صياغة نظام سياسي جديد للبنان
سليمان تقي الدين
دخل اللبنانيون في سباق مع الوقت بين التسوية السياسية والاضطراب السياسي والأمني . أشرف القرار الاتهامي على الصدور من قبل النائب العام للمحكمة الدولية . تتصرف كل القوى والجهات على أن القرار صادر لا محالة وأن له تداعيات مهمة . فريق يرى فيه مقدمة لفرض توازن سياسي جديد يضع “حزب الله” وحلفاءه تحت وطأة القرار، وفريق “حزب الله” وحلفاؤه يرون فيه بداية حرب من نوع آخر تشن عليه، يسعى لاستباقها بإجراءات وتدابير سياسية وأمنية .
رغم كل الحراك الإقليمي والتواصل السوري – السعودي والإيراني – السعودي، ورغم بعض محاولات نشر التفاؤل في إمكان إيجاد مخارج، هناك حراك نشط على الأرض لاتخاذ تدابير أمنية . رسم الموقف الأمريكي سقفاً لكل المبادرات عبر إصراره على دور المحكمة الدولية ورفض الاستجابة لأي سعي لتأخير قرارها أو لإعادة الملف الى القضاء اللبناني . المحكمة الآن هي سيف مسلط على “حزب الله” وسوريا وإيران، وهي كذلك عنصر إرباك للمملكة السعودية التي ترعى أحد الفرقاء اللبنانيين وتلعب دوراً مهماً في احتواء الأزمات العربية . الجميع يدرك أن المحكمة في عهدة مجلس الأمن الدولي، وأن ما يمكن عمله لا يتعدى إيجاد مناخات لبنانية لاحتواء تداعيات قرارها . تطالب “المعارضة” اللبنانية بالتوسع في التحقيق عبر فتح ملف الشهود الزور كسباً للوقت والتوازن، وتطالب بموقف من الفريق الآخر ينزع الثقة عن إجراءات التحقيق السابقة، فتفقد المحكمة زخمها ولا يعود لقرارها الدور الحاسم على النزاعات الداخلية .
لا شك أن هناك مازقاً خطراً يحيط بلبنان، لأن الفريق الذي راهن على المحكمة لا يستطيع بسهولة التخلّي عنها مع معرفته باحتمالات نشر الفوضى والتوترات . “حزب الله”، يدرك أيضاً أن إسقاط المحكمة غير ممكن وآن مواجهة القوى التي تدعمها في الداخل سيؤدي إلى حرب أهلية . لكن “حزب الله” لا يملك خيارات كثيرة . هو الآن يدفع من رصيده السياسي الكثير، وسيدفع أكثر مع صدور القرار الاتهامي، وسيجد نفسه في مواجهة الشرعيتين اللبنانية والدولية . ربما استأنف “المجتمع الدولي” وسائل الضغط وذهب في اتجاه محاصرة “حزب الله” بقرارات جديدة . لقد صارت المحكمة الدولية عنصراً في الأزمة الإقليمية، لأن الأمريكيين يريدون من الدول الداعمة ل “حزب الله” ثمناً باهظاً في أماكن مختلفة وملفات عدة منها العراق وفلسطين . أصبح لبنان رهينة جديدة من رهائن المنطقة في أمنه واستقراره .
الأفق الوحيد المفتوح أمام اللبنانيين هو صياغة جديدة للعلاقات على أساس تسوية كبرى تعطي ضمانات للفريقين، الأول تجاه المحكمة والثاني تجاه دوره وأمنه . ونكاد نجزم بالصعوبة الاستثنائية لإنجاز هكذا تسوية قبل اختبار حد من المواجهة التي يمكن أن تخفض من طموحات كلا الطرفين . في مكان ما يراهن “حزب الله” على قدراته العسكرية وامتداداته الجغرافية مع خارطة واسعة من الحلفاء . بينما يراهن “تيار المستقبل” وحلفاؤه على الشرعية السياسية ودعم المجتمع الدولي وعلى إمكان إيجاد جغرافية سياسية أقله في الشمال من لبنان وبعض المدن لكي ينشئ نوعاً من التوازن .
في كل الأحوال هذه مغامرة يقترب الطرفان من ارتكابها وحصيلتها سلبية خالصة وستقود الى تعليق وحدة لبنان مجدداً ونشر الفوضى فيه . ولعل الأخطر من ذلك أن هذه الفوضى تستدعي المزيد من التدخل الإقليمي وتعيد تكرار مشهد 1982 وما تلاه من فتنة تستبق الحرب . لكن الوهم لدى القوى المحلية كبير، وغياب الرؤية ظاهر وصعوبة اجتراح الحلول بارزة . لعبة العض على الأصابع لا يمكن أن تطول إذا قرر الأمريكيون إخراج القرار الاتهامي إلى العلن . وحده انسجام عميق سعودي – سوري يمكن إن مارس أقصى درجات التدخل الإيجابي المشترك أن يجد ضوابط يُجبَر على قبولها الطرفان . وليس من باب التكهنات أن مصير النظام السياسي اللبناني كله على المحك، وأن مشروع الحل لا بد أن يعيد النظر بصيغة الحكم الحالية وتوازنات السلطة . في مكان ما بدأت بعض الدوائر الدولية تستكشف احتمالات هذه الصيغة بين خياري تعميق البعد الطائفي للنظام أو الدخول في مسار الدولة المدنية .
لقد أنتج النظام الطائفي أوضاعاً لا تقبل المعالجة تحت سقفه وآلياته . فمن الصعوبة بمكان إيجاد حل “لسلاح المقاومة” في إطار الدولة من دون تغيير في بنيتها وبنية المؤسسة الأمنية . الدولة نفسها اليوم عاجزة لأسباب طائفية كما لأسباب مادية وسياسية أن تستوعب سلاح المقاومة أو تجد علاقة متوازنة معها . اذا استمر النظام الطائفي على ما هو عليه فهو يفترض الوصاية عليه من طرف خارجي يديره ويحكمه ويوزع الحصص الطائفية ويفرض التوازن بين القوى ويمنع هيمنة أي فريق على السلطة . المسألة الآن بهذا الحجم وهي تستدعي بحثاً في أساس النظام لا مجرد تعديلات وتصحيحات إجرائية . وقد ثبت بالملموس أن تجربة هيئة الحوار الوطني قد انتهت إلى الفشل حتى في موضوع السياسة الدفاعية، لأن هذه مشتقة من عدة عناصر وليست مسألة تقنية .
ليس بين الفرقاء اللبنانيين من يروقه اليوم أن يطرح هذه القضايا بوضوح وعلناً . هناك مصالح تتحكم بالسلطة ويرتاح لها الطاقم السياسي الحاكم رغم الأزمات المتكررة . في مكان ما يستحيل إعادة بناء الدولة والاستقرار من دون إصلاح جذري أساسه إجراء تعديل جدي في حركة القوى السياسية وشكل ممارستها . لبنان دولة فاشلة لأن القوى المسيطرة على اللعبة السياسية لا تملك مشروعاً وطنياً توحيدياً يأخذ بالاعتبار مصالح جميع الأطراف . يحتّم هذا الوضع أن ينشأ حوار إقليمي تشارك فيه الدول المعنية بالأزمة اللبنانية ولها أصدقاء وحلفاء وتأثير بحيث تبلور حلاً شاملاً .
ربما من واجب النخبة اللبنانية أن تسعى لطرح وتسويق بعض الأفكار حول مستقبل لبنان ونظامه السياسي .
الخليج