ما مصير العرب كشعب تاريخي في حال زوال النصارى؟
نشرت مجلة «الكتب ـ وجهات نظر» (عدد تشرين الأول 2010) مقالة للمؤرخ كمال الصليبي بعنوان «المسيحيون العرب». منها نقتطف
يعز علي كثيراً: كوني عربياً انتسب الى المسيحية (..) ان اكون الشخص الذي اختير ليطرح موضوعاً درجت تسميته بتراجع الدور المسيحي في لبنان، أو في المشرق العربي، أو في عالم العرب عموماً، أو مهما يكن الأمر، وكان المسيحيين في ديارنا ليسوا سوى بقية باقية من شعب منقرض: بقية تنتظر دورها لتنزلق في متاهات الزوال. ان مجرد طرح هذا الموضوع من قبل العرب المسيحيين هو في رأيي افتراض في غير محله لأنه يتجاهل حقائق تاريخية وحضارية ووجودية ولأنه يعني، ضمنا، ان العربي المسيحي لا يعتبر نفسه عربياً بكامل معنى الكلمة لمجرد وجوده حيث هو، مهما كان موقف العربي الآخر منه.
الموضوع الذي يجب ان يطرح ليس هذا، بل موضوع آخر أكثر منه خطورة، وهو سؤال يلزم طرحه ليس فقط في البلاد العربية حيث للعرب المسيحيين وجود، بل أيضا في تلك البلاد التي ليس لهم فيها وجود أو حضور دائم، سواء في مشارق بلادنا أو في مغاربها. هذا لاسؤال البالغ الأهمية يمكن ايجازه كالآتي: ما هو مصير العرب كشعب تاريخي في حال زوال النصارى من بينهم، مع لاأخذ بالاعتبار ان مثل هذا الزوال للنصارى العرب، في صورة أو أخرى، أمر يمكن تخيله؟ الذي سيحدث هو ان العرب لن يبقوا عرباً، في حال زوال النصارى مما يطلق عليه حتى الان اسم العالم العربي. لن يبقى العرب عرباً على أرضهم التاريخية بل ان الأمر يتخطى ذلك بكثير ويتجاوزه مع مثل هذا الزوال المفترض للنصرانية العربية. لن يكون هناك شيء في العالم اسمه عرب بالمعنى الكياني التاريخي الوجودي المطلق ودون تحفظ وبعبارة أخرى، لن يبقى هناك في أي مكان من العالم كينونة عربية قائمة بذاتها لا تتصف الا بعروبتها.
سوف أطلق هنا العنان لخيالي فأقول: لبنان، بالنسبة الى العرب، هو آخر معاقل النصرانية في ديارهم ومنذ عشرين سنة تقريباً، عندما بدا للعرب من أقصى مشارقهم الى أقصى مغاربهم، ان النصرانية في لبنان توشك على الانهيار، تملكهم الخوف وهبوا جميعاً لوضع حد لهذا الانهيار، لا بل لمنعه من الحصول. فكانت وثيقة الطائف: هذه الوثيقة التي يتصدى لها من نصارى لبنان فريق ويرى فيها مساً بالمصالح المسيحية ونيلاً من حقوق يعتبرونها خاصة بالمسيحيين وكان على رأس المتحمسين لمنع انهيار المكانة الخاصة بالمسيحيين في لبنان من كان على خصومة معهم من مسلمي البلاد منذ تأسيس الدولة اللبنانية عام 1920 وحتى أواخر الحرب الأهلية.
(..)
لو لم يكن المسؤولون العرب في ذلك الوقت، مدركين كامل الادراك، في سريرتهم ان لم يكن جهراً، أهمية النصارى العرب، ونصارى لبنان تحديداً: لكينونة العربية التاريخية برمتها. هل كان حدث مثل مؤتمر الطائف يعقد أصلاً، بل يستمر منعقداً حتى الوصول الى نتيجة تبقي النصارى في البلاد على رأس الهرم، وأن بصلاحيات لا تستفز غيرهم من اللبنانيين كما كان الواقع في السابق؟ هل هذا الحدث التاريخي الفريد من نوعه، الذي هو انعقاد مؤتمر الطائف للبت العربي في امر لبنان. يعني ان نصارى لبنان بقية من شعب منقرض غير مرغوب في استمرار وجوده وفعالياته في العالم العربي؟ هل يعي نصارى لبنان الى الحد الكافي ان عالمهم العربي الذي تهب عليه الرياح من كل صوب، لم يتحرك جدياً حتى الان الا لنصرة لبنان والوضع الخاص للنصرانية فيه. وهل من اهمية للبنان الا كونه، في نهاية المطاف، وبسبب التركيبة الديموغرافية الخاصة به، محجة لا محجة بعدها للعالم العربي؟
نعود الى الموضوع الذي طلب مني معالجته تراجع الدور المسيحي في لبنان وبلاد المشرق والعالم العربي. وأنا ارد على هذا الافتراض بطرح سؤال آخر: ما هو هذا الدور المسيحي الذي نتحدث عنه؟ هل لدى العرب المسيحيين في الوقت الحاضر ميزات عقلية او تقنية او غير ذلك تجعل منهم عنصراً لا يستغنى عنه في ديار العرب؟ ربكا كان ذلك صحيحاً في الماضي في بعض الفترات وعلى بعض الصعد. لكننا نتحدث عن اليوم اي، أولاً بعد زوال الحدود في انتقال المعلومات بين الشرق والغرب في العالم عن طريق وسائل الاتصال الإلكترونية، وثانياً، بعد انحسار الفارق في التقدم الحضاري بين المسيحيين وغير المسيحيين في العالم العربي، وانفتاح العرب عموماً على طروحات ومتطلبات العالم الحديث والعلاقات الدولية الحديثة.
اليوم، وبعد كل هذه التغيرات التي جاء بها العالم المعاصر، يبقى لنصارى لبنان وبلاد المشرق العربي خصوصية تتمثل أكثر ما يكون في كينونتهم واستمرار وجودهم على أرضهم التاريخية إن هم شاءوا ذلك فعلياً. و»الحجر على أرضه قنطار»، كما يقال. أما إذا نقلنا هذا الحجر الى الخارج، فعند ذلك يصح فينا قول زهير بن أبي سلمى، من شعراء الجاهلية (وثمة من يعتقد أنه كان من نصارى ذلك العصر):
ومن يكُ ذا فضل ويبخل بفضله
على قومه يستغنى عنه ويذمم
اعتداد العرب المسيحيين بالمهاجرين والمغتربين منهم هو في نظري ظاهرة مساوئها أكثر من محاسنها، إن لم يكن لشيء فلأنه يشجع نصارى بلادنا ضمناً، وغيرهم، على الهجرة. والهجرة هي من أهم أسباب تناقص أعداد النصارى في بلادنا نسبياً ومطلقاً، إن لم يكن أهمها. هذا التناقص في الأعداد هو السبب الأساسي للتخوّف العام (وليس المسيحي فقط) من تراجع الدور المسيحي في جميع بلاد المشرق العربي، والأصداء السلبية المنظرة لمثل هذا التراجع.
المسيحيون الباقون حتى اليوم في ديارهم العربية، وإلى جانب رهطهم، هم وحدهم من حماة هذه الديار، إن هم أرادوا ذلك فعلياً. المطلوب منهم هو، فقط، استمرار وجودهم حيث هم، حتى تستمر الظاهرة التاريخية التي اسمها العرب النصارى، التي بدونها لن يكون هناك شيء اسمه عرب. فهل ندرك عمق المسؤولية التاريخية والحضارية المنوطة بنا وخطورتها؟
المستقبل