن 77 كان فرصة مفقودة لليسار المصري، ولكن بالنسبة لي الفرصة ليست ما فقد بعد 77 ولكن ما لم يحدث قبل هذا الحدث. فمنذ يناير 1975 وهناك حالة إضراب تشمل المصانع المصرية من حلوان إلى الاسكندرية. وترفع مطالب اجتماعية واضحة. ولكن وجود اليسار كان محدوداً خصوصاً للمنظمات الأكثر راديكالية والتي كان معظمها من مثقفي المدن، فهذه هي الفرصة التي أضاعها اليسار الذي كان مهيمناً تقريباً على الجامعات بشعارات قومية. وهذا الاتجاه كان له أسبابه أيضاً فالجامعة تقريباً كانت هي المنطقة الوحيدة المحررة نسبياً من سيطرة النظام، ويمكن ممارسة النشاط السياسي بدرجة ما خصوصاً في بداية عهد السادات.
ولكن تركت أماكن الصراع الطبقي الحقيقي في الفترة ما بعد 1975 فضاعت 77 ، وتندهش إذا قرأت أحداث هذه الفترة، إذ يمكن ان تتوقع حالة غضب اجتماعي ناشئ عن انسحاب الدولة من ميدان أداء الخدمات الأساسية والبدء في سياسة الانفتاح ـ التي ظهرت آثارها على القطط السمان فقط ـ وانسحاب الاتحاد السوفيتي وعدم قدوم الأميركان بالرخاء كما وعد السادات، كل هذا كان يؤهل اليسار للعب دور قوي ولكن نظراً لتركيز اليسار على القضية القومية الذي تم على حساب التركيز على ما يحدث داخل البلاد من تحولات اجتماعية، كان لهذا أثر كبير في انحسار دور الشيوعيين. فبقدر التركيز على العلاقة الوليدة مع إسرائيل والولايات المتحدة كان يجب رؤية ما يحدث داخل المصانع.
فشعارات اليسار إلا استثناءات قليلة كانت حتى حرب أكتوبر ـ تشرين الأول 1973 كانت شعارات قومية أكثر بكثير من كونها شعارات اجتماعية اقتصادية. بالتأكيد يمكن فهم الظرف التاريخي الذي كانت فيه سيناء محتلة والنكسة تضرب بآثارها على جميع المستويات.
ولكن بسبب هذا التركيز الكبير على موضوع الحرب، فعندما حدثت حرب 1973 فوجئ الماركسيين بضياع البوصلة، فالمطلب كان الحرب وقد حدثت. فلم تكن هناك رؤية لم بعد أو لما هو اساسي.
÷ لكن في ظل هذا الظرف التاريخي، هل كان أمام اليسار فرصة أخرى للحركة وتسبب اليسار في ضياعها؟؟
} لا أظن فنجاح اليسار في الهيمنة على النشاط الطلابي في فترة ما بين الحربين كان مرده بالأساس إلى الشعارات القومية والوطنية التي تمّ طرحها، ولكن هذا لم يصنع فارقاً بين الحركة الماركسية وبين الناصريين أو القوميين، فالماركسيون تركوا أرضيتهم الأساسية وهي الحقوق الاجتماعية والاقتصادية.
ما أريد أن أقوله إنه حتى قيام الحرب كان معظم الإنتاج الفكري لليسار منصباً على ضــرورة الحرب فلما قام السادات بالحــرب وجــد اليسار نفسه شبه ضائع لا يعرف ما الذي يجــب أن يفعله.
في حين أن السادات كان لديه برنامج منظم لما يريد أن يفعله وان كان هذا غير واضح في الفترة الأولى، فالسادات أدخل اثنين من الماركسيين داخل الأمانة العليا للاتحاد الاشتراكي، وقام بتعيين إسماعيل صبري عبد الله وزيراً للتخطيط ليصبح أول وزير ماركسي في التاريخ المصري. ولكن ذلك كان بالنسبة للسادات من قبيل «عدو عدوي صديقي» كي يتمكن من مواجهة أعدائه على قمة النظام في ذلك الوقت. وفي الوقت نفسه ظل قطاع من اليسار مؤمناً بالفكرة التي عملت عليها مجموعة «الطليعة» خلال الستينيات وهي أن هناك مجموعة اشتراكية على رأس الدولة تجب مؤازرتها والدفاع عنها. لكن الوضع كان قد تغير تماماً.
لذلك كان 1975 بالنسبة لي هو عام «العبور» الحقيقي للسادات حيث أزاح كل منافسيه على السلطة وبدأ سياسة الانفتاح الاقتصادي، ووقع اتفاقية «سيناء 2» التي كانت بداية الطريق نحو الصلح المنفرد مع إسرائيل، وبدأ في فتح الأبواب للولايات المتحدة، وقام بعدها بعام بإلغاء معاهدة الصداقة مع الاتحاد السوفيتي والتي كان قد وقعها هو ـ وليس عبد الناصر ـ قبل خمسة أعوام.
ميكانيزم الاستبدال
÷ استطاع الاسلاميون استعمال القضية القومية لتوسيع قاعدتهم الجماهيرية لماذا لم يستطع اليسار إحداث مثل هذا التحويل؟؟
} لا بد أن أعترف أني حصلت على عدد محدود من الإنتاج الفكري للمنظمات الماركسية الراديكالية ـ نظراً لسريتها وللضربات الأمنية المتلاحقة التي دمرت غالبية هذا التراث ـ ولكن يمكنك أن تلاحظ بالمقارنة مع حركة الاضرابات العمالية انه مع تصاعد حركة الاضراب العمالي تتصاعد بنحو مختلف نبرة الخيانة الوطنية الموجهة للسادات في الإنتاج الفكري الماركسي.
وهنا يظهر سؤال كبير كان لا بد لليسار أن يحله: هل تريد ان تحرك هذه الجموع الجائعة اجتماعياً واقتصادياً على شعارات قومية؟؟ قراءة الواقع تؤكد انه لا يمكن.
بالتأكيد لست ضد النضال من أجل القضايا الوطنية أو القومية فهذا جزء أساسي من تراث النظرية الماركسية، ولكن ما أود التأكيد عليه هو أن الجماهير في ذلك الوقت كانت تتحرك تلقائياً من أجل مطالب اجتماعية، وقف اليسار على حدود القضايا الوطنية دون ان يتجاوزها ليندمج مع تلك التحركات الجماهيرية ويقودها كما هو مفترض. الاسلاميون هنا ـ مع المساحة التي أتاحها لهم النظام ـ كانوا أكثر حيوية في الاستجابة لإيقاع الشارع فاستطاعوا العمل على الجانب الاجتماعي الذي ساعدهم على الانغراس أكثر في الشارع وأيضا على اللعب على الوتر القومي المختلط بخطاب ديني ضد اسرائيل كيهود وأميركا كصلبيين جدد.
÷ اذا كان ما فعله اليسار في 1965 قد انتحر… هل ترى انه قد كرر الفعل نفسه بطريقة أخرى في السبعينيات؟
} بشكل ما نعم. بالتأكيد لا يمكن إنكار الدور الذي لعبه قمع النظام للحركة الماركسية فالسادات كان لديه وسواس اسمه «الشيوعية» وفي أواخر أيامه كان يرى الشبوعيين في كل مكان. ومن ناحية أخرى لعبت المنافسة من قبل الإسلاميين دوراً في انتهاء اليسار كحركة سياسية مؤثرة في الشارع السياسي المصري، ولكن بالنسبة لي لم يكن هذا كافياً، كانت هناك أسباب أخرى داخلية، أدت إلى تراجع وانهيار هذه الحركة في ذلك التوقيت.
÷ ولكن إذا نظرنا إلى الحالة الآنية هل لا زال اليسار يستبدل القضايا الاجتماعية والاقتصادية بقضايا أخرى ربما ليست هي الوطنية في المرتبة الأولى، ولكن قضايا الديموقراطية والتوريث مما يجعله بعيداً أيضاً عن «الجماهير».
} ارى ان التحركات الجديدة التي حدثت بعد سنة 2000 بدأت أيضاً من قضايا قومية مثل الانتفاضة الفلسطينية الثانية ثم احتلال العراق وهو الحدث الذي كشف عن جيل جديد وطاقات جديدة. لذلك يبقى الإنجاز الأكثر أهمية لحركة «كفاية» هو الانتقال للقضايا الداخلية وهذه في حد ذاته أمر إيجابي.
ولكن يبقى السؤال الاساسي ما الذي يفترض أن يميز أي حركة نضالية يسارية عن حركة لبيرالية هو بالاساس القضايا الاجتماعية فالليبرالي يمكن ان يناضل من أجل الديموقراطية ولكن أي مفهوم للديموقراطية واي مفهوم نحن نريده وندافع عنه. فالحزب الحاكم في مصر اسمه بوضوح الحزب الوطني الديموقراطي. والولايات المتحدة تشجّع بالقوة عملية «المقرطة» ولكن أي ديموقراطية.
بالتاكيد اليسار يدافع عن الديموقراطية، ولكن بالتأكيد بمفهوم مختلف عن هذه «الديموقراطيات»، بالتأكيد يهتمّ اليسار بحقوق الإنسان، ولكن ليس الانسان بشكل عام ومطلق، يهتم اليسار بحقوق العمال والفلاحين بالطبقات الكادحة بشكل عام.
ربما تصلح هذه النضالات الديموقراطية كنقطة بداية يتم على اساسها التحرك لمناطق أبعد من مجرد انتخابات شفافة.
وهذا ما يؤكد غياب برنامج تكنيكي يقرأ المرحلة الآن ويحدد الاولويات، ما يحدث طوال الوقت هو تحديد شعار وحيد والمضي وراءه وإهمال القضايا الاخرى، في فترة يصبح الشعار القضية الوطنية وفي فترة تالية يصبح الشعار الديموقراطية وفي الحالتين يغيب الصراع الطبقي عن ساحة البرامج مع أن المفترض ان لا يتم إهمال هذا الجانب لأنه ببساطة هو المحدد لكيف يمكن أن تتحرك الأمور على الأصعدة الأخرى.
(القاهرة)
السفير