نقد التراث أم نقد العقل ومصادرته؟
عمر كوش
تحولت ثنائية التراث والحداثة إلى إشكالية رسمت ملامح المشهد الفكري والثقافي في كتاباتنا العربية، طوال فترة مديدة من الزمن في تاريخنا الحديث، وخاض في النقاش والجدل، الذي دار حولها، مفكرون وأدباء وكتاب كثر، لكن لم يتم الخلص منها، ولم يحسم أمرها لصالح من انتصر إلى الحداثة وطالب بإدارة الظهر للتراث، ولا لصالح من انحاز إلى التراث وطالب بالركون إليه والتغني بأمجاده. النحات الصيني يانغ هويان (مواليد ١٩٦٦)
وطبعت هذه الإشكالية مناحي عديدة من الفكر العربي المعاصر، وعملت في حقول وميادين عديدة، تمخضت عنها مواقف وذهنيات مختلفة ومتفارقة، ولم يتم وعيها كإشكالية معيقة في وجه الفكر العربي الحديث، ولمسار تطوره الراهن، بل تحول كل من طرفيها إلى إيديولوجيا، تتحصن خلفها أسئلة الذات والهوية والآخر، التي ما زالت تسم معظم كتاباتنا العربية، بالرغم من وجود من يحاول التحرر من منطق الثنائيات، القائم على الفصل والإحالة والتهميش والنظرة الأحادية والأحكام المسبقة.
وإن كان التواصل مع التراث لا يعني التنكر للحداثة، كما أن الانتصار للحداثة لا يفضي بالضرورة إلى إهمال التراث، فإن الانتظام في مرجعيات التراث، قد يتحول انغلاق على الذات في دائرة لا تنفتح بقدر ما تنغلق، كما أن عدم فهم الحداثة بوصفها سيرورة فكرية ومجتمعية، تختلف من بلد إلى آخر، قد يفضي إلى الانسلاخ عن الواقع والارتهان إلى تقليد حداثة، لا تملك مجتمعاتنا مقوماتها ومفاعيلها.
وسعى بعض المفكرين في بلداننا العربية، أمثال عبد الله العروي وبرهان غليون وطيب تزيني وحسين مروّة ومحمد أركون ومحمد عابد الجابري وجورج طرابيشي وسواهم، إلى الكشف عن جذور التراث العربي الإسلامي عبر الحفر في طبقاته المعرفية المتراكمة، وعن آلية اشتغال العقل الذي أنتج هذا التراث. وحاولوا، بالاعتماد على المنهج النقدي، تحديد مواضع الخلل في التعاطي مع هذا التراث، وتبيان مكامن القوة والإبداع فيه، مع الأخذ بعين الاعتبار الفارق الزمني بين الماضي والحاضر، فخاضوا في حقل التراث تنقيباً، بعد أن حدّدوا الدخول في الحداثة هدفاً.
واقتضى الخوض في التراث، من بعض دارسيه، التوقف عند كل ما قد أنتجه العقل العربي الإسلامي، شفهياً أو كتابياً، فلسفياً أو دينياً، والبحث في أسسه وجذوره، مع الالتفات إلى المسكوت عنه، وإلى اللا مفكر فيه. وقاد ذلك محمد أركون إلى تناول الكيفية التي استوعب العقل العربي الإسلامي الفكر اليوناني، وتفاعل معه، من خلال المناظرات والمناقشات الخصبة، والإنتاج الفكري القيم الذي وصل إلينا. وعليه جرى التركيز على المناخ العقلي المنفتح على ما هو جديد، وعلى الحوار وعلى النقاش، بالمقارنة مع الانغلاق والقطيعة التي ستحدث في المرحلة التالية للعصر الإسلامي الكلاسيكي المبدع، مرحلة الاجترار والتكرار التي ما زالت تسود لغاية اليوم الخطاب الأصولي، بعد أن سيطرت على الخطاب الإصلاحي أو السلفي إبّان القرن التاسع عشر.
العقل العربي
بالمقابل، حصر مفكرون آخرون عملهم بالثقافة العالمة، بعد أن وضعوا خطاً أحمر منعوا أنفسهم من تجاوزه، ليحصروا دراساتهم وبحوثهم في إطار ما عرف باسم «العقل العربي»، وبما أنتجه في إطار البيان والعرفان والبرهان. وفي هذا السياق انطلق الجابري في كتابه «نقد العقل العربي» من مقولات وثنائيات سلّم بها دون أدنى دراسة نقدية، معتبراً أن العقل العربي الذي تكوّن وتشكل داخل الثقافة العربية الإسلامية، وعمل هذا العقل في ذات الوقت على إنتاجها، بحاجة إلى عملية نقد واسعة، دون أن يقدم تحديداً واضحاً لمفهوم العقل وفق مقتضيات البحث العلمي أو الفلسفي. ثم ميّز بين أقسام ثلاثة لهذا العقل: برهاني وبياني وعرفاني، وأشاد فيما بينها تقابلات ميتافيزيقية في ثنائيات مثل: عقل برهاني/ عقل بيانيي، وعقل بياني/ عقل عرفاني، توالد منها ثنائيات أخرى: عقل سني/ عقل شيعي، وعقل المغرب/ عقل المشرق..إلخ، وهذا يساير اختياره لثنائية أندريه لالاند: العقل المكِّون/ العقل المكَّون كنقطة انطلاق لنقده. ومثل كل تقابل ميتافيزيقي فإنه فاضل بين أحد طرفي الثنائية على حساب الطرف الآخر المرفوض بالنسبة إليه، لذلك تحول نقده للعقل العربي إلى مصادرة له على حساب تمظهراته التاريخية والاجتماعية المختلفة، فوقع في الخلط بين العقل وأدواته وتوظيفاته المتعددة، فضلاً عن أن العقل لا يمكن حصره في أمة بعينها أو في إقليم معين من الأرض، على أن نفهم الإقليم هنا ليس جغرافيا فقط، بل كوسط ومحيط وبيئة مكتنفة .
الدعوة إلى العقل
وقاد التفكير في الوضع العربي المنهار والتابع برهان غليون في كتابه «اغتيال العقل» إلى توجيه نقد ثقافي عام للعقل من حيث اتصاله بالتراث وتبعيته للهيمنة الغربية، ما جعله ينظر إلى بناء العقل من خلال اللحظة الحضارية للجماعة، بوصفها لا تنحصر في الحقل العلمي أو الأخلاقي أو الفني، بل تتخطاها إلى حقل أكبر يشملها مجتمعة في التجربة الحضارية للجماعة، لكن غليون لم يقدم مفهوماً محدداّ للعقل، إنما امتزج العقل لديه بالعقلية وحالات تشكلها التاريخي الاجتماعي، فاكتفى بتوجيه النقد إلى العقلية السلفية وتوجهاتها، وإلى العقلية التابعة للغرب وتوجهاتها، مقدماً مقاربة سياسية وثقافية لمفهوم العقل على حساب المذهبيات العقلية ومنهجياتها.
أما طه عبد الرحمن، فقد حاول في كتابه « العمل الديني وتجديد العقل» إعادة الاعتبار إلى العقل في الفكر الديني، وانطلق من الفصل ما بين العقل بوصفه أداة دنيوية وبين الإيمان والتعبد بوصفها أنماطاً متعلقة بالآخرة، فبقيت محاولته لوصل العقل بالدين خارجية، فلجأ بدوره إلى تشطير العقل إلى ثلاثة أجزاء: العقل المجرد، والعقل المسدد، والعقل المؤيد، وأقام تقابلات ميتافيزيقية تفاضلية بينها، أفضت إلى انحيازه للعقل المؤيد المتدارك لنقائض العقل المجرد وآفات العقل المسدّد وذلك بالتعويل على التجربة وطلب الكمال في العمل الشرعي. هذا الكمال لا يظهر، على حدّ قوله، في الممارسة العقلانية الإسلامية بقدر ما يظهر في الممارسة الصوفية. وبذلك قام طه عبد الرحمن بمصادرة مختلف أشكال العقل على حساب التصور الصوفي للعقل، متخذاً من الفهم المغلوط لأبي حامد الغزالي وتشددية أبن تيمية موجهاً له، ويحذوه في ذلك مسعاً غائياً هو الوصول إلى الكمال الشرعي وفق أوصاف الممارسة الصوفية التي اعتبرها أوصاف العقل الحقيقية. ويتأسف في كتابه «فقه الفلسفة» لكون المسلمين لم يأخذوا برأي ابن تيمية بالتدليل الشرعي الذي «يأخذ بما أثبته الشرع وأذن فيه، باعتباره جامعاً للعقل والسمع معاً»، لأنه لو أخذوا به لأحدث ليس «مجرد انعطاف في الفكر الإسلامي، بل لأدى الى انقطاع حقيقي فيه»، فمضى من غير أن يتفطن إليه أحد على حدّ زعمه.
لا شك في أن هذه النقود، إضافة إلى أبحاث ودراسات أخرى، تدخل في إطار الاهتمام بإعادة الاعتبار إلى العقل داخل الفكر العربي، وتؤكد ضرورة العودة إلى مفهوم العقل، بغية تحديده وضبط مقوماته ومركباته في ظل المعطيات الفلسفية والعلمية الجديدة.
وقد خضع العقل، تاريخياً، لدراسات وأبحاث عدة، من أجل تحديد مفهومه ومركباته والمشكلات التي يطرحها، في ضوء المتغيرات العلمية والفلسفية المستجدة، وبغية أقلمة المفهوم في التربة المعرفية التي تخص كل مجتمع، وبوصفه أداة معرفية جامعة بين البشر، للتفكير والبحث عن الحقيقة، له مكوناته ومقاصده وطرق عمل وتمظهراته المختلفة والمتغايرة بتغاير العلوم والأقاليم الحضارية. ويكشف تاريخه عن هزائم وانتصارات وتقلبات واستقرار، لأنه شكّل على الدوام وسطاً للتفاعل والتفاهم والحوار، ومعياراً للتداول ونظاماً للقيم..إلخ. ولا طائل من البحث عن عقل عربي أو صيني أو غربي، فليس هنالك عقل لكل أمة أو قارة أو لما شابه ذلك، فالعقل لا يعرف مثل هذه المصادرات والتقسيمات والتشطيرات إلا في أوهام الميتافيزيقا ومرجعيات الفصل والإحالة الناظمة لأنماط وطرائق تفكيرها.
السفير