تفنيد اطروحات فرويد وخرافة التحليل النفسي: “أفول صنم” لميشيل أونفري
نصرالدين شكير
إنها رجة مدوية تلك التي أحدثها الفيلسوف الفرنسي ميشيل أونفري مع الدخول الثقافي الحالي من خلال إصداره المثير للجدل ‘ أفول صنم، الأكاذيب الفرويدية’ عن دار النشر غراسيه، 2010. وهو كتاب لم يستسغه أتباع فرويد والتحليل النفسي عموما والفرويدية على الخصوص. هنا عرض لأبرز مضامين هذا المؤلف – الحدث.
بداية يقوم ميشيل أونفري بالتأصيل لعلاقته بفرويد من خلال استذكار اللقاء الأول الذي تم عندما كان يبلغ من العمر15سنة إذ عثر في سوق الكتب القديمة على كتاب ‘ ثلاث مقالات حول نظرية الجنس’ وكان لتوه قد غادر دار الأيتام التي كان يشرف عليها رجال دين ‘ ساليزيون’ وكان من بينهم من يستغل الأطفال جنسيا. وقد خلصه هذا الكتاب، إلى جانب كتب أخرى من جحيم البذاءة الذي عاش فيه. وفي مرحلة الدراسة الثانوية سوف يكون لثلاثة كتب محورية أثرها العميق في تكوينه المعرفي: ‘ بيان الحزب الشيوعي’ لمؤلفه كارل ماركس، و’ المسيح الدجال’ لنيتشه ثم ‘ ثلاث مقالات حول نظرية الجنس’ لسيغموند فرويد، وقد كان هذا الثلاثي بمثابة ‘ منارات في بحر هواجس المراهقة الهائج أو نجوم منيرة في ليل بدا وكأن لا نهاية له، بل ثلاثة معابر للخروج من الجحيم’ حسب توصيف أونفري الذي يقر بأنه’لم يفارق نيتشه إلى اليوم، أما عن ماركس فإنه يفضل عليه الماركسيين التحرريين، وفيما يخص فرويد وأتباعه الذين يريدون برأيه فرض قانونهم على الكون بأسره فإن العلاقة لم تعد كما سابق عهدها بل تدهورت إلى حدودها القصوى وذلك ما يبرر العنوان النيتشوي لهذا الكتاب – المحاكمة. لقد كان فرويد يشكل جزءا من البرامج الدراسية المقررة رسميا مثل أفلاطون من خلال ‘ الجمهورية’ وديكارت ‘ خطاب المنهج’ وروسو ‘ العقد الاجتماعي’ وغيرهم. في هذا السياق يشدد أونفري على أنه كان بالإمكان دراسة ماركس دون أن يكون المرء ماركسيا، أو سبينوزا أو أفلاطون دون أن يكون الطالب سبينوزيا أو أفلاطونيا. أما أن يقرأ المرء فرويد فلم يكن هناك خيار بين أن يكون فرويديا أو لا يكون كذلك، لأن التحليل النفسي بدا إذاك على أنه يقين كوني ونهائي، حيث لم يتم تقديمه على أنه فرضية من إنشاء رجل أو خيال فيلسوف، بل تم تقديم التحليل النفسي بوصفه ملكا مشتركا وحقيقة عامة، واعتبر التحليل النفسي في ذلك الأوان اكتشافا مثل اكتشاف كريستوف كولومبوس للقارة الجديدة. يلي تلك الفترة ولوج الجامعة سنة 1976 والتعرف على الفلسفة اليونانية القديمة من خلال أمثال لوكريسيوس ومؤلفه ‘ في طبيعة الأشياء’ وما صاحب ذاك من انجذاب نحو العالم القديم. في العام 1979 سوف يلتحق أونفري بمسلك التحليل النفسي لدراسة ‘ التحليلات النفسية الخمسة’ لفرويد والمقصود بها كل من حالة ‘ دورا’ و’ هانس الصغير’ و’ رجل الذئاب’ و’ الرئيس شريبر’ و’ رجل الجرذان’، التي قارب من خلالها فيلسوف فيينا الهستيريا والرهاب والعصاب الطفولي والعصاب الاستحواذي وجنون العظمة أو البارانويا، وقد ادعى فرويد أنه تمكن من علاج وشفاء أصحاب هذه الحالات. كما قرأ أونفري في ذلك الإبان كتباً أخرى لفرويد هي على التوالي: ‘ الأمراض النفسية في الحياة اليومية’ ، ‘ قلق في الحضارة’، ‘ مستقبل وهم’، إضافة إلى كتاب ديدييه أنزيوه: التحليل الذاتي لفرويد.
واستمر أونفري لعقدين من الزمن في تدريس التحليل النفسي ضمن دروس الفلسفة بالطريقة نفسها التي درسه بها، لكنه كان دائما يشعر بأن تدريس فرويد ليس مثل تدريس سبينوزا أو أفلاطون لأن الطلبة كانوا ينغمسون روحا وجسدا في التحليل النفسي، إذ كان يشهد تأثير ذلك المبحث عليهم ويقول أونفري في هذا الصدد:’ لقد كان يطلب منا تدريس مادة قابلة للاشتعال لنفوس سريعة التوهج’. وهكذا ظل فرويد يظهر في حياة الطلاب ثم يختفي ليظهر من جديد على هيئة إنشاء فلسفي، ليختفي مجددا بعد الحصول على البكالوريا، ويتبقى منه ما لامس أو هز النفوس الهشة لهؤلاء الطلاب. لقد كان أونفري يخشى من كونه قد ألقى بتلك الهويات الطرية إلى الجانب المظلم لعالم سحري، لا عقلاني يخلق لديهم اضطرابا عارما. ومن ثم كانت فكرة ‘ البطاقات البريدية الفرويدية’. لكن ما المقصود بالبطاقة البريدية في الفلسفة؟ إنها صورة مسكوكة ناجمة عن اختزال مجحف فعال يقترح قول حقيقة مكان أو لحظة ما انطلاقا من إخراج مشهدي وتقطيع وتأطير اعتباطي منجز على كلية حية مبتورة. إن البطاقة البريدية تجمع عالما مركبا في بوتقة صغيرة. كيف تجري الأمور في مادة الفلسفة؟ إنها تقترح’مسالك مختصرة وخلاصات ونصوصاً موجزة إما في شكل حكائي: شرب نبتة الشوكران السامة عند سقراط، الجرة الكلبية، سبابة أفلاطون الموجهة نحو السماء، وأصبع أرسطو الموجه نحو الأرض، المسيح المصلوب. . . أو في قالب نظري: أعرف نفسك بنفسك ( سقراط) العيش وفق الطبيعة ( ديوجين)، عالم المعقولات عند أفلاطون. . إلخ. ولا يخرج فرويد عن هذا العرض الفلسفي، إذ يكتفي العديد من المهتمين ( أساتذة وطلبة) بالبطاقات الفرويدية. وقليلون هم الذين يسعون إلى القبض على الحركية العامة لهذا الفكر من خلال قراءة الأعمال الكاملة للكشف عن جدلية الرؤية إلى العالم. وسواء في الأقسام الثانوية أو حتى في الجامعات توجد فقط كليشيهات يسهل تلقينها والتعليق عليها، بوصفها آليات لإشاعة فكر ما.
ما هي يا ترى هذه البطاقات البريدية الفرويدية؟ لقد اختار ميشيل أونفري عشرة أمثلة لهذا المعرض ويصرح بأنه كان بالإمكان تشكيل عدد أكبر من ذلك.
البطاقة البريدية رقم 1: لقد اكتشف فرويد اللاشعور بمفرده بواسطة تحليل ذاتي طموح وشجاع.
البطاقة البريدية رقم2: إن زلة اللسان والفعل المغلوط والنكتة ونسيان الأسماء الشخصية والتحقير تدل على أمراض نفسية عبرها نصل إلى اللاشعور.
البطاقة البريدية رقم 3: الحلم قابل للتأويل بوصفه تعبيراً منحرفاً عن رغبة مكبوتة. إنه المسلك الرئيسي للوصول إلى اللاشعور.
البطاقة البريدية 4: يعمل التحليل النفسي من خلال الملاحظات العيادية: إنه ينتمي إلى العلم.
البطاقة البريدية رقم 5: لقد اكتشف فرويد تقنية تسمح من خلال العلاج والاستبطان السريري بمعالجة وشفاء الأمراض النفسية.
البطاقة البريدية رقم 6: إن الوعي بالرغبة المكبوتة التي نتوصل إليها بعد التحليل النفسي يؤدي إلى اختفاء المرض.
البطاقة البريدية رقم 7: إن عقدة أوديب والتي بحسبها يرغب الطفل في قتل الأب رمزيا هي عقدة كونية.
البطاقة البريدية رقم 8: إن مقاومة ونقد التحليل النفسي دليل على وجود مرض، عصاب عند الشخص المتحفظ أو المشكك في التحليل النفسي.
البطاقة البريدية رقم 9: التحليل النفسي مبحث يعمل على تحرير الإنسانية.
البطاقة البريدية رقم 10: إن فرويد يمثل استمرارية العقلانية الرائدة لفلسفة الأنوار.
ويؤكد أونفري أن هذه الكليشيهات يتم ترديدها بشكل جماعي من طرف غالبية النخب المثقفة وتتبعها في ذلك الآلة الإيديولوجية وينتهي بها المطاف لتصبح بمثابة كتاب مقدس يحرم التشكيك فيه. بيد أن هذه البطاقات هي كليشيهات بالمعنى الذي يدل على أخطاء وعيوب صارت حقائق من فرط تكرارها بشكل يصم الآذان.
في العام 2006 أقدم ميشيل أونفري على تصور المكانة التي سوف يحتلها فرويد بدوره في ‘ تاريخ الفلسفة المضاد’ وهو سلسلة من الكتب عمل الفيلسوف الفرنسي على نشرها باعتبارها ثمرات فكرية لأعمال ‘ الجامعة الشعبية’. وقد ارتأى أن يدرس فرويد باعتباره فيلسوفا إحيائيا طور نظريته بوصفها استمرارا لشوبنهاور ونيتشه. وتقوم منهجية أونفري على دراسة الأعمال الكاملة، في الوقت الذي تعتمد فيه’ البطاقات البريدية’ على الكسل الذهني. إنه يقرأ الأعمال الكاملة في تسلسلها الزمني المنطقي، ثم الرسائل وهي مهمة لمعاينة ما يجري في الكواليس، إضافة إلى كتب السيرة حول فرويد المفيدة في’تنظيم وربط المجموع، وبالتالي وضع الإنتاجات الفكرية في سياق حياة الرجل وأسرته وعصره وزمانه. وفي هذا الإطار يفصح أونفري عن وفائه الدائم لنيتشه إذ يقر باعتماده الأطروحة النيتشوية في قراءة النصوص. ‘ إن التحريف اللاشعوري للمتطلبات الفيزيولوجية بدعوى الموضوعية أو الفكرة الملهمة أو الثقافة الخاصة قد يأخذ أبعادا فظيعة، وقد تساءلت مرارا ما إذا كانت الفلسفة لم تشكل في نهاية المطاف تفسيرا للجسد وسوء تفاهم لهذا الجسد’. نيتشه، المعرفة المرحة. ويقترح أونفري تاريخا نيتشويا لفرويد وللفرويدية وللتحليل النفسي: إنه تاريخ تحويل اللاشعور من طرف فرويد إلى مذهب، تحويل الغرائز والمتطلبات الفيزيولوجية لشخص، أي فرويد، إلى مذهب سحر الإنسانية، إنه تتبع لآليات الكذب والخرافة التي سمحت لفرويد بتقديم موضوعي و’ علمي’ للمحتوى الذاتي لسيرته الشخصية. وباختصار، يقترح أونفري خلاصة لتفسير تاريخ الجسد’الفرويدي.
باعتماد الكتب النقدية التي تناولت منظومة أفكار فرويد، رغم الهجمات الهستيرية التي تعرضت لها ( بدعاوى معاداة السامية والرجعية والعدمية بل والهيتلرية!) يخلص أونفري إلى أن فرويد كذب وحرف وزور وأشرف على صنع أسطورته الخاصة، وأنه تخلص من المراسلات التي تكشف أكاذيبه وخرافاته بمساعدة ابنته وتلامذته، وأنه سعى إلى إخفاء جميع الرسائل وخاصة المتبادلة مع صديقه الحميم السابق فلييس والتي تظهر فرويد على حقيقته كمريد مخلص لنظريات غريبة وشاذة: الرجم بالأعداد، والسحر وتوارد الخواطر. كما يبرهن أونفري، من خلال التتبع الدقيق لما حملته الكتب النقدية الموثقة، على أن فرويد يغير النتائج المتوصل إليها، كما أنه يختلق مصابين، ويدعي أنه يدعم اكتشافاته بحالات عيادية لا وجود لها في الحقيقة، إضافة إلى إتلاف الأدلة على تزويره ذاك. ويقدم الأدلة على أن نظرياته حول الكوكايين التي دافع عنها بشراسة قد تم دحضها على أيدي العلماء أمام الملأ. وعلاوة على ذلك يقيم أونفري الدليل على أن التحليل النفسي لم يشاف ‘ آنا. أو’ خلافا لتصريحات فرويد المتكررة طوال حياته. كما أنه لم يتم شفاء الحالات الخمس المشهورة والتي يتم تقديمها على أنها نماذج عليا للتحليل النفسي والمقصود بها حالة الصغير هانس ودورا وغيرهما. بل إن البعض منها قد ساءت حالته النفسية والعقلية والدليل الأكبر على ذلك حالة ‘ سيرغيي بانكاييف’ الرجل المشهور في عالم التحليل النفسي الخرافي برجل الذئاب الذي يتم ادعاء أن فرويد قد عالجه وشفاه، ذلك الرجل الذي توفي عام 1979عن عمر 92سنة وبعد خضوعه للتحليل النفسي لمدة سبعين سنة على يد عشرة محللين نفسانيين!
كما يتوصل أونفري في تحريه إلى أن فرويد كان يسهر على تغذية صدق أسطورة الاكتشاف العبقري الفذ والمتفرد للتحليل النفسي، هو الذي يريد أن ينسى الناس أنه كان قارئا نهما ومقتبسا بانتهازية كبيرة لأطروحات كتاب هم اليوم مغمورون. ويقر أنفري بأن كل محاولة للحفر تصطدم بجينيالوجيا تاريخية وتوثيقية منتحلة تقوم سدا منيعا أمام القراءة التاريخية لنشأة فكره ولإنتاج مفاهيمه ولجينيالوجيا مبحثه.
ونتيجة لذلك، يقول أونفري باقتناعه الجازم بضرورة تمزيق تلك البطاقات البريدية الفرويدية التي آمن بها لأزيد من عشرين سنة، ووضع بطاقات مضادة لها، وهو يسلك في ذلك الطريق نفسه الذي سار على هديه في منجزه الفلسفي الذي يحمل عنوان ‘ تاريخ الفلسفة المضاد’.
وتتمثل البطاقة البريدية المضادة رقم 1 في أن فرويد قد صاغ فرضيته حول اللاشعور في بيئة القرن التاسع عشر التاريخية بعد قراءات عديدة، علمية وفلسفية خاصة منها لشوبنهاور ونيتشه.
البطاقة البريدية المضادة رقم 2 أ. إن مختلف العوارض المتعلقة بالمرض النفسي في الحياة اليومية تمتلك معناها الدال لكن ليس من منظور الرغبة المكبوتة، خاصة الجنسية والأوديبية منها.
البطاقة البريدية المضادة رقم 3: إن للحلم معنى، لكن ليس من المنظور الجنسي والأوديبي.
البطاقة البريدية المضادة رقم 4: إن التحليل النفسي مبحث ينتمي لحقل السيكولوجيا الأدبية وينبثق عن السيرة الذاتية لفرويد وهو صالح بطريقة مثلى لفهم فرويد ولا لأحد سواه.
البطاقة البريدية المضادة رقم 5: إن العلاج التحليلي فرع من فروع الفكر السحري العجائبي، إنه يعالج مثلما يقوم تأثير الدواء الوهمي بذلك .
البطاقة البريدية المضادة رقم 6: إن الوعي بالرغبة المكبوتة لم يؤد بشكل ميكانيكي إلى اختفاء الأعراض كما لم يؤد أبدا إلى الشفاء.
البطاقة البريدية المضادة رقم 7: وعدا عن أنها ليست كونية بتاتا فإن عقدة أوديب تظهر رغبة فرويد الطفولية وحده ولا أحد غيره.
البطاقة البريدية المضادة رقم 8: إن رفض الفكر السحري العجائبي لا يلزم إطلاقا بأن يضع المرء مصيره بيدي ساحر مشعوذ دجال.
البطاقة البريدية المضادة رقم 9: تحت غطاء التحرير قام التحليل النفسي بتحويل المحرمات المكونة للنفسية إلى ما يحل مكان الدين.
البطاقة البريدية المضادة رقم 10: إن فرويد يمثل ما كان يطلق عليه في عصر الأنوار، الفلسفة المضادة، تلك الصيغة الفلسفية لنفي الفلسفة العقلانية.
ويفهم مما سبق أن التحليل النفسي ليس سوى مغامرة وجودية، سيرة ذاتية شخصية حصريا: إنه طريقة للاستعمال الشخصي لا غير.
إن التحليل النفسي، برأي ميشيل أونفري، وتلك هي أطروحة الكتاب، مبحث حق وصائب طالما انصب على فرويد بمفرده، فالتذكر اللاشعوري والتحليل الذاتي وتأويل الأحلام والبحث السيكوباتولوجي وعقدة أوديب والرواية العائلية والذكرى المحتجبة والأقوام البدائية وقتل الأب والأصول الجنسية للعصاب والتسامي، تشكل لحظات نظرية سيرذاتية بصورة مباشرة. وهكذا فإن الفرويدية مثلها مثل السبينوزية والنيتشوية والأفلاطونية والديكارتية والكانطية هي مجرد رؤية خاصة للعالم تدعي الشمولية والكونية. إن التحليل النفسي هو سيرة ذاتية لإنسان اختلق عالما كي يتعايش فيه مع استيهاماته مثل أي فيلسوف آخر.
ناقد أدبي ومترجم من المغرب
القدس العربي