… عن الطائفية وأزمة الهيمنة الوطنية
ياسين الحاج صالح
لا تختـــلف المــجـــتمعات العربية، المشرقية بخاصة، عن غيرها في كونها مكونة من جماعات دينية ومذهبية وإثنية متنوعة، ولا في قابلية تسييس الفوارق الاجتماعية الثقافية هذه في سياق تنافس النخب على السلطة والثروة والنفوذ. الواقع أن الاجتماع البشري مُولِّد، كان ولا يزال، لجماعات متنوعة، قد تتخاصم وتتعادى وتتحارب. التوافق بينها ممكن، لكنه ثمرة جهود منظمة لا تتوقف، الغرض منها بناء مشتركات وقرابات تنتظم الجماعات، بحيث يتشكل مستوى إجماع أعلى سيد، يخفض من مرتبة الفوارق الثقافية والدينية والعرقية إلى مستوى النسبي والجزئي، أي التابع المجرد من السيادة، والمحصور في النطاق الاجتماعي.
قد تكون الفوارق موروثة وطبيعية أو مكتسبة وصنعية، أما الإجماعات فهي مكتسبة وصنعية حصراً. وهي ثمرة جهود عامة موصولة، سياسية واقتصادية واجتماعية وقانونية وتعليمية وثقافية. فإذا تعطلت هذه الجهود، كان مرجحاً أن تنتعش الفوارق الموروثة وتتصلب الفوارق المكتسبة، وأن يستعر التنافس بينها على الدولة، مقر السيادة.
وتتوسل السيادة «احتكار العنف المشروع» لصون الوحدة الاجتماعية، لكن فرص نجاحها عند توافر فكرة عامة موحدة أو مشروع عام جاذب أو هوية عليا استيعابية، أي حين تتحقق الهيمنة الفكرية والثقافية المحققة للنخب القائدة. الهيمنة تضفي صفة «طبيعية» على الهوية الجامعة، تتغلب على «طبيعية» الفوارق الموروثة.
والحال أن ما قد يميز مجتمعاتنا المعاصرة هو بالضبط أزمة الهيمنة التي تعصف بها منذ أكثر من جيل. أي أزمة الفكرة العامــة والمـــشروع الموحد والقيادة المعنوية. وســـنقول على الفور إن الطائفية من أولى ثمار هذه الأزمة. هذا كي نتخلص من فكرة أن سبب الطائفية هو وجود «الطوائف» أو الفوارق الثقـــافية والدينــية الموروثة. الفوارق تعريف للاجتــماع البشري في كل زمان ومكان، أما الطائفــية فهي نتاج تعطل العمليات المنتجة لإجماع عام، السيادة والهيمنة. أما النتاج النوعي للطائفية ذاتها فهو «الطوائف»، أنواع اجتماعية متصلبة، تتصرف كوحدات سياسية، وتطمح كل منها أن تكون صاحبة الكلمة العليا، أي الجهة المقررة السيدة.
لنحو جيل، بين خمسينات القرن العشرين وبعض سبعيناته، كانت الفكرة العربية هي الأساس الديناميكي لتكون إجماع جديد وأكثريات جديدة في البلدان العربية الطليعية. فقدت موقع الهيمنة منذ سبعينات القرن العشرين. وبينما كان المرشح الطبيعي لخلافتها هو الوطنيات المحلية، المصرية واللبنانية والعراقية والمغربية…، فإن هذه افتقرت على الدوام إلى صفة المشروع المستقبلي. والغريب أنها لم تزعمه لنفسها، فكأنها ارتضت أن يكون محتواها التحرري ضئيلاً.
على رغم طوباويتها، وجزئياً بسببها، كانت الفكرة العربية أقدر على الهيمنة. وهذا لأنها ارتبطت بقيم التحرر الوطني والتقدم والاشتراكية والمساواة العالمية والشراكة مع آخرين في قارات واسعة، وبدرجة ما مع شركاء في الغرب ذاته، أي مع أكثرية عالمية. الواقع أنه عبر هذا الارتباط تم صنع العرب من مادة بشرية لم تكن عربية دوماً. كانت العروبة نتاج الهيمنة، وليس العكس (بالمقابل، يتباعد اليوم عن الفكرة العربية حتى من هم عرب إثنياً).
لم يستطع أي من الكيانات العربية الحديثة الانتساب إلى سلالة قيمية كهذه، بل هي تبدو في الواقع متحفظة عليها، أو حتى معادية لها. بوصفها كذلك، لا يبدو أن للدولة الإقليمية العربية قضية إيجابية من أي نوع. ولا يكاد يكون خافياً أن شعار «مصر أولاً» أو «الأردن أولاً»…، لا ينسجم مع الارتباط العربي، وأنه اقترن دوماً بسياسات تنزع إلى الارتباط مباشرة بالمركز الغربي.
دون قضية، ودون مشروع عام موحد، آل وضع الدولة العربية القائمة إلى أن تكون غلافاً لأزمة هيمنة متفاقمة. وإلى ازدهار الطائفية، الحاملة لمشاريع سيادية محتملة.
ينبغي أن يبدو هذا غريباً. إذ يفترض أن الدولة القائمة، السورية أو المصرية أو العراقية…، تتيح توحد سكانها، وهم عرب وغير عرب غالباً، أكثر مما تتيحه فكرة عربية عريضة وفضفاضة.
نعم، لــو كــان لــهذه الدولة مضمون إيجابي. لو كانت مشروعاً مؤهلاً للهيمنة. لم تكن.
غير الطائفية، اتسمت الدولة القطرية العربية بسمتين مرتبطتين جوهرياً بأزمة الهيمنة. القمع الفائض والزعامة الكاريزمية.
قد يمكن تعريف الهيمنة بأنها القيادة المعنوية والسيطرة عبر الإقناع والرضا. وبذلك تتيح الاقتصاد في القمع والعنف. في ظل أزمة الهيمنة يحل العنف محل التراضي الغائب. هذا عرفه المجال العربي على نطاق واسع ومهول في ثمانينات القرن العشرين بخاصة.
أما الزعامة الكاريزمية فهي بمثابة تعويض عن ضحالة الكيان الوطني وضعف شرعيته الوجودية. كان للعروبة في وقت سبق وجه آخر غير وجهها التقدمي والعالمي، يطل على الميراث اللغوي والثقافي والتاريخي الإسلامي، وهو الوجه الذي أتاح تماهياً ميسوراً نسبياً بها من أكثريات اجتماعية جاهزة تقريباً (من هنا شاع الربط في ثمانينات القرن العشرين وبـعـــد بين العروبة وبين الإسلام السني). الكيانات الحديثة منفصلة عن هذا الميراث المُسهِّل للهيمنة. الزعيم الكارزمي، المستبد دومــاً والطاغيــة أحياناً، احتمال راجح في دول حديثة جداً، وبلا عمق تاريخي وثقافي.
في الوقت نفسه تقريباً، النصف الثاني من السبعينات، سوف ينتحل الإسلاميون العمق التاريخي، وفي صيغة إيديولوجية ومحاربة، تقوم على الخصوصية الإسلامية. قد تكون الإسلامية رداً على الانقطاع العنيف عن الميراث التاريخي، لكن منزعها الحزبي المتوتر من جهة، وجنوح أغلب تنظيماتها إلى العنف من جهة ثانية، مؤشران على أزمة هيمنة إسلامية عميقة بدورها.
في المحصلة سيكون لدينا المشهد التالي: مجتمعات منقسمة طائفياً، دول قمعية، زعامات كاريزمية، وحركات إسلامية عنفية وطائفية. إنها نواتج أزمة الهيمنة.
هل من مخرج؟ نتصور أننا بحاجة إلى إعادة هيكلة ميراثنا الثقافي وإعادة ترتيب علاقات الســيادة والهيمنة بين هوياتنا الكبرى الثلاث، الإسلام والعروبة والرابطة الوطنية، لمصلحة الأخيرة. ينبغي أن تقوم هذه على المواطنة المتساوية وعلى الحريات والرفاه العام من جهة، وعلى سندين ثقافيين هما العروبة والإسلام من جهة أخرى. يمتنع أن يقوم أي إجماع باستبعاد هذين السندين، لكن يستبعد أن يقوم إجماع على أرضية أي منهما. ومن شأن إعادة الترتيب الاستيعابية هذه أن تحررهما من ممارسة العنف المادي (الحرب، القمع، القتل) والرمزي (تخوين، تكفير، حرمان من المواطنة) وتنيطها بالدولة وحدها. وإذ يؤسس على هذا النحو لتجاوز أزمة الهيمنة، فإن من شأن الترتيب الجديد أن يسهم أيضاً في تجفيف منبعي الطائفية: التمييز بين السكان، والانفصال عن العمق الثقافي التاريخي.
خاص – صفحات سورية –