صفحات العالمما يحدث في لبنان

اللبناني المحلي المعولم

سليمان تقي الدين
أيام قليلة تفصلنا عن الانتخابات النيابية العامة. حجم الإنفاق الانتخابي الظاهر من الحملات الإعلانية يكاد يغطي جزءاً من الدين العام أو هو يوازي الإنفاق الانتخابي في دولة كبرى!! ملايين الدولارات تهدر في الموسم الانتخابي يمكن لها أن تحدث تبديلاً نوعياً في الكثير من المرافق الخدماتية العامة. هذه أول مظاهر الصراع الإقليمي أو الكوني على لبنان. لكن المواطن اللبناني معولم بامتياز. يأتي بعض اللبنانيين من أقاصي المعمورة في كندا واستراليا وأميركا اللاتينية وغيرها لينصروا أهلهم في الوطن على خصومهم في العائلات والطوائف والقرى والأحياء المقابلة. أما المقيمون فقد وطّدوا العزم على إلحاق الهزيمة بعضهم ببعض في المشاريع المتنافسة.
في المناظرات والمهرجانات تسمع كلاماً يتراوح بين تزفيت طريق وحسم الصراع على النظام الدولي. الضيعوية والعالمية تتعايشان في وئام رهيب. الشؤون الاجتماعية غالباً هي حجج إضافية وتفاصيل. اللبنانيون منخرطون في تحديد مستقبل الصراع بين المحور الإيراني والمحور الأميركي. هم مقتنعون بأن مصير المنطقة من حولهم يتوقف على فوز هذا أو ذاك بفارق ضئيل من عديد النواب، وبتوسيع كتلة زعيمهم النيابية. هذا الاعتداد بالنفس والثقة الفائضة بالقوة تقليد قديم. استقبل لبنان «النقطة الرابعة» الأميركية وكاد يقترب من حلف بغداد عام 1955 ليرجّح الخيارات بين العالم الحر والشيوعية الدولية. نشأ الحلف الثلاثي في العام 1968 ليواجه الناصرية والموجة اليسارية.
انضم فريق سياسي كبير من اللبنانيين إلى جبهة التصدي والصمود ضد محور التسوية واتفاق كامب ديفيد. انهارت الحركة الوطنية على مذبح الصراعات العربية. عرضت «الجبهة اللبنانية» الاتحاد الكونفدرالي مع سوريا ضد الفلسطينيين. تعاون فريق من اللبنانيين مع إسرائيل لإخراج سوريا من لبنان.
اللبنانيون سيقترعون لصالح السلاح النووي الإيراني أو ضده، مع «الاعتدال العربي» أو «الممانعة»، مع سياسة أميركا أو مع مقاومتها. هذا جزء مهم من الخطاب السياسي. الكائن اللبناني مسيّس جداً على مستوى القضايا الدولية. هو يطمح لتوجيه العالم ويفشل في إدارة وطنه.
اللبناني يراهن ولا يختار. يعامل الزعيم كحصان سباق. الانتخابات عندنا فولكلور مثل مباريات كرة القدم أو صراع الديكة أو الثيران لدى شعوب أخرى. المعايير التي يقترع على أساسها اللبنانيون تتراجع عن المستوى الديموقراطي. التعددية السياسية داخل الجماعات الطائفية إلى زوال. الهموم الاجتماعية إلى أدنى سلم الاهتمامات والأولويات. الفكرة الوطنية إلى ضمور مع صعود الولاءات الطائفية. الموارنة عينهم على صلاحيات رئاسة الجمهورية. السنّة عينهم على صلاحيات رئيس الحكومة. الشيعة عينهم على صلاحيات رئيس المجلس. لكن خلف هذه المطالب مشاريع ينطلق فيها الموارنة من الانعزال التاريخي إلى المشرقية. وينطلق السنّة من العروبة إلى الاندماج في النظام العالمي على أساس المصالح الاقتصادية. وينطلق الشيعة إلى تأصيل الإسلام السياسي المقاوم لمشاريع الاستكبار العالمي.
لبنان اليوم مجموعة شعوب واقفة على قارعة طريق الأمم الأخرى. نحن طوائف للتوظيف في السياسات الخارجية. لدى القوى السياسية المتنافسة مشاريع للبنان تفيض عن حجم الوطن الصغير، ولديها طموحات لكن ليس لديها وسائل كي تنجز «اللبننة» بمعناها الوطني الإيجابي الجامع، وليس لديها طروحات واقعية لبناء دولة تتسع لجميع طموحات الآخرين وأفكارهم.
لو تذكّر اللبنانيون كيف تهاوت الشعارات التي قادت البلاد إلى أزمة وطنية لكانوا الآن أكثر تواضعاً في نظرتهم للانتخابات ونتائجها. وصلت الأمور في لحظة ما إلى تجاوز الخطوط الحمر في ما خص السلم الأهلي، وباشرت بعض القوى اختبار الحرب الأهلية، فإذا هي تعود إلى القبول بما لم تقبل به من خلال «النصح الدولي» أو التفاهمات الدولية التي قادت إلى «اتفاق الدوحة». تصرف اللبنانيون بقضاياهم ومشاكلهم كأنها في خدمة الآخرين في الخارج الذين رتّبوا تلك التسوية.
على مستوى النظام السياسي انطلقت شعارات من كل القوى والاتجاهات لديها شهوة التغيير. تفسّر بعض القوى الدستور على هواها وهي تضمر تحويراً فيه. وتعلن قوى أخرى صراحة أنها تسعى إلى تعديل الدستور لتغيير النظام السياسي. نبرة الفيدرالية ارتفعت توصيفاً للواقع القائم أو طموحاً إلى دفعه في هذا الاتجاه. إذا كانت هذه هي مكوّنات السلطة المقبلة بعد الانتخابات فإننا في أزمة وطنية ستغرق كل الأفكار الإصلاحية وتشوّهها. معالجة الطائفية بالطائفية لن تنقذ لبنان مهما حاول البعض تطعيمها بالشعارات الجذابة.
السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى