دمشق بعيون فرنسية
محمد الزيباوي
تحت عنوان “دمشق في نصوص الرحالة الفرنسيين”، تقدّم الباحثة اللبنانية كارين صادر دراسة علمية تستكشف تاريخ الشام من خلال كتابات وانطباعات تركها رجال قدموا من الغرب إلى الشرق لأغراض مختلفة بين القرن الخامس عشر والقرن التاسع عشر. صدر الكتاب عن “مؤسسة الإنتشار العربي”، ويضم دراسة من أربعة فصول، وترجمة لعشرين نصا، إضافة إلى نشر النصوص الفرنسية الأصلية بحسب تسلسل الرحلات الزمني.
يعرض الفصل الأول من الكتاب لأبرز المحطات التاريخية التي عاشتها دمشق منذ القدم إلى نهاية الحقبة العثمانية الطويلة. عرفت المدينة تاريخا عاصفا، وتحوّلت هويتها بين زمن وزمن، غير أن صورتها لم تتغير كما تشهد كتابات كل من عرّف بها أو تغنّى بمعالمها. قال ياقوت الحموي في معجمه: “لم توصف الجنة بشيءٍ إلاّ وفي دمشق مثله، ومن المحال أن يُطلب بها شيء من جليل أعراض الدنيا ودقيقها إلاّ وهو فيها أوجد من جميع البلاد”. وكتب ابن بطوطة من بعده: “ودمشق هي التي تفضل جميع البلاد حسناً وتتقدمها جمالاً، وكل وصف، وإن طال، فهو قاصر عن محاسنها”، ونُقل عن ابن جبير: “وأما دمشق فهي جنة المشرق، ومطلع نورها المشرق، وخاتمة بلاد الإسلام متى استقريناها، وعروس المدن التي اجتلبناها”.
تتعدد الشهادات والكتابات، وتتكرر الأوصاف مع اختلاف في اللفظ والتعابير. تبدو صورة المدينة ثابتة في العمق. “إنها نقلة من الصحراء إلى الخضرة، ومن الجفاف إلى الماء، ومن الحزن الى السرور، وصلة وصل بين حضارتين قديمتين هما مصر وما بين النهرين، وهي موطن المعابد والقصور والمغاور والكهوف والمقامات والمقاهي والبساتين، ومنحة الغوطة رئتها، وهبة بردى صديقها القديم قدم المدينة التي يدفق الحياة في أوردتها”. تقدم الباحثة لوحة بانورامية لتاريخ دمشق حتى أواخر القرن التاسع عشر، ثم تستعرض جغرافيتها الطبيعية قبل أن تنتقل إلى بدايات الرحلة الفرنسية إلى الشرق التي جاءت من خلال الحج إلى الأماكن المسيحية المقدسة. بدت دمشق في نظر الفرنجة على مرمى حجر في زمن الصليبيين، وظلت كذلك بعد نهاية هذا الزمن حيث برز “الأدب المحرّض” في القرنين الرابع عشر والخامس عشر عبر كتابات تبحث عن أسباب فشل الصليبيين وتستكشف سبل العودة إلى الشرق. بدأت رحلات “الحج” تتكرر في القرن السادس عشر، وكان روادها في الدرجة الأولى من رجال الدين الباحثين عن المزارات المسيحية، ولم تقتصر على الغرب الكاثوليكي، إذ ترافقت مع رحلات مماثلة انطلقت من روسيا الأرثوذكسية. تطورت هذه الرحلات بين القرنين السابع عشر والتاسع عشر، واجتذبت سيّاحاً من آفاق مختلفة، منهم من قصد الشرق بدافع ديني، ومنهم من جاء بدافع العلم، ومنهم من تحمل مشقة السفر لأغراض تجارية، ومنهم الباحث عن إلهام أدبي جديد. ترك هؤلاء السيّاح شهادات اختلفت قيمتها العلمية والأدبية، ويمكن القول إن هذه الكتابات تعكس بشكل عام تعصباً سياسياً لصالح أوروبا ضد تركيا، “وتعصبا دينياً سياسي المنشأ لمصلحة المسيحيين، وعلى الأخص للمذهب الذي ينتمي إليه الرحّالة ضد المذاهب المسيحية الأخرى وضد الإسلام الذي يدعم الوجود العثماني في الشرق”. بمعزل عن هذا الموقف العام، تشكل هذه الشهادات مصدرا مهما لدراسة تاريخ الشام، ذلك أنها تحوي مجموعة قيّمة من الخرائط والجداول، كما تشمل وصفاً وتعداداً للفنادق والمقاهي والحمّامات. في المقابل، تشهد هذه النصوص للتحولات السياسية والاجتماعية التي عرفتها المنطقة في حقبة متوترة تصارعت خلالها السلطة التركية والسلطة المصرية على حكم المشرق العربي.
في الفصل الثاني من بحثها، تقدّم الباحثة قراءة جامعة لنصوص الرحّالة غير الفرنسيين الذين مرّوا بدمشق بين القرنين الخامس عشر والتاسع عشر. من الرحّالة العرب، يبرز تباعاً القلقشندي في “صبح الأعشى”، ابن الورندي في “خريدة العجائب وفريدة الغرائب”، الظاهري في “زبدة كشف الممالك”، محمد الحسيني الموسوي الشهير بـ”كبريت” في “رحلة الصيف والشتاء”، ابرهيم المدني الخياري في “تحفة الأدباء وسلوة الغرباء”، رمضان بن موسى العطيفي في “رحلة من دمشق إلى طرابلس”، وعبد الغني النابلسي في “حلة الذهب الأبريز في رحلة بعلبك والبقاع العزيز”. نصل إلى الأزمنة الحديثة مع فتح الله الصايغ، الحلبي الذي في بادية الشام وصحارى العراق والعجم، ورفاعة الطهطاوي، أشهر قادة النهضة العلمية في مصر في عهد محمد علي باشا. بعد استعراض سريع لأبرز ما جاء في هذه الشهادات، ترى كارين صادر أن هذه النصوص “موشاة بالشعر المدحي لدمشق وبعض أهم معالمها”، وهي تتميز بـ”زخرفة الأسلوب” و”المقياس العاطفي”، وتشكل امتدادا لتقليد مدح دمشق وفضائلها في القرون الوسطى المتأخرة.
بعد الرحّالة العرب، نتعرف الى الرحّالة القادمين من روسيا القيصرية، ومنهم الطبيب أرتيمي رافالوفيتش الذي ترك تقريراً يتسم بالدقة والموضوعية والتجرد، والرحّالة بازيلي الذي جاء بغرض التعرف الى الواقع العسكري، وترك دراسة “علمية” في الدرجة الأولى.
حدائق وأسواق
في الفصل الثالث، ندخل في صلب الموضوع، ونتعرف الى دمشق من خلال عيون الرحّالة الفرنسيين. تتيح أقدم الشهادات مدخلا للتعرف إلى البيئة الطبيعية والحالة العمرانية والحياة الإقتصادية والإجتماعية في عهد المماليك. في المقابل، تشكل نصوص القرنين السابع عشر والثامن عشر مدخلا للتعرف الى حال المدينة في الحقبة العثمانية. كذلك، تقدم نصوص القرن التاسع عشر مادة مثيرة لدراسة التحولات الكبيرة التي عرفتها الشام في زمن الحكم المصري وما خلّفه من مؤثرات عميقة بعد سقوطه عسكريا. في الخلاصة، تصور هذه النصوص مكوّنات المجتمع الدمشقي المتعددة وعاداته، كما تعكس بعضاً من وجوه حياته الدينية والروحية. تتكرر بعض الصور والمواقف في النصوص، وابرز الامثلة القوانين المفروضة على الذميين وغير المسلمين، وكره الأجانب لأسباب سياسية في الدرجة الأولى، ومنع هؤلاء من زيارة الأمكنة الإسلامية، والانبهار بزينة بيوت أثرياء دمشق على اختلاف مللهم، وتحوّل المدينة بازاراً شرقياً عجيباً عند استقبال الحجاج في طريقهم إلى مكة. تختم الباحثة هذا العرض السريع بقولها: “تلك كانت أهم العادات التي لفتت انتباه الرحّالة فدوّنوها، وهي قريبة إلى الذهن وغير غريبة عن جو المجتمع الدمشقي، ولا يزال كثير منها حياً يجرجر اذيال السنين ويصارع أثقال الفناء”.
يشكل الفصل الرابع مقدمة لمطالعة مجموعة النصوص، ويحوي تعريفا مختصرا بكتّابها. اقدم النصوص المنشورة يعود إلى عام 1413، وهو لبرتراندون دو لابروكير، صاحب “رحلة إلى ما وراء البحار”. يقول الكاتب في وصف دمشق: “مدينة كبيرة واسعة، وفيها حدائق جميلة جدا هي من أكبر ما رأيت، وفيها أفضل الفواكه ووفرة المياه، لأنه من النادر، كما يقال، أن تجد بيتا ليس فيه نبعة ماء”. ويخبرنا أنه دخل المدينة مشيا على القدمين، بعدما أنزله المكاري عن مطية الحصان، لأنه “لا يسمح لأي مسيحي مهما كان معروفا أن يتجول في شوارع المدينة ممتطيا جواده”. النص الثاني يعود إلى 1581، وهو من كتاب “من الإسكندرية إلى اسطنبول” للأب جان باليرن. يبدو الكاتب منبهراً بموقع المدينة الطبيعي، كما يُستدلّ من قوله: “لا يمكن لمن يرى دمشق إلا وأن يعترف من تلقاء نفسه بأنها في الموقع الأجمل في العالم”، فهي “وسط سهل جميل مغروس بأشجار متنوعة دائمة الخضرة”، تحدّها الجبال العالية من جهة، والصحراء من جهة أخرى، وفيها “كل أنواع الفواكه الموجودة في أوروبا”. النص الثالث يحمل توقيع لوران دارفيو، وهو فارس مستشرق من القرن السابع عشر عُرف بدفاعه عن العرب، صدرت مذكراته في ستة أجزاء، ويتميز بكونه “علمي النظرة دؤوباً شديد الفضول ودقيق الملاحظة”. يصف الكاتب فواكه دمشق وقمحها، ويذكر مروره بالقلعة وبالمدرسة الظاهرية، ويتحسر على رؤيته المسجد الأموي خلسة من خلال نافذة تطل عليه، “لأنه من الممنوع على النصارى دخول الجامع إلا بشقّ الأنفس”. يجزم الرحّالة أن دمشق “واحدة من أكثر المدن اتجارا في الدولة العثمانية”، ويتحدث عن مصانعها اليدوية التي صنعت شهرتها، ثم يصف أهلها الذين يتميزون بـ””بياض البشرة وجمال الطلعة مع ملاحة في التكوين”، وهم يجمعون بين “صفاء الذهن” و”الرقة والظرافة والدهاء”.
النص الرابع من عام 1714، وهو كاثوليكي بامتياز، يمتدح فيه بول لوكاس بعثة اليسوعيين ودورها في التربية والتعليم. النص الخامس مغاير تماما، كتبه العالم قسطنطين فرنسوا فولني في عام 1873، وفيه وصف هجوم الجراد وما أحدثه من نكبات، ثم تحدث متعجباً عن ثمار المدينة وقال: “”في دمشق أثمار نواحينا جميعا، فتربتها تصلح لتفاح نورمانديا وخوخ لاتورين ودرّاق باريس، وفيها من المشمش عشرون نوعا، واللوزي منه يرغبه الناس في كل تركيا”. امتزج الرحّالة بالناس وحاول أن يتعرف اليهم عن كثب، وتكلم عن “بياض نساء دمشق وطربلس”، ثم استطرد وقال: “ونحن في هذا نصدّق الأمر بالإعتماد على التواتر، لأن الحجاب الذي يتبرقعن به يحول دون التثبت والملاحظة”. واستغرب لجوء الفتيات إلى “وصفات غريبة تكسبهن البدانة”، لأن “القامات الممشوقة غير مستحبة”. مثل من سبقه من الرحّالة، تقرب فولني من المسيحيين، ورأى أن لغتهم باتت اللغة العربية، وأن السريانية أضحت لغة ميتة، “وإن الموارنة الذين احتفظوا بها في طقوسهم لا يفهم معظمهم منها شيئاً عندما يقرأونها، وهذا هو شأن اللغة اليونانية، فالرهبان والكهنة منشقين (أي أرثوذكساً) كانوا أم كاثوليكيين لا يفهمها منهم إلا القلة”. في الختام، وصف الكاتب دمشق التي تحدّها “من الجهة الشرقية الصحراء، من الغرب والشمال جبال”، وخرج برأي عجيب يقول “إن عدم تسامح الدمشقيين تجاه باقي الأديان يعود خاصة إلى علاقتهم بمكة”، ثم وصف مواكب الحجّاج القادمين مع الجمال والخيول والبغال والبضائع “من كل أنحاء تركيا وحتى من بلاد فارس”.
خيرات وثورات
تلي هذا النص شهادة من طبيب بيطري يُدعى لويس داموازو، سافر إلى الشرق بدافع العلم عام 1833، وسجل مشاهداته في “رحلة في سوريا وعبر الصحراء”. قصد دمشق، ووجد نفسه وسط “بستان واسع ريّان”، واضطر إلى ترك مطيته عند أبوابها، فدخلها ماشياً، واستوقفه حجاب النساء المفروض حتى على بنات الهوى. بعد هذه الشهادة، يأتي نص جوزف فرنسوا ميشو، أشهر الرحّالة الفرنسيين. يقول إن دمشق “هي أكثر مدن الشرق بهجة وروعة”، ويصف طوائفها وعاداتهم المختلفة. بحسب ميشو، كان دخول المدينة محظورا على الدروز، “والشخص الذي يُعرف بأنه درزي يُقطع رأسه إذا ما صودف بالمدينة، لكن كثيراً من الأشخاص المنتمين إلى هذه الملة يدخلون دمشق بصفتهم مسلمين”. “ولا يسمح لأي مسيحي مهما يكن شأنه أن يجتاز أبواب دمشق ممتطيا جواده، أو معتمرا عمامة بيضاء”. يقدّم الرحّالة جدولاً مفصّلاً بأسواق التجارة، ويصف مستشفى المصابين بالأمراض العقلية قبل أن يعود ليتحدث عن الحمّامات والمقاهي حيث يسود الكسل الشرقي.
تأتي شهادة باتيستان بوجولا التي تعود إلى عام 1841، وهي مسيحية في الدرجة الأولى، تتحدث عن موقف عامة مسلمي دمشق الرافض للإصلاحات التي أحدثها محمود الثاني بن عبد الحميد الأول وللقوانين التي فرضها إبرهيم باشا، الحاكم المصري الذي مشى “بوقاحة تفوق وقاحة سيده في استانبول في مسالك التجديد الكافرة”. تلتقي هذه الشهادة مع وصف لامارتين للمدينة وأهلها. رأى الأديب الفرنسي الشهير أن المقاهي “تشكل وسيلة التواصل الوحيدة المتوافرة لسكان دمشق باستثناء المسجد طبعا”، وتحدث عن شغف العامة بالسياسة، وذكر الإنقلابات المتلاحقة، ورأى أن المسلمين مستاؤون “من المساواة التي وطّدها إبرهيم باشا بينهم وبين المسيحيين”، وأضاف: “ثم أن المسيحيين يستغلون فرصة التساهل معهم المتوافرة لهم ليشتموا أعداءهم وينتهكوا عاداتهم مما يذكي نار التعصب بين الأديان”. بعد هذه الشهادة الأدبية، تأتي شهادة جوزف دو استورميل، وهو من الرحّالة المسيحيين المتزمتين. يتحسر على انقسام النصارى، ويقول: “هناك القليل من الترابط بين المسيحيين، فالكاثوليكي يمقت الارثوذكسي، والماروني يكرههما معا، والأرمني يكره الثلاثة معا، وهو لهذا لا يحب السوري بدرجة أكبر”. ثم يتوقف أمام إصلاحات الحاكم المصري، ويجزم بأن الدمشقيين ثاروا ضد هذه الإصلاحات وقاموا “بإطلاق التهديدات واللعنات ضد إبرهيم حامي المسيحيين”، وأقسموا بأن يدفنوه “تحت أنقاض مدينتهم”.
نصل إلى شهادة لويس فيليسيان دو سولسي، وهو عالم بالمسكوكات زار دمشق في منتصف القرن التاسع عشر، ورأى أن بساتينها “قبيحة” وأنها “”مدينة الوحل والتفل من الخارج”، وأن “كل شيء فيها يتداعى”. على العكس، يقدّم حفيد الملك لويس فيليب المعروف باسم الكونت دو باريس، شهادة تعيد إلى الأذهان الصورة المتوارثة. يقول الكاتب إن في دمشق “خيرات كثيرة وثروات كبيرة اجتذبت الرغبات وجلبت الكثير من الكوارث”، ثم يتحدث عن دخوله المسجد الأموي ليلاً بعدما سمح له الباشا بذلك، وختم كلامه: “في دمشق التي تدير ظهرها، كما يقال، للمتوسط، والتي تتيه مياهها في اتجاه الشرق في الصحراء الكبيرة، نجد أنفسنا وسط عالم جديد مليء بالذكريات والأسرار، عالم غريب عن عالمنا ولا يسمع عنه إلا الصدى الخافت”. بعد هذا النص، تنقل كارين صادر نصاً مهماً لرحّالة مجهول الإسم من عام 1868، وفيه حديث مفصل عن الهندسة المعمارية وكلام عن “حضن البطالة الهانئة” التي ينعم بها الدمشقيون. تتبع هذا النص شهادة الرحالة دو فوغ في عام 1872، وفيها الحديث نفسه عن “المنطقة الكثيفة من الخضرة”، و”بساتين الحور والدلب والصفصاف والسرو والأشجار المثمرة”. دخل السائح بيوت أثرياء دمشق من المسلمين والمسيحيين واليهود، وجلس في المقاهي حيث تُروى “قصص الحب والحروب ومآسي الصحراء”.
على خطى دو فوغ، زار دو لابلانش بيوت الأثرياء، ورأى “الفخامة نفسها والإسراف نفسه في الزخرفة فيها كلها”، وقال “إن المعاملة الطيبة التي تلقيناها من اليهود والمحمديين أقنعتني بأنه لولا التعصب الذي يستيقظ بين وقت وآخر لكانت إقامة المسيحيين في دمشق من أمتع ما يكون في كل سوريا”. امتدح دو لابلانش أخلاق شبيبة دمشق المسيحية، وقال إنها بعيدة عن الفساد والفضائح التي تلمّ بشباب فرنسا. زار الرحّالة المسيحي المسجد الأموي بعدما “سقط التعصب الإسلامي ونقصت الحواجز التي تحجب دخول المسجد، وأصبحت زيارته ممكنة بعد الأخذ بعدد من الإحتياطات”، وامتدح في الختام “مغاربة” دمشق، وهم جماعة الأمير عبد القادر الجزائري الذين يحملون لسيدهم “إخلاصا لا يحتاج إلى اثبات، وقد أظهروه في زمن المجازر حين قاموا وبإشارة منه بقمع وإرعاب سفاحي المسيحيين”.
القربان القاتل
تعكس النصوص الأخيرة تعددية المواقف في الربع الأخير من القرن التاسع عشر. نقرأ ثلاث شهادات “كاثوليكية” من جان بوراسيه، كليمان هويارت والكابيتان دو فيل وشارل رينو، وفيها حنين إلى زمن الصليبيين الغابر. في المقابل، يتغنّى شارل رينو بجمال دمشق، ويقول: “تجد في هذه المدينة كل الباحثين عن أسباب المتع الخاصة بالحياة الشرقية”. في ختام جولته، يشير الكاتب باستغراب إلى “القصة التي حدثت مؤخرا لراهب لاتيني تم ذبحه من قبل اليهود في دمشق”. يقدم النص الأخير من هذه المجموعة سرداً لهذه الرواية الشائعة التي يشكك الكثيرون اليوم في صدقيتها. الراوي هنا هو موريس باريس، أديب وسياسي شهير اشتهر بعصبيته القومية الفرنسية. الراهب اللاتيني المذكور هو الأب توماس، وقد “ذُبح من قبل تسعة من اليهود الذين جمعوا بعدها دمه في حوض، ثم صبّوه في زجاجة”. وعندما جاء خادمه إبرهيم عمارة يسأل عنه، “أوثقوه وذبحوه واستنزفوا دمه”، و”أرسلوا الدماء إلى بغداد ليدخل في صنع فطير ممتاز”. يختم موريس باريس هذه الحكاية المرعبة بقوله: “إن مجموع الإجراءات المتعلقة باختفاء الأب توماس وخادمه تعيد إلى ذاكرتنا الطقوس الأكثر إغراقا في القدم للقربان القاتل. إن فظائع غير معقولة ترقد منذ قرون في اعماق الشعوذة” ¶
النهار