مجزرة نداء الشيطان
بدر الدين شنن
شكلت مجزرة كاتدرائية سيدة النجاة للكلدان الكاثوليك ، الأحد الماضي في بغداد ، شكلت محطة هي الأسوأ والأبشع في مسار العنف الطائفي السياسي ، ليس في العراق وحسب ، وإنما في البلدان العربية كافة . وذلك من حيث الزعم الديني المشبوه لأداة الجريمة المجزرة ، ومن حيث الذريعة ، والمكان ، والزمان ، والمناسبة . فقد أعلن منفذو المجزرة ، التي راح ضحيتها نحو ستين قتيلاً وثمانين جريحاً ، أنهم ينتمون إلى ما يسمى ” دولة العراق الاسلامية ” التابعة لتنظيم القاعدة ، وأن ما قاموا به من قتل للأبرياء كان تلبية ” لنداء الله تعالى ” ، من أجل تحرير إمرأتين مصريتين مسيحيتين قيل أنهما قد اعتنقتا الاسلام ، هما كاميليا شحاته ووفاء قسطنطين ، من الحجز المفروض عليهما في كنيسة قبطية في مصر .
بيد أن ما نسب إلى ” الله تعالى ” الذي ، زعموا ، أنه ناداهم لتحقيق هذه المهمة ” الدينية النبيلة ” ، التي ترخص إزاءها أرواح عشرات الأبرياء وأرواح رجال دولة العراق الاسلامية الذين كلفوا بها ، ما هو سوى غطاء مفضوح للجوهر السياسي والطائفي التدميري لبنية الشعب العراقي ، وتقديم الأنموذج لعمليات مماثلة في البلدان العربية الأخرى ، المرشحة لمثل هذه الصراعات والصرعات مثل لبنان ومصر والسودان ، لتمرير مصالح وأهداف دولية وصهيونية ، ضمن ما يسمى بإعادة تشكيل الشرق الأوسط .
فالغطاء الديني مفضوح .. تفضحه مضامين المتعقدات الدينية الموروثة المشتركة بين كافة الديانات التوحيدية الأساسية الثلاث ، الاسلام ، والمسيحية ، واليهودية , ف ” الله تعالى ” يوصي في القرآن بأهل الكتاب ” اليهود والنصارى والصابئة ” ونبي المسلمين يقول ” من آذى ذمياً ليس مني ” . أما الزعم أن النصارى يعبدون الصليب ، فهذا ليس جهلاً معرفياً وحسب ، وإنما هو قول مردود عليه ، من حيث الممارسة والرمزية الروحية . فالمسيحي لايعبد الصليب ، وإنما يقدسه كرمز لتضحية السيد المسيح ، الذي تحمل ، حسب المعتقدات السائدة ، ثمن خطايا رعاياه ، وصلبه كان فداءاً لهم ..
والأكثر انفضاحاً هي الذريعة .. هي الهدف المعلن للعملية المجزرة ” تحرير مسلمتين ” مستجدتين ” من أيدي ذويهما المسيحيين في مصر . إذ أن مثل هذه التجاذبات المعتقدية قائمة منذ أن حدثت التعددية الايمانية الدينية في المنطقة . كثيرون من المسلمين تزوجوا من مسيحيا ت ويهوديات . وكثيرات من المسيحيات واليهوديات أسلمن . وإذا كان القانون في البلدان العربية المستمد من الشريعة الاسلامية لايسمح للمسلمة أو المسلم أن يتحول إلى ديانة أخرى ، فهذا لايعني أن مثل هذه الحالات لم تحدث ، لاسيما في زمن الاحتلال الأجنبي الغربي ، أو حالات العيش المشترك في الاغتراب ، أو في سرية تامة تحفظها علاقات المودة والمصالح والحب .. وهذا الأمر لم يغير من ا ستمرار العيش المشترك الأخوي لمختلف أبناء الديانات ، با ستثناء ماصار يتعلق باليهود ما بعد إقامة دولة إسرائيل العنصرية . حتى في زمن الاحتلالات حيث كان التحول المعتقدي ، جارياً ولو محدوداً ، يتم بالقناعة أو المصلحة ، أو عبر التبشير الديني المتعدد ، فإن الكتلة المسيحية وكتلة المسلمين في الوطن الواحد .. في أهم البلدان العربية ، لم تتأثر بمثل هذه الشذرات من التحولات ، بل كان الهم الوطني المشترك يمنح المناعة للعلاقات الأخوية الاسلامية والمسيحية ضد كل الفتن الطائفية ، التي كان الاحتلال يحرض عليها لتمزيق الوحدة الوطنية هنا أو هناك ، لضمان ا ستمرار مصالحه الجشعة .
وعبر سيرورة حركة التحررالوطني العربية ، برزت شخصيات وطنية مسيحية ، شاركت بشجاعة وذكاء في معارك الحرية والاستقلال . ومن ابرزهم في سوريا “” فارس الخوري ” وفي فلسطين ” المطرا كبوجي ” والمطران الفلسطيني ” عطاالله ” وغيرهم الكثير .. الكثير .. من الزعماء الوطنيين المسيحيين العرب في العراق ولبنان ومصر . ولعل المثال القدوة للأخوة الوطنية والدينية الراقية المستنيرة ، هو موقف ” الأمير عبد القادر الجزائري ” المسلم الصوفي إبان فتنة الهجوم الدموي على أبناء الطائفة المسيحية في دمشق في العهد العثاماني . فقد قام الأمير بإيواء مسيحي دمشق في الحي الذي يقطنه هناك ، وامتشق السلاح للدفاع عنهم ضد المجزرة العثمانية السوداء .
وعلى ذلك ، فإن ماحدث في كاتدرائية سيدة النجاة في بغداد ليس تلبية لنداء رب الكنيسة في عيد جميع القديسين ، الذي هو رب المسجد ورب المسلمين أيضاً . وليس من أجل تحرير سيدتين بدلتا قناعاتهما ، وهذا حق إنساني وديمقراطي ، وإنما هو حدث سياسي بامتياز ، يرتبط أشد الارتباط بقيادة ومصالح الاحتلال الأميركي وعملائه ، وهو فعل بشع من مفاعيل ما يسمى بالعملية السياسية المتنابذة الأطراف والعلاقات الإقليمية والدولية والصهيونية ، أكده عشرون تفجيراً بعد يومين لاأكثر في المناطق التي يسكنها الشيعة وراح ضحيتها أكثر مئة قتيل ونحو ثلاثمئة جريح .
لم ينف الأميركيون علاقتهم بمجزرة سيدة النجاة ، بل زعموا ، أنهم كانوا يتابعون الحدث مع القوات العراقية بتقديم الاستشارات القتالية والفنية لهذه القوات . بمعنى أنهم كانوا في قلب المجزرة قيادة ومسؤولية . والسؤال الذي يفرض نفسه هنا ، هو ، إذا كان الأميركيون هم أصحاب الرأي والمسؤولية فيما حدث من ذبح وقتل للأبرياء ، فلماذا لم يحولوا دون هذه المجزرة بالبحث عن مخارج أكثر أمناً للأبرياء .. ألايدل هذا على ضلوعهم في المجزرة انسجاماً مع برنامجهم الاحتلالي لتفجير الصراعات الطائفية وتمزيق وحدة الشعب العراقي ؟ .. أليس مثيراً للدهشة .. أن يؤثر ثلاثمئة ألف مسيحي عراقي الهجرة إلى دول مجاورة وغيرها في ظل الاحتلال الأميركي للعراق ؟ ..
لقد حاولت ” الواشنطن بوست ” التمويه على الدور الأميركي بقولها ” سبب اختيار مرتكبي الحادث لكنيسة بارزة كساحة حرب لمعركتهم يبقى محل غموض كبير ” فتهربت من ذكر حقيقة اللحظة المجزرة ، التي لم يكن الأميركيون مجرد شهود فيها وحسب ، وإنما كانوا المرشدين في صنع وقيادة الخطط الهجومية الدموي .
لم تفشل ” كتيبة الاستشهاديين ” في دولة العراق الاسلامية في مهمتها البشعة في كاتدرائية سيدة النجاة وحسب ، بل فشلت في تقديم دولة العراق الاسلامية كأنموذج للدولة الاسلامية المنشودة ، وفشلت في تقديم أنموذج الذبح والقتل أداة تحرير وإنقاذ .. إن ما قدمته بالمحصلة هو فضح قوات الاحتلال وعملائهم في النخب العراقية الحاكمة كوجه آخر للاستبداد ةالإرهاب .
لقد أحدث رصاص القتلة في دولة العراق الاسلامية ورصاص القتلة في القوات العراقية ، أحدث ثقوباً وتشوهات في جدران وأسقف وأرضية الكاتدرائية وفي صدور الأبرياء ، الذين قضوا غدراً وظلماً ، وكذلك في أجساد الجرحى ، الذين نزفوا وتألموا دون إثم أوذنب .. والأخطر أن تكون تلك الرصاصات المميتة والممزقة للأجساد البريئة ، قد أحدثت ثقوباً في ضمائر المسيحيين العراقيين وفي قناعاتهم بالتمسك .. بالأرض .. والوطن .. وبالأخوة العراقية التعددية المعتقد والقناعات والانتماءات ، وأن لاتكون قد أحدثت ثقوباً في بنية المجتمعات العربية الأخرى ..
إن دماء الأبرياء المسفوحة على أرض وجدران سيدة النجاة تصرخ .. أن لا يسمح لنداء الشيطان أن ينتشر ويتكرر في أرضنا وبلداننا .. في أي كنيسة .. أو مسجد .. أو أي مكان ..
الحوار المتمدن