المسيحية تتلاشى في البلدان العربية : هجرة جماعية تصل إلى حد محاكاة الأبعاد التوراتية
لندن – رسم الصحفي البريطاني روبيرت فيسك صورة معتمة لاوضاع المسيحيين في البلدان العربية بعد تسيد الاحزاب الاسلامية والطائفية على المشهد السياسي والاجتماعي.
وقال فيسك المعروف بموضوعيته المهنية والمتعاطف مع قضيتي العراق وفلسطين، في تحقيق تحت عنوان “من إسرائيل إلى العراق، لقد بدأ الهروب المسيحي الكبير ذو الأبعاد التوراتية” “ان نصف مسيحيي العراق فرَّ منذ حرب الخليج عام 1991، وغادر الآلاف بعد غزو البلاد عام 2003”.
واشار الى ان الأغلبية المسلمة من السكان تتفوق من حيث التناسل والتكاثر في بلدانهم على المسيحيين المقسمين إلى حد ميؤوس منه.
وسلط مراسل صحيفة “الإندبندنت” في الشرق الأوسط، في تقرير نشر في عدد الصحيفة الصادرة الثلاثاء، الضوء على التناقص الكبير في أعداد مسيحيي المنطقة وأسباب هجرتهم منها والمستقبل الذي ينتظرهم فيها.
وقال فيسك إن نصف مسيحيي العراق قد فروا من بلادهم منذ حرب الخليج الأولى عام 1991، ومعظمهم غادر بعد غزو تلك البلاد عام 2003.
واضاف “إن ذلك ربما كان بمثابة التحية الغريبة التي يوجهها الدين المسيحي إلى الرئيسين بوش (أي الرئيسين الأميركيين السابقين جورج بوش الأب وابنه جورج دبليو بوش) اللذين خاضا حربي العراق، وما وراءها حقيقة تقول إن عدد المسيحيين في تلك البلاد انخفض بسببهما إلى 550 ألف نسمة، أي بالكاد إلى حد الـ 3 بالمائة من عدد سكان تلك البلاد.
ويمر فيسك إلى الوسط التاريخي للعاصمة اللبنانية بيروت وهو العارف تفاصيلها منذ تغطيته الحرب اللبنانية، حيث كنيسة القديس جورج المارونية تشمخ إلى جانب مسجد محمد الأمين، وكأن الكاتب يريد أن يعيدنا إلى الجدل القديم والطويل الذي سببته فكرة بناء الجامع منذ ظهورها للمرة الأولى أواسط القرن الماضي وحتى تنفيذها وافتتاح المبنى في السابع عشر من شهر أكتوبر/تشرين الأول من عام 2008.
ورغم دخوله في التفاصيل الدقيقة لدى وصفه للمكان وأجوائه، ومنها التنافس في رفع صوت الآذان في المسجد وقرع الأجراس في الكنيسة، إلاَّ أن فيسك يرمي من خلال اختياره لذلك الموقع الرمزي إلى أمر آخر أعم وأشمل، إذ يسارع مباشرة إلى اختصار القضية بجملة واحدة جد مقتضبة: لكن المسيحيين يرحلون.
وينطلق من وسط بيروت التاريخي “التجاري” إلى الدائرة الأوسع، إلى خريطة الشرق الأوسط برمتها، حيث يرى أن مرارة الصراع ذاتها تتكرر “أقليات مسيحية خائفة وهجرة جماعية تصل تقريبا إلى حد محاكاة الأبعاد التوراتية”.
ويعيش أكثر من نصف مسيحيي تلك البلاد الآن في الخارج.
وقال فيسك “ربما يشكل مسيحيو لبنان، البالغ عددهم حوالي مليون ونصف مليون نسمة، ومعظمهم من الكاثوليك الموارنة، 35 بالمائة من عدد اللبنانيين، وذلك بعد أن كانوا ذات يوم يشكلون أغلبية سكان تلك البلاد”.
أمَّا في مصر، فيجد فيسك أن الأقباط، وعددهم حوالي ثمانية ملايين نسمة، يمثلون أقل من 10 بالمائة من إجمالي عدد السكان في البلاد.
ولمقاربة أكثر موضوعية للقضية، يقر فيسك بأن تناقص عدد مسيحيي الشرق ليس دوما نتيجة حتمية للهروب الناجم عن الخوف والرعب، بل هو “تأريخ لموت جرى التنبؤ به”.
ويرى ان مفاتيح كنيسة القيامة محفوظة لدى مسلم للحيلولة دون اقتتال الأرمن والأرثوذوكس عليها.
ويدلل الكاتب على ذلك بما هي عليه الحال في مدينة القدس التي تحتضن 13 كنيسة مختلفة وثلاثة بطاركة. وبالإضافة إلى ذلك، فإن مسلما هو من يحمل مفاتيح كنيسة القيامة، وذلك لمنع القساوسة الأرمن والأرثوذوكس من الاقتتال فيما بينهم في عيد الفصح”.
واجتمع في روما مؤخرا أكثر من 200 عضو يمثلون 14 كنيسة مختلفة وثلاثة بطاركة في سنودس بابوي لمناقشة تناقص عدد المسيحيين في مهد المسيحية.
وينقل فيسك أجواء الملل والضجر التي قابل بها الناس أنباء ذلك اللقاء، اضافة الى تجاهل الصحافة الغربية للحدث تماما.
ويتوقف عند عبارات التنديد والشجب التي يجود بها الغرب المسيحي عادة كلما سقط عدد من الضحايا من مسيحيي الشرق الأوسط في أتون الصراعات والأحداث الدامية التي تشهدها المنطقة.
ويصف مواقف مسيحيي الغرب بقوله “تميل زياراتهم إلى المنطقة إلى التركيز على الحج إلى الأماكن المقدسة أكثر من لقاء المسيحيين على الطرف الآخر”.
ويركز على المسيحيين الأميركيين والذين يقول عنهم إنهم “مهووسون بأساطير صراع الحضارات بين الغرب والشرق منذ الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2001.”
ويختتم تقريره بالقول “يبدو أنهم يعتبرون المسيحية على أنها دين غربي أكثر من كونها ديانة شرقية. وهم يفصلون بعناية الجذور الشرق أوسطية لدينهم عن أرض الإسلام، وهذا بحد ذاته ضياع للعقيدة.”
وناشد البابا بنديكت السادس عشر الدول الإسلامية في الشرق الأوسط ضمان حرية العبادة لغير المسلمين وقال “أن السلام في المنطقة هو العلاج الأمثل لهجرة متزايدة للمسيحيين من المنطقة لدرجة تثير القلق”.
وأدلى البابا بهذه التصريحات خلال قداس بكنيسة القديس بطرس في ختام أسبوعين من قمة بالفاتيكان للأساقفة من الشرق الأوسط والتي انتقد بيانها الختامي إسرائيل، وحث الدولة اليهودية على إنهاء احتلالها للأراضي الفلسطينية.
وفي كلمة البابا في ختام القمة قال أن حرية العقيدة “من الحقوق الأساسية للإنسان التي يجب أن تحترمها دائما كل دولة”.
وأضاف أن بعض الدول في الشرق الأوسط تسمح بحرية الاعتقاد لكن “المساحة المتاحة لحرية ممارسة الدين محدودة كثيراَ في الأغلب”.
ويعيش 3.5 مليون مسيحي من كل الطوائف في منطقة الخليج، وتختلف القيود من بلد لأخر في دول المنطقة.
وحرية ممارسة المسيحية (أو أي دين آخر غير الإسلام) ليست دائما أمراَ مسلماَ به في الخليج وتختلف من بلد لآخر، وتفرض السعودية اشد القيود إلى حد بعيد.
وقال البابا أن كل مواطني دول الشرق الأوسط سيستفيدون من زيادة حرية العقيدة، وأيد دعوة من المشاركين في المجمع الكنسي (سينود) لان يجري المسلمون والمسيحيون حواراَ “مفيداَ وعاجلاَ” حول هذه القضية الشائكة.
وفي المملكة العربية السعودية على سبيل المثال تجري ممارسة أي شكل من أشكال العبادة غير الإسلامية سراَ، ويعاقب المسلمون على التحول لدين أخر بالإعدام لكن مثل هذه الأحكام نادرة.
وعادة ما يجري تنظيم القداسات والصلوات في منازل الدبلوماسيين لكن القدرة على دخول تلك الأماكن محدودة جداَ لذلك يجتمع المسيحيون في قاعات المؤتمرات بالفنادق للعبادة في ظل مخاطرة كبيرة.
وكانت محاولة تحقيق السلام في الشرق الأوسط من خلال إقامة دولتين موضوع رئيسياَ للمشاركين في المجمع الكنسي، وتطرق البابا إلى رغبتهم في كلمته.
وقال البابا “السلام ممكن، السلام مسألة ملحة، السلام شرط لا غنى عنه لحياة لائقة بفرد في المجتمع، السلام أيضا هو أفضل علاج لتجنب الهجرة من الشرق الأوسط”.
وفي رسالته الختامية والتي صدرت السبت بعد أسبوعين من الاجتماعات، قال المجمع الكنسي “أن إسرائيل لا يمكنها استغلال المفهوم التوراتي لأرض الميعاد ولا فكرة الشعب المختار لتبرير بناءمستوطنات جديدة في القدس والضفة الغربية أو المطالب المتعلقة بالأرض”.
ويدعي كثير من المستوطنين اليهود والإسرائيليين اليمينيين وجود حق توراتي في الضفة الغربية التي يطلقون عليها يهودا والسامرة ويعتبرونها جزءاَ تاريخياَ وقديماَ من إسرائيل التي وهبها الله لليهود.
وتعقيباَ على وجهة نظر المجمع الكنسي، قال ييجال بالمور المتحدث باسم وزارة الخارجية الإسرائيلية أن الخلافات اللاهوتية حول تفسير الكتب المقدسة تلاشت مع العصور الوسطى، مضيفاَ “لا يبدو أن من الحكمة إحياؤها”.
روبرت فيسك : ميدل ايست أونلاين