صفحات العالم

من إسرائيل إلى العراق، هجرة المسيحيين التوراتية قد بدأت

روبرت فيسك
ترجمة : وائل السوّاح
[وقعت في العراق عملية أخرى تؤكد أنّ الانزلاق نحو التعصب الديني لن يؤدّي إلا إلى الإرهاب والهمجية. ولا يوفر الإرهاب مسجدا أو كنيسة أو مدرسة أو فندقا، ولا يميز بين شيخ وامرأة وفتى وطفل. حادثة اليوم وقعت عندما اقتحمت مجموعة إرهابية كنيسة “سيدة النجاة” وأخذت المصليّن المتواجدين داخلها كرهائن، وذلك بعد مواجهات مع عناصر الشرطة. وكان الخاطفون قد طالبوا بمبادلة الرهائن، وهم المصلّون وكاهنان من طائفة السريان الكاثوليك، بمعتقلين في السجون العراقية، وهو أمر رفضته أجهزة الأمن.
بتاريخ 26 تشرين الأول / أكتوبر، نشر الصحفي والمعلق البريطاني روبرت فيسك مقالا مهما في جريدة الإندبندنت حول خطر تناقص المسيحيين في منطقة الشرق الأوسط. ويأبى الإرهاب الإسلاموي إلاّ أنْ يؤكّد وجهة نظر الكاتب البريطاني من أن مخاوف المسيحيين في المنطقة دفعتهم إلى الهجرة. ولو أن الكاتب أخّر كتابة مقالته بضعة أيام لكان استشهد بهذا الحدث المأساوي كدليل إضافي. ولكن خوفنا أنّ سلسلة الأدلة التي يقدّمها الإرهابيّون في هذا المجال لن تنتهي. – الأوان]
في قلب مدينة بيروت التي أعيد بناؤها، تقف كاتدرائية سان جورج المارونية العظيمة إلى جوار الكتلة الأعظم التي تشكل جامع محمد الأمين. وتعلو مآذن الجامع فوق الكاتدرائية، ولكن الموارنة تلقوا تعويضا – لقاء ذلك – في بناء منزل من طبقتين لمطران بيروت أقيم بين البنائين العظيمين. ومع ذلك، فإن دعوة الاثنين للصلاة في كل يوم – قرع أجراس الكنيسة وصياح المؤذن – تصمّ الآذان وتصل إلى كل أرجاء المدينة. وكلا القرع والأذان مسجل، ولكنهما يُرفعان عمدا إلى أعلى درجة صوتية (ديسبل) ممكنة، ليعلو كل منهما على الآخر، أعلى من هدير الطائرات، وأقرب إلى جنون موسيقى النوادي الليلية التي تأتي من منطقة الجمَّيزة عبر الساحة. ومع ذلك فإن المسيحيين يهاجرون.
وعلى امتداد الشرق الأوسط، تتكرر القصة نفسها لأقليات مسيحية يائسة، وأحيانا خائفة، ولخروج أشبه بالخروج التوراتي. لقد ترك ما يقارب من نصف مسيحيي العراق بلدهم منذ حرب الخليج الأول في 1991، وهاجر معظمهم بعد غزو العراق في عام 2004، وهو الضريبة الغريبة التي كان على المسيحيين أن يدفعوها للإيمان المسيحي المدّعى من قبل الرئيسين بوش (الأب والابن) اللذين ذهبا إلى حروب في العراق.
ويقف عدد المسيحيين الآن عند رقم 550 ألف شخص، وهو ما يقل عن نسبة 3% من عدد السكان في العراق. وأكثر من نصف مسيحيي لبنان يعيشون الآن خارج البلاد. أما المسيحيون في لبنان الآن البالغ عددهم مليونا ونصف المليون، معظمهم موارنة كاثوليك، والذين كانوا يوما ما يمثلون الغالبية في لبنان، فيشكلون 35% من اللبنانيين. أما أقباط مصر المسيحيون – الذين لا يزيد عددهم الآن عن ثمانية ملايين في أحسن لأحوال – فيشكلون أقل من 10% من السكان في مصر.
ومع ذلك، فإن هذا الوضع ليس مجرد هجرة بسبب الخوف، ولكنه قصة موت معلن (1). فالمسيحيون الذين يتناقص عددهم أيضا بسب ارتفاع نسبة الولادة لدى المسلمين، منقسمون على أنفسهم بشكل لا براء منه. ففي القدس ثمة 13 كنيسة مسيحية مختلفة وثلاثة بطاركة. ويمسك مسلم بمفاتيح كنيسة القيامة ليمنع القساوسة الأرمن والأرثوذكس من الشجار مع بعضهم البعض في عيد الفصح.
وعندما اجتمع أكثر من مائتي عضو من أعضاء 14 كنيسة مختلفة – وبعضها أيضا منقسم على نفسه – في روما الأسبوع الماضي (2) لحضور سينودس بابوي خاص عن تناقص أعداد المسيحيين في الأرض التي ولدت فيها المسيحية، فإن صدى ذلك في صحافة الغرب لم يكن سوى الضجر والإهمال.
ومع ذلك، فإن أكثر الأمور مدعاة للحزن هو مصير المسيحيين في المناطق المحيطة بالقدس. وكما يروي بيأس المونسينيور فؤاد طوال، البطريرك التاسع لكنيسة اللاتين والعربي الثاني بينهم، فإن “الإسرائيليين يعتبروننا عربا فلسطينيين 100 بالمائة، ويتعاملون معنا بنفس الطريقة التي يتعاملون فيها مع المسلمين. ولكن الأصوليين المسلمين يربطوننا مع الغرب المسيحي – وهو ما ليس صحيحا دائما – ويريدوننا أن ندفع ثمن ذلك.” ومع الفصل بين المسيحيين في القدس وبيت لحم بنفس الجدار العازل الذي يحبس إخوانهم المسلمين، فإن ثمة الآن – وفق ما يقول طوال – “جيلا كاملا من المسيحيين الذين لا يعرفون كنيسة القيامة ولا يمكنهم زيارتها.”
في الأردن، كانت الأسرة المالكة تحمي سكان الأردن المسيحيين. ويبلغ عدد المسيحيين الآن 350 ألف نسمة، ولعل حالة المسيحيين في الأردن أن تكون فسحة الأمل الوحيدة في المنطقة. على أن الانقسام داخل المسيحية قد برهن أنه أكثر خطرا لمجتمعهم حتى من الخطر الذي يشكله الانقسام السني-الشيعي على المسلمين في المنطقة. وحتى الصليبيون كانوا مقَسَّمين خلال المائة سنة التي استمر فيها احتلالهم لفلسطين، أو ما يسمونه “ما وراء البحار.”
وكتب الصحفي اللبناني المسيحي فادي نون مقالة عميقة من روما الأسبوع الفائت، وصف فيها الخسارة المسيحية بأنها “جرح نازف”، وندب الانقسام المسيحي والأنانية المسيحية، بما تؤدي إليه من هجرة روحية ومادية. وكتب نون أن “هنالك بعض المسيحيين في البلدان الغربية الذين وصلوا إلى نوع من اللامبالاة… تأثروا بالثقافة والإعلام الغربيين، ويدعون مسيحيي الشرق لتناسي هويتهم.”
أما البابا بينديكت، الذي دفعته زيارته إلى الأرض المقدسة العام الفائت إلى الدعوة لعقد السينودوس الذي اختتم أعماله في الفاتيكان في نهاية الأسبوع، فقد تبنَّى موقفه المعهود القاضي بأن على مسيحيي الأرض المقدسة، رغم صعوباتهم، إحياء مشاعرهم باعتبارهم الصخور الحية التي تقوم عليها الكنيسة في الشرق الأوسط. وقال البابا: “أنْ تعيشوا في كرامة في بلدانكم هو قبل أي شيء آخر حق أساسي من حقوق الإنسان. ولهذا السبب فإن عليكم أن تدعموا شروط السلام والعدالة، اللذين يعتبران شرطين لازمين للتنمية المنسجمة لكافة سكان المنطقة.” ومع ذلك فقد قضت كلمات البابا في بعض نواحيها إلى أن الخلاص وليس تجديد التاريخ، هو الذي يأتي بالسلام العدالة الحقيقيين.
يعتقد البطريرك طوال أن البابا فهم خلال زيارته إلى إسرائيل والضفة الغربية في العام الفائت “النتائج الكارثية للصراع بين اليهود والفلسطينيين العرب”. وأعرب طوال عن رأيه بوضوح أن من الأسباب التي تدفع بالمسيحيين إلى الهجرة “الاحتلال الإسرائيلي، والنقص في حرية المسيحيين في التحرك والانتقال، والظروف الاقتصادية التي يعيشونها.” ولكنه لا يرى الاختفاء الكلي للعقيدة المسيحية من الشرق الأوسط. “علينا أن نتحلى بالشجاعة لكي نقبل أننا عرب ومسيحيون ونكون مخلصين لهذه الهوية. ولعل رسالتنا الرائعة هي في أن نكون جسرا بين الشرق والغرب.”
ولكن أحد الأساقفة المشاركين في السينودس والذي لم يشأ أن يكشف عن هويته وتم اقتباس أقواله في بعض أوراق العمل هناك، اتخذ موقفا أكثر براغماتية، ويقول: “دعونا نتوقف عن القول بأنه لا يوجد مشكلة مع المسلمين، فذلك ليس صحيحا. إن المشكلة لا تتأتى فقط عن الأصوليين، ولكن من الدساتير. ففي كل الدول في المنطقة ما عدا لبنان، يعتبر المسيحيون مواطنين من الدرجة الثانية.” ولئن كانت حرية العبادة مضمونة في تلك البلدان، “فإنها مقيدة ببعض القوانين والممارسات.” ولقد كانت هذه الحالة بالتأكيد في مصر منذ أن لقب الرئيس أنور السادات نفسه بـ “الرئيس المسلم لبلد مسلم.”
وفي لبنان، تتفهم الكنيسة المارونية – التي يستطيع كهنتها بالمناسبة أن يتزوجوا – بما فيه الكفاية كيف يمكن للمسيحيين أن يصطفوا مع المجموعات السياسية. وقد كتب الكاتب اللبناني سامي خليفة في جريدة “لوريون لوجور” التي تصدر بالفرنسية، وتعتبر الصوت الفرنكوفوني لمسيحيي لبنان، أن النقص في السلطة الأخلاقية قد حول الكنائس في بلده إلى “لاعبين سياسيين” بدأت تبدو وكأنها أحزاب سياسية. وقد وقع مائتان وخمسون لبنانيا، أغلبيتهم من الأقلية المسيحية، رسالة مفتوحة إلى الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد يحذرون فيها من محاولة تحويل لبنان إلى جبهة متقدمة ضد إسرائيل.
ولا يمكن للكنيسة أيضا أن تتجاهل المملكة العربية السعودية، حيث الديانة المسيحية محظورة مثلها مثل بناء الكنائس. ولا يستطيع المسيحيون زيارة مدينتي مكة والمدينة المقدستين – بينما نجد أن أبواب الفاتيكان وأسقفية كانتربري مفتوحة أمام المسلمين – وفقط هذا الشهر، تم اعتقال اثني عشر فيليبينيا بينهم قسيس لقيامهم سرا بإقامة قداس. ولعل من التناقض أن التوازن الوحيد لهجرة المسيحيين من المنطقة هي وصول قرابة ربع مليون فيليبيني مسيحي إلى الشرق الأوسط، وخصوصا إلى منطقة الخليج، بينما يقول البطريرك طوال يقدر أن نحو 40 ألف منهم يعيشون ويعملون في إسرائيل و”فلسطين.”
ومن نافل القول أن العنف ضد المسيحيين هو ما يشغل بال الغرب، وهو ما يمثله بأوضح وأسوأ أشكاله اختطاف المطران فرج رحو في الموصل من قبل القاعدة – وهو حدث سُجِّل في الأرشيف العسكري الأمريكي، وأطلق يوم السبت – وما تلا ذلك من اغتياله. وعندما أجازت السلطات العراقية لاحقا حكما بإعدام القاتلَين، طالبت الكنيسة بمسامحتهما. وفي مصر، تزداد سوية العنف بين المسيحيين والمسلمين، وخصوصا في القرى القديمة في أعماق الجنوب في البلاد؛ وفي القاهرة يتم الإحاطة بكنائس المسيحيين ليل نهار بدوريات ونقاط تفتيش تابعة للشرطة.
وبينما يستنكر مسيحيو الغرب بشكل روتيني نقص أعداد المسيحيين في الشرق الأوسط، فإن زياراتهم إلى المنطقة تنزع إلى أن تقتصر على زيارة الأماكن المقدسة الواردة في التوراة بدلا من لقاء نظرائهم المسيحيين هناك.
وأما الأمريكيون، المسكونون بخرافة صراع الحضارات بين الغرب والشرق منذ أحداث 11 أيلول (سبتمبر) 2001، فيبدون على الأغلب وكأنهم يعتبرون المسيحية دينا غربيا أكثر منه دينا مشرقيا، وبذلك فهم يفصلون ببراعة بين الجذور المشرقية لديانتهم وبين أرض الإسلام. ولكن ذلك بحد ذاته خسارة للعقيدة.

• نشر في جريدة الإندبندنت البريطانية في 26 تشرين لأول /أكتوبر، 2010
(1) في إشارة إلى رواية قصة موت معلن للكاتب الكولومبي غابريل غارسيا ماركيز، والتي تحكي مصرع مهاجر لبناني في أمريكا اللاتينية – المترجم.
(2) عقد السينودس البابوي الخاص عن المسيحيين في الشرق الأوسط في تشرين الأول / أكتوبر 2010، وامتد على مدى أسبوعين – المترجم.
موقع الآوان

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى