صفحات ثقافية

تجميل الهيمنة

null
صبحي حديدي
معظم الأسئلة الراديكالية الجديدة حول نظريات الترجمة، التي ناقشت بعضها في هذا العمود قبل أسابيع، تولت طرحها حفنة من المفكرين والأكاديميين الذين ولدوا في المستعمرات السابقة (فلسطين، الهند، الباكستان، جنوب أفريقيا، غانا، كينيا…)، وطوّروا مناهجهم في رحاب الجامعات والمؤسسات الثقافية الغربية. وهؤلاء أنفسهم هم الذين أطلقوا ـ ثمّ طوّروا وعمّقوا، في سياقات من النقد والنقد الذاتي ـ ما سيُعرف باسم ‘نظريات ما بعد الاستعمار’، وفي طليعتهم أسماء إدوارد سعيد، غاياتري شاكرافورتي سبيفاك، هومي بابا، عبد الرحمن جان محمد، إعجاز أحمد، كوامي أنطوني أبيا، قمقم سنغاري، عقيل بلغرامي، وسواهم.
وكانت تلك الأسئلة الراديكالية قد غابت، في كثير أو قليل، عن نقاش مفاهيم الترجمة عند مفكّر ماركسي مثل والتر بنيامين، أو آخر ما بعد بنيوي مثل بول دي مان، أو ثالث تفكيكي مثل جاك دريدا، لكي لا نتحدّث عن ناقد فينومينولوجي مثل جورج شتاينر، أو أكاديمي سيميائي مثل أمبرتو إيكو. وهي إذْ تتصدّر السجال اليوم، فلأنها اقترنت على نحو وثيق بإعادة فتح ملفات تجربة الاستعمار، القديم والجديد، إسوة بالملفات التي تخصّ المركزية الغربية، ومصطلح ‘الإمبراطورية’ الذي اكتسب دلالات راهنة تتيح استدخال سياسات الهيمنة العسكرية والاقتصادية والثقافية الأمريكية على سبيل المثال.
وفي ربيع 1961 كان الرئيس الأمريكي الأسبق جون ف. كنيدي قد أطلق المبادرة المعروفة باسم ‘سلك السلام’ Peace Corps، التي نهضت على تشكيل فرق من المتطوعين لنشر القِيَم والآداب الأمريكية في بلدان العالم الثالث، وكانت الترجمة حجر الأساس في المشروع. بعد 45 سنة، استعادت لورا بوش، السيدة الأولى السابقة، مبادرة كنيدي تحت تسمية جديدة، هي ‘الدبلوماسية الثقافية’، فانطوت أولى الأنشطة على برنامج فوري مكثف لترجمة وتسويق سلسلة من الآثار الأدبية والفكرية الأمريكية، بتمويل من وزارة الخارجية. وفي وثيقة بعنوان ‘الدبلوماسية الثقافية: ركيزة الدبلوماسية العامة’، جاء أنّ الدعم الأمريكي غير المحدود لإسرائيل ضدّ الفلسطينيين، واحتلال أفغانستان والعراق، وافتضاح وقائع معتقل غوانتانامو وسجن أبو غريب، كلها مشكلات تحتّم تعبئة الأدب في مهمة تعديل الصورة الأمريكية على النطاق العالمي.
ذلك لأنّ الأدب، حسب الوثيقة، يكشف ‘الحقيقة الراسخة عن التجربة الأمريكية، وأننا لسنا شعباً قادراً على إعلاء قِيَمنا النبيلة ونشرها والدفاع عنها فحسب، بل أيضاً على تصحيح عثراتنا’. ويلفت الانتباه انّ الوثيقة تقترح ترويج كتابات رالف ولدو أمرسون، هنري دافيد ثورو، إدغار ألن بو، هرمان ملفيل، والت ويتمان، وإميلي دكنسون، وبالتالي تتعمد اختيار بعض الأعمال المعروفة بانشقاقها عن السائد، بل هجاء أمريكا ذاتها.
وإذْ تقرّ الوثيقة بأن ‘الترجمة تقع في قلب كلّ مبادرة للدبلوماسية الثقافية’، وأنّ ‘سوء التفاهم بين الشعوب يمكن حلّه من خلال انخراط كلّ شعب في أدب الشعب الآخر وتراثاته الفكرية’، فإنّ الاختلال الفاضح في موازين القوى بين ثقافة أمريكية وثقافات أفغانستانية أو عراقية أو فلسطينية، على سبيل الأمثلة المستمدة من مناطق ‘سوء التفاهم’ التي تسميها الوثيقة، لا يسمح بأي مستوى من الحوار المتكافئ، بل يُبْطل أي مسعى لإقامة ذلك الحوار. هذا بصرف النظر عن حقيقة أنّ ترجمة الشعوب الأخرى لا تشغل إلا نسبة 3 ‘ من مجموع المنشورات السنوية في أمريكا، وبالتالي فإنّ الولايات المتحدة ليست ‘منخرطة في حوار أدبي، أو فلسفي، أو سياسي أو روحي مع العالم’، كما تعترف الوثيقة.
في عبارة أخرى، لا تقوم سياسات التناقل الثقافي بين الإمبراطورية والأطراف على أيّ مقدار من التناسب مع مناقلة السياسات، بين فلسفة المحافظين الجدد التي كانت وراء قسط كبير من دوافع الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش في قرار غزو أفغانستان والعراق، وبين سياسات خَلَفه باراك أوباما في مسعى الخروج من مستنقع الاحتلال في البلدين. وهي، أيضاً، حال إمبراطورية استعمارية سابقة مثل بريطانيا العظمى مثلاً، حيث أخذ رئيس وزرائها غوردون براون زملاءه الساسة الأوروبيين على حين غرّة، في قمّة بروكسيل قبل أسابيع، فدعا إلى إعادة إحياء مبادرة كنيدي، وإيفاد رسل السلام الأوروبيين إلى أربع رياح الأرض. وإلى جانب المهامّ الثقافية التي ستوكل إلى الآلاف منهم، سوف يقوم هؤلاء بأعمال خيرية ونفعية تطوعية، بينها الترجمة وتعليم اللغات الأوروبية، على نحو يكاد يذكّر بالمهمة العتيقة ذاتها التي أوكلها المشروع الاستعماري إلى مندوبيه في المستعمرات، أي المهمة التمدينية Miion civilisatrice!
تلك هي الحال التي يطلق عليها الأكاديمي الفرنسي جان ـ مارك غوانفيك تسمية ‘وهم الشرعية’، أي إحساس ابن الثقافة الغربية الأقوى بأنه قادر على ترجمة نفسه إلى موضوع مصالحة نفعية مع ابن الثقافة الأضعف، اعتماداً على نوع من نقل الذات إلى الآخر، أو مناقلته ونسخه ومشابهته، في محاكاة معاصرة لنموذج لورانس العرب في المشرق، وإيزابيلا إيبرهارت في الجزائر. وليس استئناف براون لمبادرات كنيدي ولورا بوش إلا الدليل على أنّ سيطرة الإمبراطورية ليست تحصيل حاصل ذاتيّ التأكيد وذاتيّ التسويغ، بل هي ملزَمة باللجوء إلى جملة معقدة من الأواليات، لكي تؤكد ذاتها إثر كل ارتجاج في علاقتها بالآخر.
ولكي تسعى، في نهاية المطاف، إلى تجميل وجه الهيمنة القبيح!
خاص – صفحات سورية –

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى