دعاوى دعاة ظاهرها رحمة وباطنها الكذب: من نصّب هؤلاء وكلاء على دمنا وحياتنا؟
ماجد الشّيخ
بعد أن فاض الكيل بالفتن والمفتنين، المروجين لما يضاد السلام الاجتماعي، والحض على عدم التسامح، وإفشاء التطرف الديني، والترويج لخرافات وبدع قد تضر أبدان الناس، اضطرت شركة النايل سات مؤخرا إلى توقيف 12 قناة تلفزيونية بصورة مؤقتة، وأنذرت 20 قناة أخرى، وذلك لأسباب تفاوتت بين الحض على الفتنة الطائفية، ومس العقائد والأديان، وإثارة النعرات الطائفية، والترويج للشعوذة والخرافات والإباحية، ومخالفة بعضها التصاريح الممنوحة لها. ولأن حرية الإعلام لا تعني التجاوز، فقد شدّد وزير الإعلام المصري أنس الفقي على أن الهدف من تلك الإجراءات التصويبية تجاه القنوات المتطرفة، تستهدف في مجملها الحفاظ على قيم المجتمع المصري والعربي وتقاليده، والحفاظ على أخلاقيات ومُثل العمل الإعلامي المسؤول الذي يخدم المواثيق والأعراف، ويحافظ على الأسرة المصرية والعربية.
وعلى طريقة بعض القنوات الفضائية التي وضعت شعارا لها، تزعم فيه أن شاشتها “تأخذك للجنّة”، يذهب البعض على الشبكة العنكبوتية لترويج أوهام يزعم أنه “استخدمها”، ويصفها بأنها “طريقة جديدة” يحب من جميع الإخوة والأخوات الاستفادة منها، ألا وهي العلاج بـ “الدعاء النبوي” للأمراض النفسية والجسدية، بل والاقتصادية. وذلك بهدف حصد المزيد من الحسنات التي “تأخذه إلى الجنة”!. ولأن الشيء بالشيء يذكر، فإن لجوء السلطات المصرية مؤخرا لإغلاق هذا العدد الكبير من القنوات الفضائية ولو مؤقتا دفعة واحدة، بحجة أو بذريعة خوضها في ما قد يؤدي إلى النفخ في نار الفتنة.، فلأن المسألة باتت قضية مثيرة ومثارة اليوم بإلحاح في مصر، في سياق معركة الحريات والانتخابات والتوريث وهيمنة قوى النظام على الفضاء العام والاستيلاء على السياسة، في وقت تبدأ بالاحتدام معارك المتدينين فيما بينهم، على شكل مزايدات ومناقصات، يتهم كل طرف الآخر بما يعتبر إخراجاً من الملة ومن الدين.
وفي لقاء ببرنامج “مصر النهار دة” بالتلفزيون المصري يوم الخميس 14 تشرين الأول/أكتوبر الجاري، وجه الدكتور أحمد محمود كريمة أستاذ الشريعة الإسلامية بجامعة الأزهر، في رد على القائلين بالعلاج بـ “الدعاء النبوي”، انتقادات حادة لما يسمى “الفضائيات الدينية” التي أفرغت الدين من مضمونه، وأكد أنه لا يوجد في الإسلام ما يسمى “الطب النبوي” أو “العلاج بالقرآن”، ووصف ذلك بالخرافة. وفي الوقت الذي لا يوافقه أساتذة أمثاله، من ذوي الشهادات، أو دعاة مدّعون، فضلا عن طلاب “نجباء جدا”! امتهنوا ويمتهنون الترويج للخرافة ونشر الأوهام والطلاسم، واستخدام تأويلات ما أنزل الله بها من سلطان، ولا وافقها أو يتفق معها أي عقلاني في هذا الزمان، يرنو إلى تدينه الفردي الخاص، بعيدا من أيديولوجيا تحويل الدين إلى أفيون، وممارسة تسلطية واستبدادية، أو مجرد ممارسة تكرارية تقليدية للعبادات، وتحويلها إلى مجرد طقوس لا معنى لها. دعونا نورد بعض أمثلة حية تتوزع على الفضائيات الدينية وعدد من المواقع الإلكترونية على الشبكة العنكبوتية، أو يجري توزيعها كرسائل على عناوين في الشبكة يجري إقتحامها عنوة وقسرا (بلا شور ولا دستور)، وهي نماذج لما انتقده أستاذ الشريعة الإسلامية: يقول أحدهم نقلا عن رواية للترمذي: هنالك دعاء عظيم يسبب لك السعادة المطلقة في الدنيا والآخرة، ويصرف عذاب المرض في الدنيا والآخرة، وهو (اللهم إني أسألك العافية والمعافاة الدائمة في الدنيا والآخرة) فإذا دعوت بهذا الدعاء كل يوم، فإن النبي الكريم يقول لك، (فإذا أعطيت العافية في الدنيا وأعطيتها في الآخرة فقد أفلحت).
وانطلاقاً مما يسميه “تجربته الشخصية”، يعلق الأخ الكريم، قائلاً إن “هذا دعاء عظيم من أجل صرف الأمراض وإبعادها والتمتع بالعافية”. وهو لا يقف عند هذا الحد، فهو ينقل عن “مسلم” حديثا يقول (اللهم اغفر لي وارحمني وأهدني وعافني وارزقني) وذلك كعلاج للمشاكل الصحية والاقتصادية، حيث يستفيض في شرح كل كلمة وردت في هذا الحديث.
وعلى ذات المنوال ينسج الأخ الكريم علاجاً للاحباط والاكتئاب، من قبيل “يؤكد علماء النفس والاطباء أن معظم الأمراض النفسية وحالات الانتحار وأمراض الاكتئاب والإحباط خصوصا، إنما تعود أسبابها لشيء واحد، وهو عدم الرضا عن الواقع والظروف المحيطة وعدم الرضا عن النفس، والعلاج سهل يا أحبتي، فقد علمنا النبي الكريم دعاء عظيما، ألا وهو (رضيت بالله تعالى رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا) (رواه أحمد)، فمن قال هذا الدعاء ثلاثا حين يصبح وثلاثا حين يمسي، كان حقاً على الله أن يرضيه يوم القيامة) وماذا عن إرضائه في الدنيا؟ ولا ندري ما علاقة هذا الدعاء بالأمراض المذكورة؟
وهنا يرد الدكتور أحمد محمود كريمة على مثل هذا المنطق السحري بقوله: (إن الرسول (صلى الله عليه وسلم) قال “أنتم أدرى بشؤون دنياكم” وقال “تداووا عباد الله، فما نزل الله بداء إلاّ أوجد له دواء”، وهذا يعني أن العلم والطب (وليس دعوات المتواكلين وحلولهم السحرية) صاحب الكلمة في المرض، وقراءة القرآن على كوب ماء وشربها، لا يعني العلاج من الأمراض، وهذا ليس لنا به علم، لكن من الممكن أن نقرأ كلام الله للدعاء، وليس لعلاج الكحة والمعدة والضغط).. ولهذا يؤول الدكتور شرب بول الإبل ليس للعلاج، ولكن لقياس درجة إيمان الناس في ذاك الزمان، حيث يقول: “إن العلاج بلبن وبول الإبل خرافة وفضيحة، حيث أن الرسول استخدم العلاج ببول الإبل ومارسها بنفسه كمعجزة، حين ظهرت أعراض الحمى على المؤمنين”.
واستنكر الدكتور جميع التعدّيات التي حوّلت الدين الإسلامي الذي يتسم بالوسطية والاعتدال، من قبيل ما تثيره العديد من الفضائيات الدينية التي استطاعت بالدعم المالي، أن تبث للناس دعاوى ظاهرها رحمة وباطنها الكذب. كما هاجم فرض اجتهادات وآراء عقائدية متشددة على أنها الإسلام فقط، وما عداه كان كافرا وفاسقا، بل صار الصبيان يحتقرون ويسفّهون العلماء الذين لم يتبعوا فكرهم، بل نصّبوا أنفسهم دعاة (وقضاة)!
هو إعلام فتنة وفتاوى خادعة، انسياقا خلف منهج فاسد، ينحته من يمكن أن نطلق عليهم تسمية “المتدينون الجدد” وكل من يرنون إلى السلطة؛ فعلية كانت أو تأويلية. حيث أن سلطة التأويل باتت تمنح لأصحابها منزلة سلطوية متنفذة في بعض زوايا وأركان المجتمع، فلم لا يشتغل عليها من لا علم له ولا ضمير ولا صدق ولا نزاهة، حتى بتنا أمام دعاة مفتنون، فقههم الفتنة والعذاب للناس في الدنيا، و”قضاة” يدعون للانسحاب من الحياة قتلا وتدميرا للنفس وللأنفس الأخرى. وهم يفتون بما لا علم لهم به، بل هم يقايضون جهلهم بالتعدّي على علم الغيب، مع أنهم أدرى الناس بمن اختص بعلم الغيب، وإن كانوا أكثر نقلية وتقليدية، فلأنهم بالأساس “أساتذة” في عملية انتقاء تلغي العقل، ولا تهدف إلى عقلنة ما انتقوه هم، ففي كل ذلك عدم إدراك لمسألة أن كل موجود بأسبابه، لا بما يفتقد لعلة وجوده.
ما أوردناه.. غيض من فيض شواهد على عمليات تحويلية للدين، إلى مجرد اختزال لكل ما جاء به الإسلام كمفاهيم وتمثّلات، يجري حشرها وتلخيصها في مجرد كليشيهات طقوسية، اختزلت تراثا واسعا على الرغم من تناقضاته وتعارضاته الواسعة مع المنابع الأولى للدعوة، حيث جرى ويجري اختزالها في فقه شكلاني، لا يتعدى الحديث عن عذاب القبر و”استعذاب الموت”، وانطفاء الحياة داخل جلابيب وأنقبة سوداء، حتى بتنا أمام “إسلام” مختزل، محمول على تعبيرات أكثر سطحية، لا تهتم بشيء قدر اهتمامها بتكفير الآخر أو الآخرين، وإباحة دمائهم وانتهاك حرمة حيواتهم، واستباحة كل الروابط التي تجمع أبناء الوطن الواحد والمجتمع الواحد، بل والإنسانية جمعاء. ولا ندري من نصّب أمثال هؤلاء وكلاء على دمنا وعلى حياتنا وحياة الناس أجمعين؟
المستقبل