في «خصوصيّة» الشك العربي
محمد الحدّاد
هناك، في العالم كله، حذر وريبة من كل ما يلقى على مسامعنا من أخبار معلومات، وهناك توجس، معلن أو مضمر، من أنّ المواطن العادي، بل النخب الإعلامية والسياسية نفسها، لا يمكن لها أن تحيط علماً بكل شيء، وأنها مضطرة لأن تسلّم بالعديد من الأمور تسليماً.
تتقاطع ثلاث ظواهر أساسية لترسيخ هذا الشعور، أولاها أننا خرجنا مع نهاية القرن العشرين من ظرف الحرب الباردة، وتمّ الإفراج بتلك المناسبة عن آلاف الوثائق السريّة التي اكتشفنا بواسطتها أن الحكومات الأكثر ديموقراطية، دعك عن غيرها، يمكن أن تغالط مواطنيها باسم المصلحة الأمنية العليا، ويمكن أن تضلّل الرأي العام العالمي حول قضايا كبرى.
ثانيتها أننا دخلنا في عالم شديد التعقيد، لم تعد الحكومات وحدها المدبّرة لأموره والمسيّرة لشؤونه، فهناك مؤسسات أضخم من بعض الدول وشبكات مصالح ذات نفوذ هائل، ويمكن أن يتحوّل ثقل الأحداث من كيانات محدّدة مثل الحكومات إلى أطراف غامضة لا يمكن تحديدها بيسر ولا يعرف على وجه اليقين ما أهدافهما ومن القائمون عليها. ومما يزيد هذا العالم تعقيداً أن أحداثه أصبحت تُتلقّى على أساس كوني، وأن كل واحد منّا أصبح يرى نفسه معنياً بكل الأحداث الكبرى في العالم، ما يعني بالضرورة شعوره بالعجز عن التأكد من مصادر المعلومات، بما أنها معلومات تتجاوز المجال الجغرافي المباشر لوعيه.
ثالثتها أننا نعيش مرحلة تشكل عالماً جديداً يأخذ مكان عالم قد انهار، ويترتب عليه تواتر غير عادي للأحداث، فيكاد يلغي كل حدث سابقه ويمنع من تحقق مسافة نقدية وأمد معقول يمكنان من التفكير فيه والمراجعة في شأنه. فنحن نستهلك الأحداث بنفس وتيرة الاستهلاك العالي التي تميّز حياتنا العصريّة في كل مناحيها، ونشعر أمامها بالعجز لا لأننا عاجزون عن منعها أو تغييرها وإنما أيضاً لأننا عاجزون أحياناً عن مجرد فهمها أو حتى الاحتفاظ بها في ذاكراتنا للأجل الذي نرغب.
يمثل هذا الوضع بخاصة الإنسان في العصر الحالي، وهو العصر الذي يطلق عليه البعض «الحداثة الفائقة»، وقد يمثل المرحلة الموالية لما عرف سابقاً بـ «ما بعد الحداثة». وعلى هذا الأساس، تبدو مناقشاتنا العربية، في الإعلام والنوادي والجلسات الخاصة، خاضعة لنفس المنطق العالمي السائد، فهي مناقشات مبنية على الشك: «نحن» نتوجس من وجود مؤامرة كونية ضدنا، نشك في حقيقة تفجيرات 11/9/2001، نظن أن إسرائيل تقف وراء كل حدث، نرجح وجود صفقة بين السلطة الفلسطينية والرئيس الأميركي أوباما لتصفية القضية الفلسطينية، نعتقد أن أوباما نفسه ليس إلا شخصاً وضع ليلمّع صورة الولايات المتحدة وأنه كاذب في كل ما يقول، وهلم جرّا.
إذاً، نحن نتعامل بالشك مع كل شيء. مبدئياً، قد يبدو الأمر مبرراً، فهذا هو الاتجاه السائد في العالم كله، ونحن جزء من العالم. لكني صراحة أشكّ في أن تكون شكوكنا من النوع السائد عالمياً، وأتوجس من أن تكون لدينا خاصية وامتياز في هذا المجال أيضاً، «نحن» المتمسكون دائماً بخصوصياتنا. ذلك أنني أرى نزعات الشــك عندنا تعمل دائماً في اتجاه واحد وننتهي دوماً لتأكيد اليقين لا لنسفه: فـ «نحن» المحقون في كل شيء، لا يحتاج شيء مما ألفناه وعهدناه للمراجعة أو المحاسبة أو الإصلاح أو التغيير، المؤامرات الخارجية هي المسؤولة وحدها عن كل مصائبنا وما علينا إلا أن نفضحها ونتصدى لها. أكتفي بتقديم نموذجين من التحاليل العربية السائدة هذه الأيام:
أولاً، نحن مدعوّون إلى أن نشكّ في العدالة الدولية ونتوجس من كون المحكمة الدولية في لبنان مثلاً لم تبعث إلا لإدخال لبنان في الفوضى وجعله بداية مشروع تقسيم طائفي للمنطقة. لا أملك أن أنفي هذا الافتراض، بيد أنني ألاحظ أن كبار العالمين بخفايا الأمور وبالتعقيدات الإستراتيجية لا يجيبوننا عن سؤال بسيط: من اغتال رفيق الحريري يوم 14/2/2005، وما هي الآلية التي يقترحون للإجابة عن هذا السؤال؟ أم أنهم يرون السؤال بسيطاً جدّاً لا يستحقّ أن تنكبّ عقولهم الخارقة للتفكير فيه؟
ثانياً، في كل ذكرى تفجيرات 11/9 نطلق العنان لشكوكنـــا فـــي أن يكون هذا الحادث فبركة أميركية و/أو إسرائيلية. أعلم طبعاً أن هناك من غير العرب من يدافع عن وجهة النظر هذه، لكن نسبهم في العالم قد تكون في حدود 1/1000، أما عندنا فربما تكون 10 أو 20/100، أو ربما أكثر، ناهيك أن بعض «كبار» محللينا قد حوّل الشك إلى يقين وأصبح يتحدث عن المسألة وكأنها محسومة، وآخرين رأوا كافياً أن ينشر موقع أميركي («بريس باكلارت») تقريراً في هذا الاتجاه لتحسم القضية، مع أن هناك المئات من المواقع الأميركية ومراكز الدراسات، ولا يكفي أن يكون الموقع أميركياً ليصبح حجة في الموضوع. المفروض التثبت من هويته وهوية القائمين عليه، لكن الحسّ النقدي يختفي بسرعة لدى البعض من الشكاك.
كـــان المفروض أن نكـــون على قائمة المناوئين للإرهاب لأننا أول ضحاياه وأكثرهم، وكـــان المفروض أن نكـــون على قائمة المناوئين للتشدد لأننا خبـــرنا هذا الموقف في قضايانا على مدى عقود وأدركنا نتيجته، وكان المــفروض أن نجعــــل الشك بداية مراجعـــة لأوضاعنا كي نتخلــص مما كبّلنــا علـــى مــــدى دهـــور ونواجه العالم، سواء كان يتآمر علينا أو يسعى ببساطة إلى تحقيـــق مصالحـــه، مواجهـــة معقلنة ورشيدة، بدل أن نواجه أخطار الحاضر بالعيش على الأوهام، ونتعامل مع الشك في عصر الحداثة الفائقة مثل تعامل بعض علماء الكلام مع المنطق الأرسطي في العصر الوسيط: باعتباره آلة للردّ على المخالفين وليس منهجاً في ترتيب الفكر وتوجيهه.
قديماً قيل: الشك طريق اليقين. أما الآن فاليقين هو التسليم، والشك منع العقول من مراجعة الذات.
الحياة