الحتمية الثقافية… وهم النماذج الثابتة
د. برهان غليون
هناك فكرة رائجة اليوم، أو نجحت في ترويجها الأدبيات وأجهزة الدعاية، الرسمية والأهلية، تفيد بأن ثقافة العرب والمسلمين، لا تزال ثقافة تقليدية محافظة، لم تدخل بعد في روح العصر وأفكاره وقيمه، وأن هذه التقليدية، بما تعنيه من تشبث بالدين وتنكر للعقل وبعد عن البحث العلمي وإنكار لقيم الحرية والفردية… هي التي تفسر وضعية العرب اليوم وما يميزهم من تأخر بالمقارنة مع الشعوب والمجتمعات الأخرى في طرق باب الحداثة السياسية والاجتماعية والثقافية والعلمية، وخوض غمارها، للخروج من القرون الوسطى والدخول في عصر الديمقراطية والمآثر العلمية والثورة التكنولوجية والمعلوماتية. ويشارك في هذه الأطروحة من يطلقون على أنفسهم اسم العقلانيين، من يساريين وليبراليين يمينيين وقسم كبير ممن يسمون أنفسهم إسلاميين أيضاً. وبالنسبة لـ”العقلانيين” يكاد الأمر يكون بديهة لا تحتاج إلى برهان، ويكفي للتحقق منها التأمل في حالة المجتمع العربي حالياً في الثقافة والسياسة والاقتصاد وغيرها. فهي مجافية لقيم الحداثة جميعاً؛ العقل والحرية الفردية والمواطنية والتعددية والديمقراطية. أما بالنسبة للتراثيين والإسلاميين خاصة، فانتشار التقاليد الدينية والتراثية هو الحجة القاطعة على سقوط وهم الحداثة وأسطورتها في البلاد العربية والعودة المظفرة للهوية، وتأكيد قانون التدافع الحضاري ونضوج الظروف لدورة حضارية جديدة يكون للإسلام وثقافته فيها موقع القيادة والتوجيه.
ومن هنا تركز الصراع داخل العالم العربي منذ أربعة عقود حول الثقافة العربية والإسلام خاصة، وتفرعت عنه صراعات فكرية مستمرة، وترسخ الاعتقاد بأن مصير العالم العربي خلال العقود القادمة مرتبط بحسم معركة العقل ونجاح عملية التنوير وتأويل التراث، عقلانيا وعلمانياً من جهة، أو ديانياً وإلهياً من جهة ثانية. وصار تعريف الإسلام، ومن ثم تأويله أو إعادة تحديد معناه ومضمونه، محور النقاش العربي؛ الفلسفي والاجتماعي والسياسي. وهناك اعتقاد قاطع اليوم، حتى عند الماركسيين الذين يشددون على المنهج المادي، بأنه لا خلاص من الانسداد الذي يعرفه النظام والمجتمع العربيان، والذي يتجلى عبر تفاقم النزاعات الداخلية وبطء التنمية ورسوخ الديكتاتورية والاستبداد، وغياب حكم القانون… من دون البدء بإصلاح الفكر الديني، وفي المقدمة إعادة تفسير القرآن وتحديد موقعه ومكانته في نظام المعرفة والعقيدة الراهن. وهذا ما يفسر تكاثر محاولات إعادة قراءة القرآن أو تفسيره أو تأويله من قبل العرب والغربيين معاً، والتعمق في فهم سيرة النبي وتجربته وأسرار نبوته ورسالته.
وحتى لو لم يعتقد جميع هؤلاء الذين يتبنون هذه الطريقة في مقاربة الأوضاع العربية بأن مفتاح فهم مصير المجتمعات الإسلامية موجود في القرآن والسنة، أي الثقافة العربية التقليدية التي ينظر إليه غالباً كثقافة دينية محض، فإنهم يعملون على هذا الأساس. وهنا يتعذر أن نفسر سلوك الناس إلا من خلال ثقافتهم والقيم التي تزرعها فيهم والتوجهات التي تغذيها والآمال التي تطلقها والمخاوف الدفينة التي تخفيها!
لكن ليس من الصعب أن ندرك التبسيط المخل الذي تقوم عليه مثل هذه المقاربة. فالثقافة لا تعيش خارج المتثقفين بها، أي البشر من أفراد ومجتمعات، والبشر المتثقفون بثقافة، مضطرون غالباً، رغم ضغط التقاليد والنماذج السائدة التي تمثلها، إلى التعامل مع واقع متغير، يعلمهم دائماً كيف يُأولون ثقافتهم ويعدلونها بما يضمن لهم النجاعة في تعاملهم مع الواقع والاتساق مع أنفسهم ومبادئهم في الوقت نفسه. فالثقافة ليست مخزوناً من القيم الجامدة والثابتة ولكنها فعل تثقف مستمر عند الفرد، أي مراجعة دائمة غير واعية للمسلمات والقيم والمبادئ تحدد الاختيارات وترتب الأولويات وتعدل الاتجاهات وتعيد بناء المعاني والدلالات على ضوء الأهداف الجديدة أو المتجددة. وكما أنه لا توجد ثقافة خارج الحاملين لها من البشر الذين يعيشون تجربة حية ويصارعون للحفاظ على نجاعة سلوكهم وعقلانيته، كذلك لا توجد ثقافة خارج المجتمع الكلي الذي يعيش هو أيضا في نسق أشمل يضمه مع مجتمعات أخرى، ويفرض عليه أوضاعاً ورؤى وتطلعات متغيرة ومتبدلة، ويدفعه إلى بلورة استراتيجيات جديدة وخيارات لم تكن ملحوظة في ذخيرته الثقافية. فهو أيضاً بحاجة إلى أن يطور سياسات وحلول عملية تؤثر على الثقافة الأصل وعلى مخزونها من القيم والدلالات والرموز الثقافية، وتدفع إلى تحويرها وتجديدها.
لذلك، وبعكس ما هو شائع اليوم حول العالم العربي، لم يشكل الدين عقبة أمام تحول أي مجتمع من مجتمعات العالم، عندما كانت الظروف سانحة لمثل هذا التحول، بما في ذلك المجتمعات الغربية التي كان الدين يتمتع فيها بقوة مركزية منظمة ومسلحة، وبشرعية استثنائية مثلتها سلطة البابا وسيادته الروحية والزمنية. وكل ما حصل هنا هو الخروج من معركة التحول الفكري والقيمي والاجتماعي والسياسي، الذي حصل ضد إرادة الكنيسة، بعداء أكبر للسلطة الكهنوتية ورجالاتها قبل أن يرضخ هؤلاء لإرادة الأمة ويسلمون بسيادتها السياسية. فالثقافة، مهما قيل عن تقليديتها وروحها المحافظة وارتهانها للصيغ والنماذج الجاهزة، تتكيف أيضاً مع الظروف، ويعاد تأويل رموزها وتجديدها، وهذا ما يفسر تطور الحضارة في كل مكان. ولو كانت الثقافة مخزوناً ثابتاً من القيم والأفكار والرموز والقوالب التي لا تتغير ولا يمكن تجاوزها من قبل الأفراد والجماعات، لما كان هناك تاريخ آخر غير تاريخ الثقافات الثابتة والجامدة، أو بالأحرى لما كان هناك تاريخ أصلاً لأنه سيكون الزمان، إعادة إنتاج للنظم نفسها المرتبطة بالثقافات الثابتة.
الثقافة من حيث هي مخزون من القوالب والصيغ والاستعدادات والرموز والمعارف والتوجهات، موجودة بالتأكيد في كل المجتمعات. لكنها لا تمثل إلا علبة العدة التي يضعها التاريخ والمجتمع تحت تصرف أفراده ليأخذوا منها ويستخدموا أدواتها حسب حاجتهم وظروف حياتهم وأهدافهم وميولهم الشخصية. ونوعية هذه الأدوات والقوالب التي تختزنها الثقافة تؤثر بالتأكيد في سلوك الأفراد وتوحد تفكيرهم إلى حد كبير، لكنها لا تحرمهم من حريتهم الأصيلة والأساسية التي ترتبط بمقدرتهم على الاختيار حتى داخل هذه الثقافة، وتبني مواقف تختلف من فرد لآخر ومن جماعة لأخرى، وبلورة استراتيجيات وحلول متباينة عند الأفراد والجماعات لمواجهة مشاكل مختلفة.
الاتحاد